مجلة الرسالة/العدد 28/كيف اختار المنصور موقع بغداد
→ وقفة ثالثة على جسر إسماعيل | مجلة الرسالة - العدد 28 كيف اختار المنصور موقع بغداد [[مؤلف:|]] |
من صور الحياة ← |
بتاريخ: 15 - 01 - 1934 |
دالت دولة الأمويين وقامت على أثرها دولة بني العباس تسندها كواهل الفرس وتؤيدها سيوفهم، وكان لابد للدولة الجديدة من عاصمة جديدة، إذ يرى المتتبع لتاريخ العرب أن تغير العاصمة لابد منه عندما تتولى الحكم أسرة جديدة، ففي بدء الإسلام هاجر النبي (ص) من مكة واتخذ يثرب مقراً له فانتقل بذلك المركز السياسي لجزيرة العرب من مكة المدينة التجارية القديمة إلى يثرب التي سميت بعد مدينة الرسول، والتي أصبحت عاصمة الإسلام ومركز الحكومة، وبقيت كذلك في حياة النبي (ص) والخلفاء الراشدين الثلاثة من بعده أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فلما آلت الخلافة إلى علي عليه السلام اتخذ الكوفة مقراً، وحدث النزاع بينه وبين معاوية منافسه الذي مرت عليه عشرون سنة وهو أمير الشام. قد وطد فيها أمره وأسكن أقرباءه وأتباعهم، حتى إذا ما انتهى هذا النزاع بشهادة الإمام الحسن أصبحت دمشق حاضرة الإسلام، وكان موقعها مناسباً لأن تكون عاصمة حكومة الأمويين العربية، فهي واقعة وسط إقليم خصب، وهي قريبة من مكة والمدينة مركزي القوة الدينية كما أنها تقع على تخوم الصحراء العربية التي يتخذ الخلفاء من سكانها جنوداً يهاجمون بلاد الروم القريبة من دمشق أيضاً، ولم يكن يقلل من أهمية موقع دمشق أنها لم تكن واقعة على نهر صالح للملاحة، لأن تجارة المسلمين كانت حينذاك بسيطة تتبع طريق القوافل وتحمل على الإبل.
وإذا ما صلحت دمشق لأن تكون حاضرة الأمويين، فإنها لا تصلح أن تكون حاضرة بني العباس، فهي مأهولة بأتباع الأمويين ومناصريهم وهي بعيدة عن بلاد فارس، مصدر قوة العباسيين ودعامة ملكهم، وفضلاً عن ذلك فقد أصبحت مهددة بالروم الذين اغتنموا فرصة ضعف الأمويين، فأخذوا يشنون الغارة تلو الغارة، كي يثأروا لاندحارهم القديم، فالعاصمة الجديدة إذن يجب أن تتجه نحو الشرق قريبة من بلاد فارس، ثم إن التبسط التجاري يقضي أن تكون على ماء يصلها بالبحر ومن هذا تعين أن يكون موقعها إما على الفرات وإما على دجلة، حيث لم يتردد العباسيون أن يجعلوها هناك.
لما انتهى السفاح من حروبه ومذابحه ابتنى الهاشمية بجوار الأنبار
المدينة الفارسية القديمة، واتخذها مقراً له وتقع هذه الهاشمية على ضفة الفرات الشرقية، حيث يتفرع منه النهر الكبير الذي عرف فيما بعد
باسم نهر عيسى، وفيها توفي السفاح سنة 136 هجرية. وبعد قليل من
تبوئ المنصور كرسي الخلافة شرع في بناء مقر له سمي بنفس الاسم،
وتقع هذه الهاشمية الثانية بين الكوفة والحيرة على الجانب الغربي من
الفرات، في مجل لا يبعد كثيراً عن البطائح، مصب الفرات في القرن
العاشر الميلادي وتقول رواية أخرى أنها كانت قرب مدينة ابن هيبرة
القريبة من الكوفة. ومدينة ابن هبيرة هذه غير قصر ابن هبيرة. لم
يكن موقع الهاشمية الثانية مناسباً ليكون عاصمة بني العباس لقربها من
الكوفة مركز شيعة العلويين ولأن القبائل التي تقطنها كانت لا تفتأ تثور
وتشاغب، وقد تركها المنصور بعد ثورة الراوندية الذين تظاهروا
بتقديسه وكادوا يفتكون به.
وإذا ما انتقلت العاصمة إلى العراق فمن الواضح أن فائدة بقعة على دجلة خير منها على الفرات لأنها تكون وسط إقليم خصب فقد كانت مياه الفرات تسقي الأرض التي بينه وبين دجلة كما كانت مياه هذا الأخير تروي الأرض الواقعة شرقيه، وفضلاً عن ذلك فإن القسم الأسفل من دجلة كان أصلح للملاحة من الفرات.
وقد قام المنصور برحلات عدة للتفتيش على موقع لائق بالعاصمة فسافر من جرجايا إلى الموصل، متبعاً شاطئ دجلة ووقع اختياره أولاً على موقع قرب باريما جنوب الموصل عند الموقع الذي يعرف اليوم باسم الفتحة، حيث يقطع نهر دجلة جبال حمرين ولكنه تركه حين علم بغلاء المرة وقلتها فيه وأخيراً اختار قرية بغداد الفارسية الواقعة، على ضفة دجلة الغربية، شمال مصب نهر الصراة تماماً وأسس فيها عاصمته الجديدة سنة 145 للهجرة (762 للميلاد).
ويظهر من الاستكشافات التي قام بها السير هنري رولنصن سنة 1848 للميلاد أنه قد كان في هذا المحل مدينة من المدن القديمة جداً فقد وجد آجراً مكتوباً عليه سم بختنصر ولقبه، كما وجد في خرائط الآشوريين الجغرافية اسماً لمدينة يقرب من اسم بغداد.
وقد كانت تقام في قرية بغداد الفارسية أثناء حكم الساسانيين سوق شهرية اشتهرت كثيراً في صدر الإسلام، إذ هاجمها المسلمون سنة 13 للهجرة وغنموا كثيراً من الذهب والفضة ثم لم يعد يظهر اسم بغداد في التاريخ حتى سنة 145 للهجرة حين أخذ المنصور يفتش عن موقع لعاصمته الجديدة، وقد كان في هذا الموقع لذلك الحين عدد من الأديرة وخاصة أديرة الرهبان النسطوريين، ومنهم عرف المنصور خلو هذا المحل من البعوض الذي يكثر في المحلات الأخرى من دجلة، وأن لياليه باردة حتى في الصيف وكانت هذه المميزات بلا شك مما أغرى المنصور على اختيار هذا المكان موقعاً لعاصمته.
وقد أطنب مؤرخو العرب وجغرافيوهم، في الكلام عن فوائد موقع بغداد المتعددة، فيذكر لنا المقدسي مثلاً أن الخليفة انتصح بقول ساكني هذا المحل، ولخص في الأسطر التالية الكلام الذي خوطب به المنصور (الذي أرى يا أمير المؤمنين أن تنزل أربعة طساسيج (مقاطعات) في الجانب الغربي طسوجان، وهما قطريل وبادرابا، وفي الجانب الشرقي طسوجان، وهما نهر بوق وكلواذى فأنت تكون بين نخيل وقرب الماء فإن أجدب طسوج وتأخرت عمارته، كان في الطسوج الآخر العمارات، وأنت يا أمير المؤمنين على الصراة تجيئك الميرة في السفن من المغرب في الفرات، وتجيئك طرائف مصر والشام، وتجيئك الميرة في السفن من الصين والهند والبصرة وواسط في دجلة، وتجيئك الميرة من أرمنية وما اتصل بها في تامرا حتى تصل إلى الزاب، وتجيئك الميرة من الروم وآمد والجزيرة والموصل في دجلة. وأنت بين أنهار لا يصل إليك عدوك إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسر وخربت القناطر لم يصل إليك عدوك، وأنت بين دجلة والفرات لا يجيئك أحد من المشرق والمغرب إلا احتاج إلى العبور، وأنت متوسط للبصرة وواسط والكوفة والموصل والسواد كله، وأنت قريب من البر والبحر والجبل).
إن التبصر الذي أظهره الخليفة المنصور في اختيار موقع بغداد يظهر جلياً في تاريخ بغداد الأخير، فقد توسعت هذه المدينة توسعاً كبيراً حتى كانت المدينة الثانية بعد القسطنطينية في العصور الوسطى ولم يكن لها نظير في جلالها وعمرانها بين مدن آسيا الغربية، ولم تستطع الحروب والحضارات وانتقال الخلافة منها إلى سامراء، وحتى تخريب المغول لها، كل هذه لم تستطع أن تحط من مركز بغداد وكونها عاصمة ما بين النهرين، فاتخذها الأتراك مقراً لهم، والآن بعد أن مر عليها أحد عشر قرناً، أصبحت عاصمة الحكومة العراقية.
سليم محمود الأعظمي