مجلة الرسالة/العدد 280/من مشاكل التاريخ
→ كتاب المبشرين | مجلة الرسالة - العدد 280 من مشاكل التاريخ [[مؤلف:|]] |
للأدب والتاريخ ← |
بتاريخ: 14 - 11 - 1938 |
طبيعة الفتح الإسلامي
للأستاذ خليل جمعة الطوال
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
يقول درمنغهم في كتابه حياة محمد: (. . . . وكان محمد يفضل اهتداء رجل واحد إلى الله على جميع غنائم الدنيا)
وهل في تاريخ الحروب والأديان وصية بلغت من السمو الإنساني مبلغ هذه الوصية التي أوصى بها النبي (ﷺ) معاذ بن جبل الأنصاري حين سيره على رأس وفد إلى اليمن، وقال له: (يسر ولا تعسر، وبشر ولا تنفر، وإنك ستقدم على قوم من أهل الكتاب يسألونك ما مفتاح الجنة، فقل شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له)
تلكم هي ضالة المسلم المنشودة بعد أن تجرد قلبه من حب المال، ومتاع الدنيا. وتلكم هي الطريق إلى هذه الضالة: شهادة فلجت الشرك، وإيمان زعزع الأصنام
الجنة هي ضالة المسلم التي أخرجته إلى ربه مجاهداً للحصول عليها. الجنة التي لا تشرى بالصكوك، والتي لا تنفع فيها الأموال. الجنة التي ليس في استطاعة بشر أن يلجها وإن غفر له جميع أهل الأرض، إلاَّ أن يكون مؤمناً بالله، وبرسله والأنبياء، الجنة التي ليس للمرء فيها أن يغفر لأخيه، وأن يحل ذنوبه وخطاياه، إلا أن يغفر له الله وهو خير الغافرين
أسر المسلمون في غزوة بني المصطلق عبد الله بن أبي، وحاول عمر بن الخطاب قتله، فقال له الرسول (ص): فكيف يا عمر إذا تحدث الناس وقالوا إن محمداً يقتل أصحابه. . .
ثم سمع ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي عزم ابن الخطاب، فجاء النبي (ص) وقال له: بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي فيما بلغك عنه، فأن كنت فاعلاً فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أثر أبر بوالده مني. وإني لأخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس فأقتله فأقتل رجلاً مؤمناً بكافر فادخل النار.
فقال له الرسول: إنا لا نقتله بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي مع تلكم هي روح الفتح الإسلامي السامية
الله أكبر! رجل يتقدم لقتل أبيه متطوعاً، ليحمل رأسه بيده إلى الرسول ﷺ لكيلا لا يكون عليه غضاضة في دينه، إن هو رأى غيره يقتله، فتحمله عزة الجاهلية على الأخذ بثأره، فيقتل مؤمناً بكافر، ويدخل النار!
سبحانك ربي! أية قوة جَعَلْتَ في رسالتك هذه، حتى استطاعت أن تحول النفوس الضارية إلى شعلة روحية سامية أضاءت الكون وقد كان ظلاماً حالكاً!
أَيحسنُ النبي ﷺ ويترفق برجل طعن فيه، وشنع عليه، ويظل مع ذلك في الدنيا من يتهمه، ويفتري عليه. .
هذه هي روح الفتوح الإسلامية على عهد النبي ﷺ التي لم يعرف التاريخ قط فتوحاً أرحم وأشرف وأعدل منها. وأما روح الفتوح الإسلامية الأخرى، فحسبكم دليلاً عليها هذه الوصية المثلى السامية التي أوصى بها الصديق قواده حين سيرهم لبث الدعوة إلى الإسلام: (لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة، ولا توقدوا نخلاً، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بقرة، ولا بعيراً، إلا لمأكلة
وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له:
وسوف تقدمون على قوم: يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإذا أكلتم منها شيئاً بعد شيء فاذكروا أسم الله عليها
لقد كان الفتح الإسلامي فتحاً روحيَّاً مبيناً، خضعت له الجزيرة بأسرها دون أن تجري الدماء فيها أنهاراً، فتحاً دام تسع سنوات لم يقتل فيها إلا (240) من المشركين و (258) من المسلمين. فلا عجب إذا اتصف بهذه الروحانية السامية، لأن الروحانية كانت العامل الأكبر فيه. فمن أين جاء الجاحدون بهذه الغزوات الدامية التي امتلأت بها كتبهم، وبحت بها حناجرهم؟
من أين جاءوا بهذه المغانم والأرزاق والأسلاب التي أغرت المسلمين على التمادي في الغزو والنهب والسلب؟!
إنه فتح كان الدين غايته، ولولا الذين لكان له غير هذا الشأن كتب عدي بن أرطأة عامل العراق إلى عمر بن عبد العزيز يقول: (إن الناس قد كثروا في الإسلام، حتى خفت أن يقل الخراج) فكتب إليه عمر يقول: (والله لوددت أن الناس كلهم أسلموا حتى نكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا)
أما والله لو أن حاكماً كتب إلى حكومة بلاده، يصف لها قلة خراج ولايته، لما تحرجت تلك الوزارة عن عزله، ولاجتمعت الأمة بأسرها تعالج تلك الأزمة الاقتصادية المخيفة، ولكن الإسلام إنما جاء ليهدي القلوب، لا ليبتز الجيوب (فإن الله إنما بعث محمداً هادياً لا جابياً)
قال عمر بن عبد العزيز في خطبة له: (وددت أن أغنياء الناس اجتمعوا فردوا على فقرائهم حتى نستوي نحن وهم وأكون أنا أولهم) اهـ. ولسنا بحاجة إلى التعليق على هذه الجملة الموجزة وعلى ما تنطوي عليه من الكره لا للغزو والنهب والسلب فحسب، بل لجميع متاع الدنيا
تلكم هي حجة الخصوم في حب الإسلام للنهب والغزو، قد سقطت بين أيديهم، قصاصة ورق، تتلاعب بها الرياح وأمواج الحقيقة. . .
أما القول بأن العرب كانوا وسطاً في القتال فلا يدل إلا على جهل صاحبه بالفطرة العربية، وبأخلاق سكان الصحارى الموحشة، والبراري المقفرة، التي يقوى فيها الذئب، وتصول السباع. ومن شك في تبريز العرب وبصرهم بأحوال القتال، فليستنطق ربوع الأندلس والهند وفارس وأفريقيا، بل وفرنسا، يوم كانت خيول مصر وقحطان تسرح في شرق البلاد وغربها. وكان مجرد أسم العرب يوقع الرعب في قلوب الأعداء لما كان يبلغهم من أنباء فروستهم وبطولتهم. . .
بقي أمر الحروب الصليبية، وقول من قال إنها كانت حروب البسالة والشهامة وأن الصليبيين كانوا عجباً بأنظمتهم وترتيباتهم. ولسنا نزيد في دفع هذا الكلام الغث على إيراد شهادات وأقوال بعض المستشرقين الكبار، وذلك لنكون بعيدين عما يدفع الغير لاتهامنا بالتعرض والتحيز
يقول ديسون: (آن لنا أن نتناول الحروب الصليبية بالبحث تلك الحروب التي بذرت روح العداء بين الإسلام والمسيحية. . . فلقد مشى فيها أقوام كان همهم السلب والنهب والسرقة والقتل، وزاد في ذلك ما وجدوه في طريقهم إلي القدس من وعثاء السفر والمشقات.
والحقيقة أن الصليبين - عدا من كان في جيوشهم من اللصوص والمجرمين - قد ظهروا للعالم كبرابرة مخيفين، وقد أظهروا في آسيا صنوفاً من الوحشية والفظائع لم تعهدها قط هذه البلاد التي كان قد مر عليها أربعة قرون آمنة في ظل نظام عربي لم تر له من قبل مثيلاً
وقد اقتحم الصليبيون القدس في 15 يولية 1099 وقتلوا في اليوم نفسه عشرة آلاف من المسلمين التجئوا إلى جامع عمر ظناً منهم أنه يحميهم من وحشية أعدائهم، ولم يكفهم هذا قط، ولا نفع غليل نفوسهم العطشى للدماء بل راحوا في الأسبوع نفسه يقتلون من المسلمين واليهود والمسيحيين (غير الكاثوليك) ما يناهز (60) ألف نسمة
وكان خلفاء الصليبين كأجداهم فظاعة وعسفاً حتى لقد وصفهم بعض كتاب المسيحية وصفاً مؤلماً، وقال أنهم ليسوا من المسيحية الغراء في شيء. .
وقال الأب ربموتد داجيل: (لقد اشتد القتل في هيكل سليمان، وكثرت فيه الجثث حتى أن الجند الذين قاموا بهذه المذبحة لم يعد بإمكانهم أن يطيقوا الرائحة التي كانت تتصاعد من جثث القتلى).
وقال روبرت ل موان: (لقد بدأت مذبحة الترك في 13 ديسمبر ولم يكف ذلك اليوم لقتل جميع الأسرى فأجهزنا على البقية في اليوم التالي).
وقال ميشو: (تعصب الصليبيون في القدس تعصباً لم يسبق له مثيل حتى شكا منه الكتاب المنصفون من مؤرخيهم، فكانوا يكرهون العرب على إلقاء أنفسهم من أعالي البروج والبيوت، ويجعلونهم طعاماً للنار، ويخرجونهم من الأقبية، وأعماق الأرض، ويجرونهم في الساحات ويقتلونهم فوق جثث الآدميين. ودام الذبح في المسلمين أسبوعاً حتى قتلوا منهم على ما اتفق على روايته مؤرخو الشرق والغرب سبعين ألف نسمة، ولن ينج اليهود كالعرب من الذبح فوضع الصليبيون النار في المذبح الذي لجئوا إليه، وأهلكوهم كلهم بالنار. . .)
وجاء في تاريخ الأمير حيدر: (. . . أخذ ريشارد قلب الأسد سبعمائة من أسرى المسلمين وقتلهم على رأس تل عكا، بمرأى من عساكر صلاح الدين، وبقر عسكره بطون المقتولين ليروا إن كان فيها شيء من الجواهر والذهب، ظناً منهم أنهم ابتلعوا شيئاً منها، وحباً بالانتفاع بمرائرهم يتخذونها دواء يستشفون به)
وجاء في التاريخ العام للافيس ورامبو: (. . بلغت دماء المسلمين التي سفكها الصليبيون في المسجد الأقصى حداً فظيعاً بحيث كان الفارس منهم وهو راكب تصل إلى رجليه دماء المسلمين التي سفكت في ذلك الحرم المقدس، وسالت كالسيل المنهمر!!. . .)
وكتب ريكولدوس حوالي 1294 في مدح المسلمين قائلاً: ومن ذا الذي لا يعجب بحماستهم وخشوعهم في صلاتهم، وبرحمتهم الفقير وبتقدسيهم أسم الله والأنبياء والأماكن المقدسة، ويبسن عشرتهم، ولطفهم مع الغريب؟)
ولله در غوستاف لوبون إذ يقول: (كان يشعر ظاهر الصليبين بأنهم يقصدون خدمة دينهم بالاستيلاء على القبر المقدس، ولكن الواقع أنهم كانوا منحلين من جوهر الدين، وأقرب إلى نزع شعاره متى رأوا مغنماً لهم، أو فاحشة يأتونها
شهادات في الفتح والحضارة الإسلامية: -
جاء في مقالة: للعالم الفرنسي ليوتي - نقلاً عن الأهرام - (وإذ كان فريق من ذوي الأغراض الملتوية، يزعم أن الإسلام - بفتوحه - يبعث على التدمير والفوضى والتعصب، فأني بعد أن قضيت بين المسلمين مدة من الزمن في الشرق والغرب ولم أكتف بما قرأته عن الإسلام في الكتب - أقول إن جميع تلك المزاعم لا نصيب لها من الصحة:). . .
وقال العالم الأمريكي لوثرب ستودارد، في كتابه (حاضر العالم الإسلامي): ما كان العرب قط أمة تحب إراقة الدماء، وترغب في الاستلاب والتدمير، بل كانوا على الضد من ذلك أمة موهوبة جليلة الأخلاق والمزايا، تواقة إلى ارتشاف العلوم، محسنة في اعتبار نعم التهذيب، تلك النعم التي قد انتهت إليها، من الحضارة السالفة، وإذ شاع بين الغالبين والمغلوبين التزاوج ووحدة المعتقد، كان اختلاط بعضهم ببعض سريعاً. وعن هذا الاختلاط نشأت حضارة جديدة، وهي جماع متجدد التهذيب اليوناني والروماني والفارسي. وذلك المجموع هو الذي نفخ فيه العرب روحاً جديداً، فنضر وأزهر، وألفوا بين عناصره ومواده بالعبقرية العربية والروح الإسلامي، فاتحد وتماسك بعضه ببعض. فأشرق وعلا علواً كبيراً، وقد سارت المماليك الإسلامية، في القرون الثلاثة الأولى من تاريخها أحسن سير فكانت أكثر ممالك الدنيا حضارة ورقياً وتقدماً وعمراناً، مرصعة الأقطار بجواهر المدن الزاهرة، والحواضر العامرة، والمساجد الفخمة، والجامعات العلمية المنظمة، وفيها مجموع حكمة القدماء، ومختزن علومهم، يشعان إشعاعاً باهراً. وظل طيلة: هذه القرون الثلاثة يرسل على الغرب النصراني نوراً. . .)
ويقول هربرت جورج ولز: (ساد الإسلام لأنه كان أفضل نظام اجتماعي وسياسي تمخضت عنه الأعصر، وكان حيثما حل يجد أمماً استولى عليها الذل والكسل، وتفشى فيها الظلم والعسف؛ ويجد حكومات متفسخة غاشمة، مستأثرة مستبدة، لا تربطها برعاياها أية رابطة، فمدَّ إلى البشرية يد المساعدة والإنقاذ. . .)
وقال سيدبو: (إن الإسلام هو الدين السامي الذي استطاع أن يسير في فتوحاته دون أن يترك وراءه أثراً للجور، وكانت ترحب به جميع الأمم المغلوبة على أمرها لحكم الروم والفرس. . .)
أفبعد هذه الشهادات الصريحة تقوم ضد الفتح الإسلامي حجة، وينهض دليل؟
هذه صورة من كتابنا (في الدفاع عن الإسلام) الماثل للطبع، وسنتقدم في الأعداد المقبلة بكلمة أخرى نصور فيها الحضارة الإسلامية الزاهرة، ومبلغ ما وصلت إليه من التقدم والرقي، وما ذلك إلا نُصرةً للحق، وخدمة للعلم، والله خير الناصرين.
شرق الأردن
خليل جمعة الطوال