الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 283/إلى شباب القصصين

مجلة الرسالة/العدد 283/إلى شباب القصصين

مجلة الرسالة - العدد 283
إلى شباب القصصين
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 05 - 12 - 1938


كيف احترفت القصة

قصة السيدة ستورم جيمس

للأستاذ أحمد فتحي

حين كنت في جامعة (كترنج) عام 1914، تقدمت بأطروحة عن (القصة الحديثة في أوربا) علمت أنهم سيكافئونني عليها بدرجة جامعية أخرى فوق الدرجة التي أنا متقدمة لإحرازها، وكان ذلك مدعاة لسروري بعض السرور في ذلك الحين!

وكنت طوال سني دراستي أعلق آمالي باحترافي في التدريس، وكان الأساتذة يعلمون هذه الآمال ويرعونها. ولست أدري ماذا حدث بعد فراغي من الدراسة ووداعي للجامعة؟ فقد تنكر عقلي لكل تلك الآمال العريقة! وانقلب كالوحش وقع وشيكا في الشرك! وتملكته قوة جامحة غضبي. . . وحين ألتفت إلى الوراء أراني وقد كنت بلهاء صغيرة غير مؤذية، لا تدري ماذا عساها أن تصنع، ولا تكاد تتبين سبيلها السوي في الحياة!

وتحت تأثير ظنوني الكبار بضرورات حياة يكفلها رزق ضيق لا يزيد على خمسين شلناً في الأسبوع، التحقت بنادي القراء، وكانت لي في تلك الأيام الطويلة فسحة من الوقت أنفقها في القراءة. ولأول مرة كنت أقرأ وأقرأ غير مدفوعة بإعداد أطروحة للجامعة! ولقد كان كل شيء أقرأه يتيح لي اجترار بعض ما تخزنه حافظتي. على أن القصص قلما كانت تشبع نوازع نفسي. ولقد تناولت أجزاء كتاب (تاريخ النهضة الإيطالية) واحداً فواحداً، وعشتُ بينها في تأثر وحبور لا يوصف. وعلى الرغم من جهلي بالقيمة العلمية التي يمتاز بها ذلك الكتاب، فإني مدينة له بدين لن أقوم بوفائه ما حييت!

وبعد تلك القراءات الكثيرة، وفي تلك الأيام التي لم أكن أجد فيها الراحة الكافية لاستئناف القراءة، كنت أكتب وحدي. . . وكذلك بدأت تسجيل فصول قصتي في بطء. وإني لأود الآن أن استدعي ذكريات حالتي النفسية والعقلية حين بدأت كتابة القصة، فلست أدري ماذا كان يروق لي أن اصنع! ومن المحقق أنني لم أكن أتوق إلى تأليف قصة، ولا ابتكار شخصيات؛ وفي الكناشة الضخمة - التي أحتفظ بها وحدها - صفحتان أو ثلاث تحو مذكرات مبعثرة متناثرة كنت قد وضعتها نواة لقصتي الأولى؛ وإن معظمها ليبدو لي الآن بلا معنى كما تحوى كذلك مذكرات قصيرة جداً عن شخصيات القصة؛ التي ألاحظ فيها شيئاً واحداً فريداً، هو أنني لم أكن قد وضعت لها فكرة تامة شاملة. . . على أن بعض هذه المذكرات كان ينتظم النظريات الحيوية التي كنت أومن بها في ذلك العهد

لا شيء يبعثني على تصفح هذه القصة الأولى لأرى كيف ائتلفت من تلك المذكرات المتناثرة فصول كتاب كامل ومن الواضح أن رغبة الطبيعة في أن تجعل مني كاتبة قصصية، لم تكن أعظم من رغبة الجامعة في أن تجعل مني مدرسة فيها! فليس في تلك القصة الأولى ثمة فكرة ناضجة؛ بل بضعة مناظر مترابطة. وليس فيها شخصيات؛ بل عظام جافة في وادي عقلي لأفكار مجتمعة لي من سني قراءتي السقيمة، مقتبسة من (العصر الحديث) متذاكرة من أحاديث التلاميذ. ولا أستثني من ذلك سوى نسمات سرت إلى قصتي من سماء الوحي. . .! إذ حدث أن تحرر ذهني مرة من صلته بأفكار الناس، متخذاً سبيله بين آمال الحرية الطليقة، مما سأذكره مفصلاً فيما بعد!

وشبت الحرب فرحت إلى (ليفربول) وكان أن أحكم على الشرك الذي ظننتني قد نجوت من أسره! إذ تزوجت وغدوت ربة بيت لم أكن أرجع عن بعض أعماله إلا وقد أنجزت كل أجزائه؛ وبقدر بغضي للخدمة أصبحت أكثر أمانة من أية سيدة يمكن كراؤها لذلك. وما كان في وسعي أن أقرأ أو أكتب في غرفة غير وثيرة إلي أبعد حد. . .! وقد كتبت النصف الباقي من قصتي في فترات الراحة التي كنت أخلو فيها من عناء الأعمال المنزلية كالطبخ والغسل وتنظيف الأثاث وغير ذلك. ولم أكن قد أنجزت هذا النصف الباقي حين وضعت طفلي في منتصف عام 1915 في (هويتبي). وبعد ذلك أهملت القصة على ركن من رف ظلت به خمسة شهور في برد من الغبار!

وفي ديسمبر عدت ثانية إلى (هويتبي) ومعي طفلي وقصتي التي أقحمتها حقيبة ثيابي في الدقيقة الأخيرة ساعة الرحيل. إذ خطر لي أنني سأكون في سعة من الوقت تهيئ لي فرصة الكتابة. وكانت الحرب حينذاك مستأثرة بأصدقائي. . . محيطة كل شيء بالمظان من كل جانب. غير أن ذهني كان صغيراً جداً وكذلك كانت سني، فلم أكن أتطلع إلى المستقبل بغير آمالي وحدها. . .

سرت عدوى (السعال) من شقيقتي إلى طفلي وهو في شهره السادس. غير أن إصابته لم تكن حادة عنيفة. على أنه كان يستيقظ مرات في الليل ليسعل. وذات ليلة كنت راكعة إلى جوار مهده أعني به وهو نائم، وأتلهى بإضافة شيء إلى قصتي. وكنت ساعتئذ أكثر ما أكون تشتت بال ورهافة سمع. فحدث أن تمثل لي شاب سميته من فوري (بوسكت)؛ بلغ من شدة تصوري وجوده أن حسبته حقيقة ماثلة لا خيالاً طارقاً؛ بل لقد خفت أن يكون من لصوص الليل، غير أني ما لبثت أن هدأت إلى هدوئه، فقد بدا لي - هو نفسه - خائفاً! بوجهه المستدير، وقسماته الغامضة المعقدة. كما تبينت للوهلة الأولى نواحي ضعفه، وغير ذلك من طباعه وعاداته! واتفق أن استيقظ الطفل ليسعل فجاءة؛ فأقبلت عليه وما زلت به أطيب خاطره حتى عاوده النوم، ثم رجعت إلى رجل خيالي (بوسكت) الذي لم يكن فارق ذهني بعد. . .! وظللت أستوحيه ما أكتب حتى صرخ الألم في ركبتي وأنا راكعة عليهما؛ وحتى تقلصت عضلات معصمي، وسرى البرد إلى جسدي فاقتادني راغمة إلى الفراش!

ولم أنجز الكتاب كله في ذلك الحين أيضاً. . . ولكني أضفت إليه بعض العبارات في أيامي الأخيرة في (هويتبي). وحدث ذات مساء أن أطفأت الأنوار الكهربائية إيذاناً بغارة جوية من مناطيد (زبلن). فالتمست في الظلام ورقة صغيرة جعلت أكتب عليها قطعة شعرية من القصة - إلى جانب أمي - على ضوء شمعة؛ وحين فرغت من نظمها كانت الأنوار قد عادت. فأخذت أقرأ الشعر لأمي، وأنا شديدة الأيمان بأنه شعر رائع، وهي تزعم كذلك أنني شاعرة مطبوعة!.

وفرغت من الكتاب عام 1916 في (كترنج) ولا أستطيع الآن أن أستدعي الكثير من الذكريات عن ذلك العهد. غير أني كنت ولم أزل قليلة الفراغ كثيرة المتاعب. وعلى أي حال فقد انتهيت من كتابة القصة، ثم وقعتها على آلة كتابية عتيقة بالية، فاستغرق ذلك حيناً. . .

وحين رحلت عن (ليفربول) في ربيع 1917، كان معي الكتاب مكتوباً بأحرف الآلة الكاتبة، بعد أن رفضه أحد الناشرين لعله (دكورث) وقد أرسلته من (ريدنج) إلى ناشر آخر. ومع أن الكتابة القصصية لم تكن تروق لي كثيراً، فقد لبثت أرتقب ماذا يقدر لكتابي الأول، الذي هو محاولتي القصصية الأولى! وجه إلى المستر (فيشر آنون) الناشر المعروف - الدعوة للقائه، والحق أنني اضطربت لتلك الدعوة، وتهيبت ذلك اللقاء. وقبل أن تتم المقابلة آثرت أن أمر بالرجل الذي يقرأ للمستر (آنون) ما يراد نشره، وقد تلطف الرجل معي ورق حديثه، ولا أحسبه قد أشار علي بإحراق قصتي! ثم لقيت المستر (آنون) نفسه في غرفة مكتبه الأنيقة. وبعد حديث قصير اقترح علي أن اقدم إليه أعمالي القصصية (الستة) التالية! وما كان لي غير إقرار هذه الصفقة المقترحة من جانب واحد! غير أن فكرة كتابة قصة بعد أخرى - بدأت تفزعني. وحين هممت بالانصراف من حضرته شيعني إلى الباب، كأي جنتلمان مهذب رقيق الحاشية، وفي اللحظة الأخيرة قدم إلي نسخة من قصة (طريق النسر) مصحوبة بقوله (إني أعطيك هذا الكتاب لتقرئيه، ولترى كيف ينبغي أن تكتب القصة)

ومضى هذا الحادث عنيفاً. وتركت القصة في مكان لا أذكره، وافتقدتها فلم أعثر عليها إلا بعد حين، فأرسلتها إلى دار (كونستيبل) للنشر، وكنت في بعض ريف (هامشتر) حينذاك.

وتلقيت من (كونستبل) أنهم راضون عن القصة، راغبون في لقاء المؤلفة، بيد أني كنت قد زهدت في هذا اللقاء، بعد ما حدث في لقائي للناشر السابق الذي أراد أن يعطيني درساً في الفن على يدي بعض كتبه! ومن الجهة الأخرى - لم أكن أود إنفاق أجر السكة الحديدية في سفرات لا أريدها! وكذلك كتبت إلى (كونستبل) أستفهم عما إذا كانوا جادين في رغبتهم نشر قصتي؟

وأعتقد أنني سررت حين علمت أن كتابي سيطبع وينشر حقاً! والواقع أني لا أكاد أذكر شيئاً عن ذلك، ولكني أرجح أني تلقيت الأمر في قلة اكتراث. وإن ذاكرتي لتختزن القليل من مشهد جلوسي في غرفة بمنزل (ميخائيل سادلر) في لندن، وأني لأتصور الغرفة الآن وطولها ميل أو أكثر، كما أتصورني وأنا أعبر طولها ذاك حابية على كفي وركبتيّ!. وبعد أن تناولنا الطعام تناولت قلمي فأجريته فوق بعض عبارات من القصة زعم صاحبنا أنها غير ملائمة. ولقد ساعد على اقتناعي برأيه السيئ فيها زهدي في احتراف القصة. كما أنني تركته يستبعد كلمات من العنوان نفسه

وبعد أن تم التعاقد بيني وبين دار (كونستيبل) للنشر بأسابيع فجأتني حاجة عنيفة إلى المال، فكتبت إليهم أطلب نقوداً. في حين أنني لم أكن أعلم ماذا صنعوا بعد إتمام التعاقد؟ غير أنني كنت متأثرة بإحساس باطني جديد يخيل إلي أن تصرفي ذاك لم يكن أكثر من مشاكسة لا بأس بها! ثم إني قلت لنفسي إنهم قاموا بنشر كتابي. . . ولا بد أن يكون شيئاً ما؟. ولم يكن يتطرق إلى ذهني أن قبول نشر هذا الكتاب لم يكن أكثر من رغبة من الناشر في مساعدتي!. . .

وإن أي إنسان يتوهم أن الناشرين - عدا واحد أو اثنين - قوم غلاظ القلوب - لخليق أن ينكس رأسه خجلاً، فقد تلقيت بعد خطابي عشرة جنيهات، ومعنى ذلك أن دار (كونستيبل) للنشر قد زادت خسارتها مقدار هذه الجنيهات العشرة!!

وظهرت القصة في أوائل عام 1919، وعبثاً أحاول تذكر شعوري في ذلك الحين، وأنا شابة صغيرة السن خاملة الذكر. وكل ما أذكره أنني لم أصادف في الأيام الأولى بعد ظهورها أحداً من الأصدقاء أستطيع التحدث إليه في شأنها. ولعل هذا لم يكن يعنيني كثيراً. . .

ولم يسرني كثيراً - في جهالتي - أن الصحافة قد احتفت بقصتي الأولى. وهي على أي حال لم تظفر بإطراء مسرف. ولكنها لقيت اهتماماً ملحوظاً. ولقد احتفظت حيناً طويلاً بما كتب بين المدح والقدح؛ احتفظت بهذه الكتابات أربع سنين أو خمساً، في حين أنني كنت أحرق كل شيء من الخطابات والصحف وسواها، وكذلك أصنع الآن، غير أنه يندر أن أحفل بما تكتبه الصحف عني وعن كتبي. ولن أترك بعد موتي قدراً كبيراً من الأوراق، فإني أمزق خطاباتي بعد تحرير جوابها إلى أصحابها، كما أمزق المذكرات التي أصنعها لموضوعات كتبي، وكذلك اصنع بمفكراتي الخاصة. كما أني أميط كل أثر لي عن وجه هذه الأرض التي سوف أرحل عنها جِدًّ آسفة. . .!!

ومن المحقق أنه يكون من بواعث ارتياحي أن أحرق كل نسخة أعثر بها من قصتي الأولى هذه، وقد نسيت أن أذكر أن اسمها كان (الوعاء يغلي). . . ومن دواعي اغتباطي أنني موقنة من أنها لم تكن عملاً أدبياً يستحق أن يباع للقراء! ومن حسن الحظ أن حقوق الطبع بيدي، فلن يتاح لهذه القصة أن يعاد طبعها أبداً. . . إلا إذا عقدت مسابقة في أردأ القصص! والحق أنها كانت رديئة إلى حد لا يصدقه إنسان. ولكنها قد لا تكون أردأ ما كتبت أنا! وإن رداءتها المنقطعة النظير لتثبت أني لم أكن أبداً قصصية موهوبة. ولكن فيها درساً لا ينساه كاتب مبتدئ لم ينشأ في أسرة يتكنفها جو أدبي. فلم يكن بجواري حين كنت أكتب قصتي الأولى إنسان واحد يحبوني بنصح أو تحذير. كذلك لم يكن لي من ذوق طبيعي في الأدب، غير أنه كان بي جوع شديد إلى المعرفة، شجع في أشنع أغلاطي كمؤلفة!. .

كان رأسي بمثابة (الخلية) تضم (عسل) الرجال الآخرين وكانت العلة في ذلك هي تلك البرامج الجامعية التي تنتهي بمثلي إلى نيل درجة علمية في اللغة وآدابها. فلقد لبثت ثلاث سنوات أقرأ وأقرأ وأقرأ. . . من غير تمييز! ومن غير أن أجد جواً صالحاً لكي أنضح بما استوعبت في قراءاتي المتعاقبة. وخلفت الجامعة بذهن تعصف به الأصداء! من غير أن تتهذب ملكة النقد الطبيعية في ذهني. والحقيقة أن كاتباً موهوباً لم يكن ليستطيع أن ينتج بمثل ما قدر لي من سهولة الإنتاج! فان لي لمقدرة على التفكير المنظم والصبر؛ ولكنها مقدرة قصيرة النظر! تذكرني دائماً بحصان ركبته مرة واحدة في حياتي، إحدى عينيه تالفة، ويتوهم أنه يستطيع اجتياز أي حاجز!!

وبالرغم من نسياني كل شيء عن قصتي الأولى يخيل إلي أنه كانت تبدو فيها مهارة فنية خشنة غير صقيلة؛ كانت لي في تلك الأيام ولم يتناولها أحد من الناشرين أو الصحافيين بحسبان أنها كتاب (شاب) ناشئ، مما يجعلني أعتقد أنها كانت عملا ضئيلا جدا، لا يمكن أن يجد مثله اليوم سبيلاً إلى النشر. ولو أن ناشراً أخرجه للناس لما لقي شيئاً من عناية النقد ولا التفات الصحافة

على أن الكاتب المبتدئ الآن قد اصبح عليه أن يقتحم ميداناً شديد الزحام؛ يكون حسن الحظ لو لم يختنق فيه بعد بضع دقائق!. فإذا وفق إلى استرعاء الأنظار كان خليقاً أن يأمل في نقد ينتفع ببعضه. وهذا الزحام الشديد لا يمكن أن ينكره كاتب ناشئ قليل الأنصار. وإن خير آماله ليجب أن يعقد بعقد صداقات نافعة في الجو الأدبي بأسرع ما يستطيع. فمثل هذه الصداقات خليق أن ينقذه من إضاعة وقته سدى مشتغلا بكتابة قصة لا يبلغ من أمرها أكثر من أن يسمع لأجلها بضع كلمات تافهة تلقى بعدها وهي ترسب آخر الأمر. ومتى علم ذلك الكاتب الناشئ كان جديراً ألا يرفض المشورة بعقد مثل هذه الصداقات محتجاً أن فيها تجنياً على روحه الفني ووقته. وعليه أن يذكر دائماً أنه ينبغي له اختيار أضأل الضررين. . .! ولقد أصبح رزق مثله في ذلك الميدان وكثير غيره، أعسر مما أتيح لي منذ عشرين سنة. فان كسب المال غداً أقل يسراً مما كان عليه في ذلك الحين. ومع هذا فماذا ربحت؟ عشرة جنيهات في مقابل عمل ثلاث سنين!

بل إن هذا المبلغ لم أكسبه بالطريق العادي في الواقع. . .

وإن لآسفة حتى الآن على أني لم أحترف التدريس!

ستورم جيمس