مجلة الرسالة/العدد 280/بقية السحر والمثنوية
→ الغازي كمال أتاتورك | مجلة الرسالة - العدد 280 بقية السحر والمثنوية [[مؤلف:|]] |
الحقائق العليا في الحياة ← |
بتاريخ: 14 - 11 - 1938 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
في كتاب حديث باللغة الإنجليزية عن الآثار الدينية بمصر ذكر المؤلف معاني المعابد القديمة وطواف المسلمين بها في المواسم وفي غير المواسم يلتمسون قضاء الحاجات أو يطلبون وقاية الأبناء والأعزاء، ويعلقون على جدرانها خيوطاً أو خلقاناً تتصل بأصحابها كرامة الصنم أو القديس القديم، وقال المؤلف بعد ذلك ما معناه أن هؤلاء المسلمين ولاشك هم من عنصر الفراعنة الأقدمين، وأن هذه العقائد هي سلسلة الوراثة من الآباء إلى الأبناء والأحفاد
ومثل هذا التفسير يجوز لو كانت العقائد مما يورث في الدماء وراثة تشريحية كما يقولون في مصطلحات العلم الحديث، ولكن العقائد لا تنتقل هذا الانتقال ولا تبقى إلا بآثارها في المجتمع أو بأساسها من النوازع النفسية الخالدة، وليس منها الإيمان يولي مخصوص أو بمكان محدود. بل ذلك هو حكم العرف والتقليد
لقد لاحظنا كثيراً في الصعيد أناساً يذهبون إلى أصنام الفراعنة ولاسيما آلهة النسل - يطلبون الذرية ويفرضون على أنفسهم النذور، ويتلون بعض العزائم والدعوات. ولاحظنا كثيراً أناساً من المسلمين يطوفون بغير المعابد الإسلامية دفعاً لمرض أو اتقاء لبلاء، فلم يخطر لنا أنهم يصنعون ذلك بفعل الوراثة المتغلغل في التركيب على غير علم من ذويه، وإنما خطر لنا أنها بقية من السحر وبقية من الإيمان بعناصر الشر تساور الناس من جميع الأديان
فالمسلمون والنصارى واليهود والمجوس والبوذيون يلجئون إلى السحرة للتعوذ من الشرور، ولا يقول أحد إنهم أبناء أمم قديمة كانت تدين بهذا الدين أو ذاك، ولكنهم في الواقع يؤمنون بالسحر اليوم كما كانت الأمم القديمة تؤمن به على السواء في أفريقيا وأوربا وآسيا والأمريكتين وفي كل صقع من أصقاع العالم. ولو بقي في أستراليا مثلاً رجل واحد يلجأ إلى ساحر ليحميه بالرقي والتعاويذ لما جاز أن يقال إن هذا الرجل من نسل المصريين الأقدمين لأنهم كانوا أمة يسود فيها طائفة من السحرة والكهان. بل كل ما يجوز أن عقيدة السحر لها مرجع واحد من نوازع النفس الإنسانية، وهو خوف المجهول والإيمان بوجود عناصر شريرة تصيب الناس ويتأتى لهم اتقاؤها بالطلاسم والهدايا والقرابين، على أيدي السحرة من ذوي الصلة بتلك العناصر أو تلك الأرواح
فالمسلم المصري الذي يلجأ إلى صنم فرعوني لا يتوجه إلى ذلك الصنم لأنه يعبده أو يحس في نفسه نوازع الوراثة من قتل الآباء والأجداد، ولكنه يتوجه إليه كما يتوجه إلى ساحر يخدم الشياطين ويصون الناس عن أذاها بجعل معلوم، ومن دأبه أن يتوقع الشرور من جانب الشياطين، فكيف يتفق على مهادنتها ومسالمتها إلا أن يكون الاتفاق على أيدي وسطائها المقبولين وسفرائها المقربين؟ إن الاتفاق مع شيخ من الشيوخ الصالحين قد يطول أمره، وقد يكون إشهاراً للحرب يستميت فيها الشيطان ثم ينهزم آخر الأمر بعد التنكيل بمن أثاروه وناوأوه. ولم هذا التطويل وهذه المجازفة؟ وماذا يجدي المتوسل المسكين أن ينهزم الشيطان في نهاية المعركة على يد الشيخ الصالح؟ أليس أحكم من ذلك وأدنى إلى النجاح أن تهدئ من ثورة الشيطان بالتوسل إلى سفرائه المعروفين؟
تلك هي الحالة العقلية أو الحالة النفسية التي تحفز بعض المسلمين إلى ابتغاء المعونة من الساحر أو من الصنم الفرعوني المهجور
ونقرب هذه الحالة بعض التقريب فنسأل: ماذا يصنع الفلاح المصري اليوم إذا علم أن منسراً من اللصوص هجموا على داره فانتزعوا منه طفله وحيوانه وأنذروه بإحراق زرعه؟
إنه لا يؤمن بحكومة مشروعة لأولئك اللصوص، ولا يحبهم، ولا يرضى عن وجودهم، ويعلم أن الطريق المشروع هو تبليغ الحكومة، وأن الحكومة إذا ما دخلت في حرب سجال مع أولئك اللصوص فالغلبة لها لا محالة، واللصوص من مقبوض عليهم في يوم من الأيام بغير جدال
ولكن ما العمل إذا قتل اللصوص طفله وحيوانه وحرقوا زرعه وداره قبل وصول الحكومة إليهم ونجاحها في القبض عليهم؟ أليس الأجدى من ذلك أداء (الحلاوة) المفروضة والتماس السلامة من هذا الطريق القريب؟ وهل يقدح ذلك في طاعته للحكومة وإخلاصه للقانون وكراهته لمنسر اللصوص؟؟
هذا بعينه هو أسلوب المسلم المصري في التفكير حين يعن له أن يحمي نفسه وأبناءه من أذى الشياطين أو أرباب الكفر القديم.
إنه يؤمن بالله ويعرف أنه هو الإله الوحيد الحقيق بالطاعة والعبادة، وأنه إذا توسل إلى ولي من أوليائه الصالحين فهو منتصر في نهاية المعركة لا محالة، ومطمئن إلى جانب الله مالك الملك وقامع الأنس والجن والمردة والشياطين.
ولكن ما العمل إذا قتل الشيطان ابنه أو مسه بطائف من الخبل قبل انهزامه في المعركة التي يشنها عليه ولي الله؟ أليس الأجدى من ذلك أداء (الحلاوة) المعلومة وكتابة الحجاب المطلوب وتسليم الإتاوة وكفى الله المؤمنين القتال؟؟
فالسحر هو مهادنة بين المؤمن وعناصر الشر إيثاراً للدعة والإيجاز في علاج الأمور، وليس فيه إيمان بإله قديم ولا تراث من دم موروث في العروق.
ويشبه الإيمان بالسحر الإيمان الخفي بالمثنوية في نفوس الجهلاء وبعض المتعلمين.
لقد كانت مدام دي ستايل تقول إنها ملحدة ولكنها تعتقد وجود الشياطين، أو أنها فقدت رجاءها في الخير ولكنها لم تفقد خشيتها مما في العالم الظاهر والباطن من شرور.
والمسلم اليوم يؤمن بالله، وأن إبليس رسول الشر في هذه الدنيا غير مشلول الحركة ولا مغلول السواعد، فقد يصيب من أراده بالضرر ثم يكون المرجع في دفع ذلك الضرر إلى الله.
ولم يكن هذا اعتقاد الأقدمين من جميع الأمم مصريين وهنديين وفرساً وعرباً وأوربيين وأمريكيين.
بل كان اعتقادهم أن للشر إلهاً مناهضاً لإله الخير يتصاولان ويتصارعان، ولكل منهما معابده وكهانه وشعائره وصلواته، ومنهم من كان يصلي ويتقرب لإله الشر دون إله الخير. لأن إله الشر هو المخيف المؤذي الذي لا يكف عن الإساءة إلا بمهادنة وقربان. . . أما إله الخير فلا خوف منه ولا انقطاع لخيره، إذ هو مطبوع عليه انطباع زميله على النكاية والإيذاء.
بطلت هذه العقيدة وخلفتها عقيدة التوحيد، ولكنها ذات رجعات وعقابيل تظهر في المعتقدين والملحدين. فأما المعتقدون فمثالهم أولئك الجهلاء الذين يتوجهون إلى صنم فرعوني قديم، وأما الملحدون فمثالهم مدام دي ستايل التي تخاف العفاريت والشياطين ولا تخاف الله.
وفيما تقدم كله تفسير لما أشكل فهمه على الأستاذ مورتون مؤلف الكتاب الذي أشرنا إليه.
عباس محمود العقاد