مجلة الرسالة/العدد 282/الكتب
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 282 الكتب [[مؤلف:|]] |
المسرح والسينما ← |
بتاريخ: 28 - 11 - 1938 |
أفاعي الفردوس
ديوان الأستاذ الياس أبو شبكة
بقلم الأستاذ فليكس فارس
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
وإلى الشعراء الآن نماذج من قصائد الديوان الذي أردنا أن نرسم مصغراً عنه ببعض خطوطه:
شمشون:
هي قصيدة رمز فيها الكاتب إلى كل جبار في الحياة تصرعه خدعة الضعفاء، وإلى كل شاعر تلعب الغواية بحياته دون أن تضلل قوة إلهامه فينتقم بهذا الإلهام من نفسه ومن أعدائها.
أسمع الشاعر يخاطب دليلة ليصورها بقوله الرائع:
ملقَّيه ففي أشعة عيني ... ك صباحُ الهدى وليل القبور
وعلى ثغرك الجميل ثمارٌ ... حجبت شهوة الردى في العصير
ملقَّيه فبين نهديك غامت ... هوة الموت في الفراش الوثير
هوة أطلعت جهنمُ منها ... شهواتٍ تفجرت في الصدور
ملقَّيه ففي ملاغمك الحمر ... مساحيق معدن مصهور
يسرب السم من شفافتها الح ... رى إلى ملبس الردى في الثغور
ثم عد فاسمع كيف يصف دليلة عندما جاءت ترقص أمام شمشون وهو مربوط إلى عمد الهيكل وقد دار به عداته الساخرون.
وإذا قينةٌ يخالجها السكر ... على مشهد من الجمهور
فتثنت تضاجع الجوَّ نشوى ... من تلوى قوامها المحرور
رقصةُ الموت يا دليلة هذى ... أم تُراها اختلاجة في الخمور
ثم اسمعه يتكلم بلسان شمشون: بددي يا زوابع النار أعدا ... ء إلهي ويا جهنم ثوري
وتنفس يا موقد الثأر في صد ... ري وأغرق نسلي الربا في سعيري
وامصصي يا دليلة الخبث من قل ... بي فكم مرة مصصت قشوري
في هيكل الشهوات
في أحد الأبيات الأولى من هذه القصيدة ينجلي للقارئ معنى أفاعي الفردوس وهو العنوان الذي اختاره الشاعر لديوانه، قال عن النساء:
فهن من حية الفردوس أمزجة ... يثور فيهن من أعقابها عصبُ
ثم يعود فيخاطب إحدى أخوات الشقاء قائلاً:
أخاف في الليل من طيف يسيل على ... موجات عينيك حيناً ثم يغترب
طيف من الشهوة الحمراء تغزله ... خمرُ الليالي وفي أعماقه العطبُ
ووجهك الشاحب الجذَّاب ترهبني ... ألوانه يتشهى فوقها اللهب
ما زلت تغتصبين الليل في جَهَد ... حتى تجمد في أجفانك التعب
وما السواد الذي في محجريك بدا ... إلا بقايا من الأحشاء تغتصب
سدوم
قصيدة تعد بحق من أروع منظوم أبي شبكة وكنت ترجمتها كلها إلى اللغة الفرنسية فنشرتها مجلة (لاسيمين) فقدرها كثيرون من الأجانب قدرها فقالوا لي: إن لهذا الشعر طابعاً مستقلاً فهو وإن ضاهى شعر (بودلير) فإنه لا يمت إليه بسبب. وقلما يشهد الأجانب بروعة لنا دون أن يرجعوها إلى أسلوب من أساليب إلهامهم:
في صدرك المحموم كبريت إذا ... لعبت به الشهوات فجر أضلعه
في صدرك الدامي مناجم للخنى ... أورثِتها نارَ الزراري المزمعه
فبكل صقع من ضلوعك قسمة ... خُلَع على لهب الشباب موزعه
ثم يتحول الشاعر بعد وصف رائع لسدوم القديمة مخاطباً مدينة هذا الزمان قائلاً:
اسدوم هذا العصر لن تتحجى ... فبوجه أمك ما برحت مقنعه
كانت منكرة كوجهك عندما ... هبت عليها من جهنم زوبعه قذفتك صحراءُ الزنى بحضارة ... ثكلى مشوهة الوجوه مفجعه
بؤرٌ مسترة الفساد بخدعة ... نكراَء بالخز الشهي مرقعه
ويغير الشاعر في القصيدة نفسها الوزن والقافية مخاطباً هذه المدنية:
أسليلة الفحشاء نارك في دمي ... فتضرمي ما شئت أن تنضرمي
أنا لست أخشى من جهنم جذوة ... ما دام جسمي يا سدوم جهنمي
طوفت بي ميتاً بأروقة اللظى ... فحملت تابوتي وسرت بمأتمي
وعصبتُ بالشبق المجمَّر جبهتي ... فرفعتها في عصري المتهكمِ
علمتني لغةَ النبوة عندما ... فجَّرت ألغام السموم بمنجمي
مهلاً كلانا يا سدومُ مسلحٌ ... فلظاك في جسمي وثأري في فمي
الشهوة الحمراء
أنا اتحدنا ليوم واحد وغدا ... يأتي فيخلفني قوم بحبهم
سيعشقونك يوماً يغنمون به ... ما غدرت منك ساعاتي لليلهم
وسوف تنسين (يا أخت الدما) فمهم ... كما نسيتِ على رَغم الدماء فمي
عشرون قلبا شربت الحب من دمها ... وما شبعت ولم يشبعك شربُ دمي
إذن فسوف تظلُّ النفس جائعةَ ... حتى يجف دم في غفلها النهم
حديث في الكوخ
أيها الفجر يا حبيب الشقيين ... ويا مشعل الهوى والشباب
أيها الكوخ والعيون سكارى ... بخمور لم تمتزج بعذاب
لا تجسي قلبي فلم يبق فيه ... من بناء الماضي سوى أخشاب
وانصرفنا وقبل أن أتواري ... عن جمال الشاطئ وعن ساكنيه
قلت للمرأة التي آلمتني ... حين قالت الله ما يُشقيه
لي قلب أفرغته فاتركيه ... في الهوى فارغاً ولا تملإيه
الطرح
وهي آخر قصائد الديوان أسمع الشاعر يقول بلسان والد الجنين الساقط ثمرة متهرئة عن شجرة الحب:
حملت أملك القنوط إلى وجهي ... وكنت الرجاء في أعماقي
جئت في سحنة المسوخ فِلمْ ... حطمت حلماً نما على أحداقي
ألأني بذلت حتى ولم أطعمك ... منه سوت الفتات الباقي؟
ثم يهتف بلسان الحياة قائلاً:
أهلك المائتون في رحمي الحب ... وسمّوا الزلال في ترياقي
فطرحت الأقزام في أسواقي ... عِبَراً للدمار في العشاق
ورأيت الفردوس لفت أفاعيه ... غصوني وكمشت أوراقي
وتراءت لي الطبيعة دنيا ... من كمال نسيقة الأذواق
فرأيت الجماد شبعان حباً ... كل صدر عليه ثدي ساقي
إن في الحب صورة الله لكن ... أين في الخلق صورة الخلاق؟
هذا هو الشعر يتغلغل في تفكيرك وشعورك وذوقك في آن واحد إلى أعماقها جميعاً؛ وكل شعر لا يتحد ثالوث الحكمة والشعور والموسيقى فيه إنما هو محاولة فاشلة
غير أن الشاعر الذي يريد أن يحكم موسيقى بيانه في الدماغ المفكر والحس المرهف تحكماً يتوازى سلطانه فيهما لا يوفق إلى إيجاد الوحدة في كل بيت من أبياته. إن هذه الوحدة وهذا الاتساق والتشابه من حيث الصياغة في كل أجزاء القصيدة إنما يوفق إليها من نظم الحكمة آيات لها ترتيبها وتسلسلها أو من نظم دموعاً وابتسامات وحقداً ونزوات لأنه لا ينقر قيثارته إلا بمضراب واحد، أما من يستنطق أوتاره بهدوء التفكير وثورة العواطف في آن واحد فليس لك أن تطالبه إلا بالاتساق في الصورة الكلمة التي يقدمها لك لأنه يجمع على لوحته بين المتنافرات من الخطوط والألوان
إن شعر أبو شبكة يوقفك منه تجاه فيلسوف ومتشرع ومؤمن وكافر وطاهر وعاهر، ويوفقك من قصائده تجاه عراك بين الفكر والشعور والبيان، فإذا ما شهدت هذه العناصر الثلاثة تتماشى على وتيرة واحدة في كثير من أجزاء قصائده فانك لترى أحدها يسطو في أماكن كثيرة على رفيقته فيخضعهما لسلطانه
إن (أبو شبكة) لا يهمه في فنه إلا أن يصور لك منعكسات الكون على نفسه، ونفسه تتنازعها خلجات قلبه وخاطرات دماغه، فهو يحس بأن الحياة المضللة قد أفسدت الإنسان، ويشعر أن في الإنسان نسمة تتململ بين ما حبكت الأجيال حولها من قيود فيصور لك هذا العراك العنيف بين ما هو كائن وما يجب أن يكون. وفي لوحات أبو شبكة من دقة التصوير ما لا تراه إلا نادراً في لوحات الأقدمين والمعاصرين من شعرائنا، لأن ريشته تجود على القبح من ألوانها بقدر ما تجود على الجمال، فهو لا ينزلق بها على الشر انزلاقاً بل يثبتها في مجالها حتى ينشبها في أقصر الحقيقة فيأتيك بأروع ما يصور القبح ويصف الشرور والضلال
فليكس فارس