مجلة الرسالة/العدد 284/التاريخ في سير أبطاله
→ رد على باحث فاضل | مجلة الرسالة - العدد 284 التاريخ في سير أبطاله [[مؤلف:|]] |
خطوات في الحياة والموت ← |
بتاريخ: 12 - 12 - 1938 |
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .
- 28 -
وكان على الرئيس ورجال حكومته بعد قرار التحرير أن يبذلوا غاية جهدهم ليضعوا حداً لتلك الحرب، فان انتصار أهل الجنوب معناه القضاء على كل شيء، فبه تصبح الحرية مجرد أمنية وتصير الوحدة ضرباً من الوهم. . .
ولقد انقضت تلك السنة الثانية للحرب والجنوبيون أرجح كفه، ففيها أرغم ماكليلان كما رأينا على التراجع وكان من رتشمند عاصمة الجنوب على بضعه أميال، وفيها حلت الهزيمة بالقائد بوب وهو يدافع عن طريق العاصمة الشمالية، وكذلك انتصر الجنوبيون في الميادين الغربية؛ ولقد كان مرد تلك الانتصارات إلى كفاية قوادهم وحسن نظام جنودهم. . .
وفي نهاية تلك السنة حل محل ماكليلان في قيادة الجيش المرابط على نهر بوتوماك، في طريق العاصمة، قائد آخر هو بيرنشيد؛ ولقد برهن هذا القائد الجديد على كفايته في بعض الأعمال الحربية من قبل، ولذلك اتجهت الأنظار إليه في مركزه الجديد، وراح أهل الشمال يعلقون الآمال على تغيير القيادة، أن كان قد ألقى في روعهم أن ما حل بهم من الهزائم فيما سلف إنما يرجع إلى سوء تدبير ماكليلان. . .
ولكن في الجيش عدد كبير من الجند قد آلمهم أن يفارقهم قائدهم أو أن يحال بينهم وبينه على هذا النحو، لذلك لم يحسنوا لقاء القائد الجديد أو لم يشعروا تحت رايته بما كانوا يشعرون تحت راية ماكليلان من حماسة وزحف القائد الجديد على رأس جيش ليحتل فردريك سبرج على الضفة الأخرى للنهر، حيث كان يرابط لي قائد الجنوب العظيم؛ ووقف القائد الشمالي تجاه خصمه يفصل بينهما نهر يوتوماك، وقف ينتظر أن توافيه هناك تلك المعابر المتنقلة التي لا بد له منها ليعبر النهر ولكن المعابر وصلته متأخرة فاستطاع خصمه القوي أن يحصن المرتفعات حول المكان، فلما أخذ يعبر النهر هو وجنوده انصبت عليهم النيران الحامية من كل صوب، ونظر القائد فإذا كثير من جنده حوله صرعى لا يقل قتلاهم عن الجرحى، فكان لا بد أن يتراجع وكانت هزيمة جديدة تضاف إلى سلسلة الهزائم في ذلك العام المشئوم. . .
وحمل الجرحى إلى وشنجطون فضاقت بهم المستشفيات حتى لقد حول عدد كبير من الكنائس وغيرها من الأبنية إلى أمكنة للجرحى، وطافت النذر بالمدينة، وانعقدت في جوها سحب الغم مركومة سوداء، وأخذت الناس غاشية من الحزن ورجفة من الذعر زاغت لهما الأبصار وبلغت القلوب الحناجر. . .
وأخذت الأنظار تتجه إلى البيت الأبيض وليس فيها من معاني الأمل بقدر ما فيها من معاني اللوم والغيظ، وكأنما كانت ترف من حوله أرواح القتلى فتلبسه كآبه وتشيع فيه ما يكرب النفوس ويؤلم الصدر. . .
وأخذ يظهر في العاصمة حزب جديد ترمي أغراضه إلى وضع حد لهذه الحرب بأية وسيلة، وألفى الرئيس نفسه بين تيارين، فهنا من ينادون بوضع حد لتلك المحنة، وهنا من يطلبون إعادة ماكليلان إلى القيادة والسير في الحرب ولكن في سرعة وحمية وإقدام، وغير هؤلاء وهؤلاء قوم يطالبون بتغير القواد والبحث عن وسائل جديدة تكفل النجاح، وقوم آخرون خيل إليهم أن الفرصة قد سنحت لهم لإعلان رأيهم في مسألة تحرير العبيد وكان رأيهم ألا يمس ذلك النظام بما يغير من أصوله. . .
وترامى إلى الناس فضلا عن مزعجات الحرب وشائعاتها أن المجلس التشريعي منقسم بعضه على بعض، وأن مجلس الوزراء نفسه قد شاع الخلاف بين أعضائه، ورأى الناس مما يشاع ويذاع أنهم على حافة الكارثة. . .
ولكن السنديانة ثابتة على رغم العاصفة لا تنال الريح العاتية شيئاً من ثبوت أصلها وسموق فرعها. أو لم يك في الغابة منبتها وكان فيها غذاؤها وريها؟. . . أجل، إن رجلا واحدا هو الذي بقي أمام هذه الشدة رابط الجأش صارم العزم قوي الإيمان، وذلك هو الرجل الذي ألقت عليه الأقدار عبء قومه دون غيره من الرجال فكانت كأنما اختارته عن بينة مما تبيت وتدبر!
وقف ابراهام عزيزاً لا يهون، صلبا لا يلين، بصيرا لا يطيش حلمه، أميناً لا يخون العهد الذي قطعه على نفسه، مؤمنا لن يقعد حتى يتم رسالته أو يموت. . . وكان موقف الرئيس هذا هو كل ما بقي للقضية من عناصر القوة. . . ولكن أية قوة لعمري هي أعظم وأبقى من تلك القوة؟ ألا أن الظروف التي بالغت في قسوتها على الاتحاد وأنصاره قد عوضتهم من جهة أخرى خير العوض بأن جعلت على رأسهم ذلك الرجل العظيم. . .
وليت شعري ماذا كان عسيا أن يحدث من أول الأمر لو لم يكن على رأس البلاد هذا الذي درج من بين أدغالها؟ بل ماذا كان عسيا أن يحدث في هذه الآونة الدقيقة التي لم يكن للبلاد فيها من عاصم إلا الصبر كأعظم ما يكون الصبر؟ وأي صبر هو أشد وأبلغ من صبر ذلك الطود الراسخ الأشم؟
وكان من قواد الحرب يومئذ قائد يدعى هوكر وهو في المرتبة الثانية من بعد بيرتسيد، راح في ذلك الوقت يذيع في الجند أن البلاد أشد ما تكون حاجة إلى ديكتاتور يقضي على المنازعات ويرغم الأحزاب أن تحبس هذرها وتدفن خلافها، وأن الجيش لن يقوده إلى النصر إلا مثل ذلك الرجل الذي يقبض بيد قوية على أزمة الأمور في الدولة وفي الميادين جميعاً!. . . ولقد ذاعت أفكار هوكر حتى لقد اجترأ ضابط كبير أن يعلن (أن الجيش وعلى رأسه ماك الصغير يستطيع أن يطهر المجلس التشريعي والبيت الأبيض). . . قالها من غير تحرج وإن كان قد ألقي القبض عليه من أجلها. . .
وكتب لنكولن إلى هوكر يعاتبه على ما يذيع من أفكار ويحذره العاقبة ويعينه قائداً لجيش بوتوماك، ومما جاء في خطابه قوله: (إنك لن تستطيع أنت ولا نابليون - إذا قدر له أن يبعث - أن ترجع بخير من جيش هذه هي روحه. . . ألا حذار من التعجل، حذار من التعجل، ولكن أقدم في نشاط وحمية لا تخبو واكسب لنا النصر)
انتهى العام الثاني بهذه الحرب الهائلة، وقد لاقى الشماليون ما لاقوا من الهزائم، ولقي الرئيس من عنت الظروف والرجال ما لاقى، وحل العام الثالث فلقي الرئيس في مستهله وفود المهنئين بالعام الجديد وباليوم الذي يحل فيه موعد التحرير، والرئيس مشغول بالحرب وما تتطلب من الرجال والمال. . . وهاهو ذا يعلق الآمال على ما عسى أن يفعل هوكر ويسأل ترى ماذا سيكون نصيب القضية في هذا العام
وزار الرئيس ميدان القتال على نهر بوتوماك وقضى هناك أسبوعاً يشرف بنفسه على الجيش ثم عاد إلى العاصمة يمني نفسه بالعوز الذي يضع حداً لهذا القلق الذي تزايد حتى عم الرجال جميعاً
وتحرك جيش بوتوماك في إبريل من تلك السنة ولكنه ما لبث أن هزم هزيمة منكرة في شانزلورزفيل، بعد أن أبلى في المعركة بلاء حسناً أول الأمر. . . ثم انقطعت أخبار الجيش عن العاصمة بعد الهزيمة حتى بات الناس في حيرة شديدة. . . ورضي لنكولن من الغنيمة بالإياب، فكان يمني نفسه أن يعود الجيش إلى موقفه الأول فيمنع الطريق إلى العاصمة. . . وأخيراً وصلته رسالة من القيادة أن الجيش قد عاد إلى موضعه، ولقد تسلمها الرئيس وقرأها فتندت جفونه، وهو يقول لمن حوله من أصحابه: ماذا عسى أن يقول الشعب؟ ماذا عسى أن يقول الشعب؟ واشتد به الغم حتى ما يفلح كلام في الترفيه عنه. . .
وركب الرئيس وجماعة من صحبه زورقاً بخارياً إلى حيث يرابط الجيش، فاستطلع واستفهم القائد عن سبب الهزيمة ثم رجع إلى المدينة وقد عقد النية على أمر. . . أعلن الرئيس ما يشبه الأحكام العرفية، فحد من حرية الصحافة ومن حرية القول، وأنذر من يعمل على عرقلة قضية الاتحاد أنه سوف يقدم إلى المحاكم العسكرية لتنظر في أمره، ولم يعبأ الرئيس فيما فعل بالنقد الشديد يوجه إليه من كل جانب، فلقد كان مستنداً إلى أحكام الدستور الذي يخول له أن يتخذ عند الخطر ما تتطلبه مصالح البلاد من الأحكام
وحل الورق محل الذهب والفضة في المعاملة إذ كانت الحكومة في حاجة إلى المال لتنفق منه على هذه الحرب الضروس، ولقد التجأت من أجلها إلى القرض. . . وعمت الضائقة حتى شملت الناس جميعاً وهكذا ظهر للناس أن هذا العام الجديد أشد هلعاً مما سبقه
ولكن هذه الشدة لم تأت بالغرض منها، لقد وجد أعداء الحرب وأعداء القضية فيها فرصة لنشر آرائهم، وسرعان ما تألفت في نواح كثيرة من البلاد جمعيات سرية تعمل على مقاومة الرئيس وحكومته بكل ما يمكن من الوسائل وجهر فريق من ذوي الرأي والمكانة بمقاومتهم هذه السياسة ومن هؤلاء وَلندنجهام وهو نائب عن أهايو في المجلس التشريعي. . ولقد أخذ هذا الرجل يعمل في نشاط وقوة على معارضة كل مشروع في المجلس يراد به نصرة قضية الحرب، وفي خارج المجلس راح يطلق لسانه في الرئيس بكل فاحش من القول فتارة يسميه (الملك لنكولن) وتارة يسخر من ذلك الرجل الذي يريد (أن يخلق الحب بالقوة، وأن ينمي شعور الإخاء بالحرب) وتطرف ذات مرة فهتف بسقوطه في مجتمع احتشد فيه عدد من الديمقراطيين الذين أعجبوا به
وكان برنسيد يقود الجيش في الجهات التي تقع فيها أهايو مدينة ذلك النائب، ولقد أعلن القائد أن كل شخص يعمل ضد الحرب وقضية الاتحاد جزاؤه أن يقدم إلى محكمة عسكرية لينال عقابه على يديها. . . ورد وَلندجهام على هذا بخطاب حماسي احتشد الناس في تلك الولاية لسماعه ودعا الناس إلى رفض هذا القرار وعصيانه؛ ولم يسع القائد إلا أن يقبض عليه ويسوقه إلى المحكمة العسكرية فقضت بحبسه في أحد الحصون هناك. . .
وارتفعت الأصوات بالاحتجاج على هذا الفعل الذي يتجلى فيه خنق الحرية، فغير لنكولن حكم الحبس بالنفي إلى خارج مناطق النفوذ الشمالي، وأرسل ذلك النائب المتمرد إلى الولايات الجنوبية في حراسة نفر من الجند
تكاثفت السحب واكفهر الجو، ولم يعد يرى الناس بصيصاً من نور الأمل، فيئسوا من النصر، وتحرجت الأمور حتى ما يعرف لنكولن نفسه ماذا يفعل!. . . ألا هل من قائد يكسب معركة واحدة فيعيد الرجاء إلى النفوس، والأمن إلى الخواطر، والعزم إلى القلوب؟
إن هزيمة الشماليين في شانسلو رزفيل كانت أقسى ما لاقوا من المحن، حتى لقد عد مايو وهو الشهر الذي وقعت فيه الهزيمة شر الأيام هولا في تاريخ تلك الحرب الأهلية الكبيرة. . . ولقد كانت خسائر الشماليين في تلك المعركة بعد ما ذاقوا من الهزائم من قبل، مما يثبط الهمم ويحل العزائم بينما خرج منها الجنوبيون ولم يخسروا كثيراً اللهم إلا إذا ذكرنا خسارتهم الفادحة بموت قائدهم جاكسون الذي خر صريعاً من رصاصة طائشة أصابته من يد أحد جنوده. . .
هاهو ذا الرئيس يفكر ويدور بعينه يتلمس القائد الذي يفلح مسعاه بعد أن خابت مساعي القواد. . . ألا من له بهذا القائد؟ من له بهذا القائد؟. . . ولكن أين جرانت؟ أنه هو الرجل، وإن قلب الرئيس ليلتفت إليه في هذه المحنة كأنما يلتفت من إلهام. لقد برهن جرانت على كفايته في بعض المواقع وإن لم تكن بذات بال، وحسبه النصر فيها على أي حال، ولعله لا يتخلف عنه النصر إذا ألقيت على عاتقه القيادة في غيرها من المعارك الكبيرة. . . لقد استطاع أن يستولي على حصني هنري ودونلسن على نهر المسيسبي في فبراير من عام 1862 سنة الكروب والهزائم واستطاع كذلك أن يحمل الجنوبيين في أبريل على التراجع في معركة حامية حدثت في أبريل من تلك السنة
وكان الرئيس لا يعرف جرانت معرفة شخصية، ولكن هاتيك الانتصارات في أوقات عز فيها النصر تنم عن كفاية، وتدل على بطولة، وإن عين الرئيس البصيرة لتستشف من وراء تلك الأخبار الرجل المرجو. . . وإذا فليرسل الرئيس إليه وليعطه الراية ولينتظر النصر على يديه
ولكن بعض الرجال يلقى إلى الرئيس من أنباء ذلك الرجل أنه بابنة العنقود مولع حتى ما يفيق منها إلا قليلا، فاستمع إلى الرئيس وقد هداه قلبه الذي لا يكذبه ودلته بصيرته التي لا تخطئه، استمع إليه يقول لهؤلاء الناس (أرجو أن تدلوني: أي نوع من أنواع الويسكي يشرب ذلك الرجل لأرسل منه دنا لكل قائد من قوادي الآخرين)!
أيقن الرئيس أن سوف تنقشع السحب ويتنفس الناس الصعداء، فلئن لم يكن لهم إلا ثقتهم في رجلهم، لقد امتدت عيناه البصيرتان إلى القائد الذي يكون في ميادين القتال مثل ابراهام في البيت الأبيض، رشيدا لا يزوغ بصره، قويا لا يكل عزمه، ثابتا لا يخف حلمه، حكيما يعرف ما يأخذ مما يدع، جريئا مؤمنا يرى الحياة الحقيقية في أن يموت في سبيل مبدئه. . .
(يتبع)
الخفيف