مجلة الرسالة/العدد 282/إصلاح الصحافة
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 282 إصلاح الصحافة [[مؤلف:|]] |
انحني ← |
بتاريخ: 28 - 11 - 1938 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
من وعود خطاب العرش الأخير أن (تعني الحكومة بما يرفع مستوى الصحافة ويحفظ كرامتها، ويكفل في حدود القانون حريتها، وأن تعرض على البرلمان مشروعاً لهيئة الصحافة ينظم ما لها ولرجالها من حقوق وامتياز، وما عليهم من تكاليف وواجبات)
وهذا عمل واجب، ولكن كيف يكون؟
إصلاح الصحافة والصحفيين أمر محمود مطلوب، ولكن من هم الصحفيون قبل كل شيء؟
هذه أول صعوبة في المسألة، لأن إنشاء هيئة للصحفيين ليس كإنشاء هيئة للمحامين أو للأطباء أو للمهندسين؛ إذ كل طائفة من هذه الطوائف لها شروط محدودة ومؤهلات معلومة لا يقع الخلاف عليها. أما الصحفيون فليس من السهل تعريف الصحفي الذي يجب أن يحسب منهم على وجه يبطل فيه الخلاف
فهل الصحفي هو مالك الصحيفة؟ أو هو المحرر في مكتبها؟ أو هو المراسل لها من الخارج، أو هو مدير أعمالها؟ أو هو الكاتب أو المحصل أو الوكيل أو متعهد البيع الذي يتصل بها؟
كل أولئك يعملون في الصحافة وينتظمون تحت عنوانها، وليست مصالحهم مع ذلك متفقات في جميع الأحوال؛ فما هو من مصلحة مالك الصحيفة قد يكون إجحافاً بمحرريها وموظفيها، وما هو من مصلحة المحررين قد يكون إجحافاً بمالكها أو متعهد بيعها، وقد تتسع المشكلة بين الفريقين حتى تتناول المشكلة (الأبدية) القائمة بين العمال وأصحاب الأموال
فأما إذا قلنا إن الصحفي هو الكاتب أو المشرف على مادة الكتابة فما هو شرط الكاتب في صحيفة يومية؟ وما هو شرط الكاتب في مجلة من المجلات على اختلاف أغراض هذه المجلات؟
قد تكون الصحيفة قانونية فهي في حاجة إلى كفاءة محام، أو طبية فهي في حاجة إلى كفاءة طبيب، أو مدرسية فهي في حاجة إلى كفاءة معلم. وقس على ذلك سائر الصناعات والموضوعات بل ربما كانت كفاءة الطبيب حين يكتب في صحيفة طبية ألزم من كفاءة الطبيب حين يعالج المرض في مستشفاه، لأن الكفاءة في الرجل الذي ينشر علمه على الألوف ألزم منها في الرجل الذي يقصد أفراد مسؤولون عن الثقة به والذهاب إليه. وإذا سهل الاتفاق على صفة المحرر الذي يتصدى للكتابة الطبية أو الفقهية، فما هي الصفة التي تشترط في السياسي وفي الأديب؟
لا نقول إن حصر المرشحين للكتابة في الموضوعات الفقهية أمر ميسور مأمون العواقب، فان المتفق عليه أن طائفة من رؤساء المذاهب القانونية لم يكونوا من أهل القانون في التربية والنشأة، وإن كان هذا الحكم لا يسري على كبار الشراح والمفسرين
ولكننا نريد أن نقول إن الاتفاق ميسور على الصفة الواجبة في الفقيه، غير ميسور على الصفة الواجبة في السياسي والأديب
فثلاثة من كبار ساسة العالم الآن كان أحدهم نقاشاً والثاني حداداً والثالث ابن أسكاف أخفق في صناعة أبيه
وغير هؤلاء وزراء ورؤساء وزارات كان منهم الاقتصادي والمحامي والمعلم والصانع الصغير
فإذا كانت هذه شروط قادة الأمم فما هي شروط الكاتب في صحيفة سياسية؟ وما هي شروط الكاتب في صحيفة أدبية؟
على أننا ندع الكفاءة للمادة التي يكتبها الصحفي، وننظر إلى الكفاءة التي لا غني عنها لمن يمارس الصناعة الصحفية
فليس كل قانون ضليع بقادر على ترويج صحيفة قانونية ولو كان أقدر الباحثين في مذاهب التشريع، لأن صناعة الصحافة غير صناعة الفقه القانوني، وغير وضع الشرائع وتطبيق الأحكام، فإذا اكتفيت بالصنعة العلمية فقد تستثنى بذلك صنعة الصحفي التي لابد منها لترويج الصحيفة ولفت الأنظار إليها وتنظيم إدارتها وبيعها، وقد تقضى على الصحافة وأنت تريد لها الكرامة والارتقاء
ونحن هنا في مصر لم نعرف بعد مدارس الصحافة، ولم نبلغ بعد ما بلغته الأمم الأوربية من شيوع التعليم وذيوع الثقافة العامة، فكيف تكون الصعوبة عندنا إذا كانت صعوبة الاهتداء إلى (الصحفي المطبوع) لا تزال قائمة في أمة كالأمة الإنجليزية؟ وأين تذهب صحافتنا إلى جانب الصحف الإنجليزية التي تطبع الملايين وتجمع من الموارد ما يضارع موارد بعض الدول الصغار ويقرأها أناس كلهم أو جلهم متعلمون مثقفون؟
قال ويكهام ستيد الصحفي الذي زاول الكتابة في أكبر صحف العالم: (لن تخرج صحيفة من الصحف بغير مجهود مكتب التحرير أي مجهود الصحفيين الخبيرين فمن هم الصحفيون الخبيرون؟ لقد بذلت شتى المساعي لتدريب الصحفي على صناعته، وقامت مدارس للصحافة، ثم لا يزال مشهوراً مقرراً بين الكثيرين أن الناجح في الصحافة لا يجوز امتحان نجاح ولا يحصل على درجة مدرسية ولا على رخصة من رخص الحرف والصناعات، ولعله هو يشتغل بجلب الأخبار وبيع الأخبار لا يبدو في مرتبة أرفع من مرتبة البائع الجوال الذي يجمع الدريهمات في الطرقات بالنداء والصياح، إلا أن (الوظيفة) التي يؤديها الصحفيون تخولهم مكانة اجتماعية فوق مكانة أناس ينحصر همهم كله في اصطياد العيون والأسماع. فمن أين لهم هذه المكانة؟. . . أحسب أن مرجعها الأخير إلى إدراك الجمهرة العامة بالبداهة الفطرية أن عمل الصحافة الحق إن هو إلا رسالة أو مهمة، وأنها شيء فوق الحرف وغير الصناعة، وسط بين الفن وبين دعوة التبشير، وأن الصحفي الحق موظف غير رسمي وظيفته أن يخدم مصالح الجماعة الإنسانية، فهو بهذه المثابة يولد ولا يصنع، وقد يفتقر إلى التدريب والاختبار ولكنه لا يوجد في الدنيا تدريب أو اختبار يجعله صحفياً صالحاً ما لم تكن في نفسه تلك الشرارة الحية التي تميز بين الصحفي الحق والآلة الصحفية. . . وليس أحمق بل ليس أفجع في بعض الحالات من تخيل بعض الناشئين أنهم متى أفلحوا في المدرسة أو الجامعة وأنسوا من نفسهم قدرة على صوغ الكلمات فهم خلقاء أن يفلحوا في الصحافة إذا ظفروا بعمل من أعمالها، ولعلهم يضيعون سنوات من أعمارهم قبل أن يعلموا أنهم أخطئوا الطريق ولم يدركوا (المهمة التي بغيرها لا يكون العمل في الصحيفة إلا مذلة خاوية من السلوى القلبية)
هذا ما يقوله خبير من أكبر خبراء الصحافة الإنجليزية عن مؤهلات الصحفي بين أناس فيهم من أبناء الجامعات والمدارس العامة والفنية عداد من عندنا من عارفي الحروف الأبجدية، فكيف يكون الحال بيننا يوم نأخذ في انتقاء الأعضاء الصالحين (لهيئة) الصحافة؟ وما هي شروط العلم والاختبار التي تفصل بين الأصلاء والأدعياء؟ وما هو ضمان البقاء في تلك الهيئة مع ضمان حرية الآراء، وحرية الإغضاب والإرضاء؟
في البلاد (الفاشية) قانون صريح يجيز للوزير المختص أن يصدر قراراً حكومياً بفصل الصحفي فإذا هو مطرود من جميع صحف البلاد، محرم عليه استئناف ذلك القرار إلى مراجع القضاء
وفي البلاد الديمقراطية يباح لمن يشاء أن يكتب وان ينشئ الصحف وأن يشتغل بأعمال الصحافة دون احتياج إلى إذن من الحكومة أو رخصة بإصدار الصحيفة
فأين نقع نحن بين الطرفين النقيضين؟! أصحفيون موظفون في دواوين الحكومة؟ أم صحفيون لا يحسبون حساباً لغير قانون الأخلاق الذي يدين به جمهرة القراء؟
لسنا فاشيين ولسنا بالغين من الحرية الديمقراطية مبلغ الولايات المتحدة وبلاد الإنجليز، فلنكن وسطاً بين هؤلاء وهؤلاء، ولنترك بقية من درجات الارتقاء يرتقيها الصحفيون مع ارتقاء القراء أجمعين، حتى يكون القراء هم الحكم الفاصل في آداب الكتابة الصحفية فلا نحتاج في كل شيء إلى نصوص القانون وزواجر المحاكم، إذ ليس من الأنصاف أن تطلب من الصحفي أدباً فوق أدب قرائه مجتمعين، فإذا كان أدبهم كافياً ففيه الغني عن الزواجر الحكومية، وإذا كان به نقص أو تخلف فالأولى علاج هذا النقص والتخلف قبل كل شيء، لأن علاج الصحافة وحدها ليس باليسير وليس بالمفيد
عباس محمود العقاد