الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 281/أتاتورك

مجلة الرسالة/العدد 281/أتاتورك

بتاريخ: 21 - 11 - 1938


للأستاذ محمود غنيم

طاف الحمام بعاهل الأتراك ... صبراً (فروق) قد احتسبت فتاك

ما مات فرد وورى بل هوى ... من أفقه فلك من الأفلاك

صاد القضاء النسر وهو محلق ... واها لنسر عالق بشراك

مات مصطفى كمال، وليس عجباً أن يموت في هذه السن الباكرة، إنما العجيب أن يمتد به الأجل فوق ذلك! إن ثمانية وخمسين ربيعاً عمر قصير إذا أضيفت إلى رجل من عامة الرجال، أما إذا أضيفت إلى عاهل الترك فإنها بمثابة قرون وأجيال. لو كان هذا الرأس من ماس لذاب؛ ولو أن تلك الأعصاب من حديد لاعتراها البلى؛ ولو أن هذا الجسم قلة من قلل الجبال، لأسلمه العمل المضني إلى الانحلال.

مات مصطفى، وأسدل الستار على ذلك الوجه الذي قدت عضلاته من الجرانيت، وانطفأت هاتان العينان بل الكوتان اللتان تشعان السحر والمغناطيس، وتنفذان إلى أعماق القلوب، وتنمان عن إرادة من فولاذ.

مات الرجل الذي كان معبود قوم، وقذى في عيون آخرين. مات الثائر الذي حكم القضاء الجائر بإعدامه، فلم يصبه سهم من سهامه. مات الذي طالما نصبت المؤتمرات شركاً لاغتياله، فلم يقع في حباله. مات الذي ناهض السلطان، ودوخ اليونان، وحارب الحلفاء في صف الألمان، فلم يجد الموت إليه سبيلا، كأنما هو في جفن الموت والموت وسنان.

مات مصطفى ميتة ابن الوليد على فراشه، لم يقطع شلو من أشلائه، ولم تسل قطرة من دمائه، فلا نامت أعين الجبناء!

كانت أمة محلولة العرى، مفككة الأوصال، أنهكها من الداخل استبداد الخلفاء، ومن الخارج انتصار الخلفاء؛ غريبة في أوربة بدينها وعاداتها، لا هي من الشرق ولا هي من الغرب، فجمع مصطفى تلك الأشلاء المتناثرة، وواءم بين هذه الأطراف المتنافرة، حتى استقام له شبه هيكل من العظام، كساه لحماً، وركب له أعصاباً، وشق فيه حواس، ثم نفخ فيه من روحه، فإذا هو بشر سوى، مقطوع الماضي عن الحاضر، لا يمت أوله إلى آخره بآصرة من الأواصر، فلا غرو إذا قلنا: إن مصطفى كمال، طراز وحده في الرجال. وإننا لنج عليه وعلى الحق معه إذا قارناه بموسو ليني في الجنوب أو بهتلر في الشمال، فان المعجزة إنما هي في إحياء الميت، أما إحياء الحي فليس من المعجزات في شيء. فان كان هناك فقيد يستحق التخليد، تضاف إلى اسمه البلدان، وتقام له التماثيل في كل مكان، فهذا هو مصطفى كمال، لا غيره من أشباه الرجال الذين تنحت لهم التماثيل من الصخر، وكان جديراً بها أن تصاغ من الشمع، ثم تسلط عليها أشعة الشمس

لم يكن الأثر الذي أحدثه مصطفى كمال قاصراً على رقعة من الأرض، ولكنه غير اتجاهات الأفكار، وامتد إلى النظم التي تواضع عليها البشر، فقلبها رأساً على عقب. إنه لم يؤمن بسنة التطور في إنهاض الأمم، ولم يعترف للزمان بعمل في تكوين الشعوب، بل قال بالطفرة، ثم شفع القول بالعمل، فدفع بأمته من خلف، في قسوة وعنف، ثم سار وأوغل في سيره، والناس في شك من أمره. ولشد ما شده العالم حين رآه يجتاز السبيل، ويتخطى العقابيل، بالغاً بأمته حيث يريد في سلام واطمئنان، والزمان ينظر إليه في خجل، لأنه أسقطه من حسابه ولم يعترف له بعمل

كان مصطفى مثالاً حياً للرجل الثائر، أظلته الثورة من مهده إلى لحده، ما حمل على رأي إلا جرّحه، ولا سيم خطة إلا فندها، ولا حارب تحت لواء قائد من القواد، إلا وجه إليه مرير الانتقاد. ثار في طفولته على فلح الأرض ورعى الأغنام، وثار في شبابه على عبد الحميد ثم على وحيد، وثار في كهولته على العادات والتقاليد. وليست عظمة الرجل في أن يثور، فان الثائرين في الرجال كثير، وما أيسر الانتقاد، وأسهل الهدم على من أراد! ولكن مصطفى لم يكن هادماً فحسب، بل كان هادماً بانياً، يبني الجديد على أطلال القديم، ولا يعمل المعول حتى يضع التصميم

أراد مصطفى استغلال بلاده فلم يلجأ إلى الكلام، إلا بمقدار ما يمهد الكلام للحسام، ولم يلجأ إلى الاستجداء، لعلمه أن الاستقلال أخذ لإعطاء، ولكنه أسمع الغاصب المحتل صوت احتجاجه عن طريق المدافع الدوية، والسيوف المقعقعة، فكان صوتاً يخترق حجاب السمع، وكان أذاناً يطرق الصم من الآذان. وما كان لمصطفى بفلول جيوشه الحديثة العهد بالانهزام أن يطرد المحتلين، وأن يكبح جماح الجيران الطامعين، ولكنها العقيدة المتغلغلة في الصميم، إذا اقترنت بالحق الصراح، والرغبة المدججة بالسلاح، لم يقف في طريقها شيء، بل اجتاحت هي كل شيء، ولم تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم

وهكذا استطاع مصطفى أن يخلص الأوطان، من احتلال الغاصب وجشع اليونان؛ ولكن ماذا يفيد جلا الغاصبين، والبلاد واقعة تحت نير السلاطين باسم الدين؟

على رسلك يا مصطفى، إن طريق الدين شائك وعر المسالك فلا تجرح فيه عواطف الأتراك، بل عواطف المسلمين أجمعين. إياك والتعرض للخلفاء، فان للخليفة قوة أربعين من الأولياء. إن المسلمين لابد لهم من إمام، وإن الخلافة ركن من أركان الإسلام. بمثل هذا تعالت الأصوات، من مختلف الجهات، ولكن لمصطفى أذناً صماء، لا تصيخ إلي النداء. هو لا يريد الخلافة، فليكن ما يريد، ثم يضرب الضربة القاصمة، فيطوح بالخليفة في مجاهل الأرض، وتتطاير شظايا عرشه في الفضاء. أما الفقهاء فلهم أن يبدوا ما يحلو لهم من الآراء، وأما الصحف والكتاب، فلهم أن يحكموا هل أخطأ أو أصاب

ترى ماذا كان يكون من أمر الخلافة لو طرحها كمال على بساط البحث، وانتظر فيها قرار المتضلعين من رجال الدين؟ أغلب الظن أنها كانت تسلك الأدوار التي سلكتها من قبل مسألة خلق القرآن في عهد بني العباس، تتناطح حولها الحجج، وتتقارع البراهين، ثم ينتقل التناطح من الحجج إلى الرءوس، والتقارع من البراهين إلى السيوف والتروس، ثم لا ينتهي الأمر، أو ينتهي إلى لا شيء؛ ولكن مصطفى يعرف ذلك، ويعرف بجانب ذلك أن منطق الواقع يغير وجوه الرأي، ويحول اتجاهات الأذهان، ويحمل على التسليم والإذعان. وكأني به جالساً على أحر من الجمر، وأعضاء المجلس الوطني يتداولون الآراء في مسألة الخلافة، حتى إذا نشب الجدل وطال النقاش ساعة من نهار، لوح لهم بحبل المشنقة فصدر القرار

ليت شعري ماذا فعل مصطفى؟ أتراه على عروش الخلفاء، أم أجهز على جريح لا يرجى له الشفاء؟ أهي نزعة من نزعات الألحاد، أم التخلص من عضو دب إليه الفساد؟ للتاريخ وحده أن يحكم؛ غير أني أبرئ من الإلحاد مترجم القرآن، ومعز دين الإسلام، ومرغم الأجانب على احترام الجمعات، وإنما هو النفوذ الديني أسيء استعماله، فوجب استئصاله؛ ذلك النفوذ الذي تغلغل في كل مصلحة، واعترض طريق كل إصلاح، والذي لم يوسم به عصر دون عصر، أو يسلم من شره مصر دون مصر. ذلك الذي جعل مصطفى برماً برجال الدين لا بالدين، حتى إنه ليقول في فورة من فوراته النفسية: (لوددت لو أستطيع أن أقذف بالأديان جملة في أعماق البحار)

وما كان لمصطفى ليضطغن على الإسلام لذاته، ولو لم يحترمه ديناً لاحترمه مقوماً من مقومات القومية التركية، تلك القومية التي كانت هدفه الوحيد بعد أن أغمد سيفه وعاد من الميدان

على أن مصطفى بشر يخطئ ويصيب، وقد يكون جار ليعدل، وانحرف عن الجادة ليصل إلى الطريق القويم. وإنك لن تخيط الثوب حتى تحدث الإبر فيه ثقوباً. ورحم الله القائل (إنا لن نصل إلى الحق حتى نخوض الباطل خوضاً)

ليس الرجل العظيم جديراً بهذا اللقب حتى يكون عظيماً في كل شيء، وقد برهن مصطفى على أنه رجل سلم كما أنه رجل حرب. ما كاد يخلص من قيود وطنه بالتحطيم، حتى تناول داخليته بالتنظيم، فأظهر في ذلك ما لم يكن ينتظر من رجل تخرج في الميدان، لم يعتد إلا حمل السلاح وإطلاق النيران. أنظر إليه يقوم (بتتريك) كل شيء، ويتعصب لقوميته حتى إنه ليحظر التعليم بغير اللغة التركية، ويقصي في سبيل ذلك كثيراً من معاهد الجاليات الأجنبية. ثم أنظر إليه لا يمنعه تعصبه الأعمى لقوميته أن يستعير من الغرب الحروف اللاتينية، فيفرضها فرضاً، ويطوف حاملاً سبورته مبشراً بها في الأندية والمسارح. ثم أنظر إليه يفرض القبعة على الرءوس، ويقذف بالقلبق والطربوش وغير هذين من الأغطية المختلفة الأشكال، التي كانت تجعل من الأتراك شبه (كرنفال). إن مصطفى القائد خبير بعلم النفس، مدرك تمام الإدراك الارتباط الذي بين النفوس، وبين أغطية الرءوس، فعل مصطفى ذلك كله في ثوان، وإن قوماً لا يزالون إلى الآن ينتظرون حكم الفقهاء في ترجمة القرآن، وهم كلما هموا باستبدال لباس بلباس، انتظروا حتى يحكموا الدليل والقياس

إن سر عظمة مصطفى هو في أنه رجل عملي، لا يعرف المناقشات البيزنطية. ما يحتاج إلى قرون، ينفذه في لحظة بقوة القانون. وإنه ليؤثر الأقدام على الخطأ على التردد في الصواب، بل إنه ليحيل الخطأ صواباً بشدة اقتناعه وسرعة اندفاعه. بذلك استطاع أن ينفذ برنامجاً واسعاً من الإصلاحات، وأن يعلن الجمهورية، وأن يلغي الألقاب، وأن يقضي على نفوس كرادلة الإسلام، وأن يحقق غير ذلك من الأغراض التي لم تحققها الثورة الفرنسية إلا بعد عشرات من السنين، أروت فيها خشب المفصلة بدماء الملايين.

وبعد، فهل لنا أن نضيف مصطفى كمال إلى نابليون بونابرت وإلى محمد علي باشا ثم نعتبر هؤلاء دليلاً على أن رجال الميدان بما تعودوا من سرعة البت وصرامة الأحكام - أصلح لحكم الشعوب من رجال القانون الذين يتحرون المنطق في الأحكام، ويطيلون البحث في فقه الألفاظ ومدلول الكلام؟

وهل لنا أن نعتبر هؤلاء دليلاً على أن الحكم الدكتاتوري العادل هو أصلح أنواع الحكم التي تساس بها الدول؟ إنني لأميل إلى ذلك كل الميل. بيد أنهم يقولون: إن الدكتاتور يبني نفسه على أنقاض غيره، ويقوي شخصيته على حساب إضعاف شخصيات الآخرين. ولئن صح ذلك فأنني لأشفق على تركيا الفتاة ألا تجد خلفاً لمصطفى، أو تجد خلفاً يشغل زاوية من زوايا كرسيه العريض ويترك سائرة شاغراً

(كوم حماده)

محمود غنيم