مجلة الرسالة/العدد 28/الشعر
→ أحدث المبادئ الاجتماعية؟! | مجلة الرسالة - العدد 28 الشعر [[مؤلف:|]] |
الحركة الوطنية الاشتراكية الألمانية ← |
بتاريخ: 15 - 01 - 1934 |
للشعر أثر كبير في تاريخ الحياة الإنسانية، ولا يستطيع أحد أن ينكر
ما أفادها بنغماته السحرية الجميلة، وموسيقاه الناطقة المؤثرة، وإذا كان
العلم يعطينا مدداً نافعاً، وفوائد جليلة، فإن الشعر يمنحنا هبة أعظم
شرفاً، وذلك لأنه يفتح على أرواحنا النوافذ المغلقة فيصلها بالحياة التي
تجري أمامها، والنور الذي ينتشر حولها، ثم هو يعرض أمام أنظارنا
الجمال الهاجع في الكون مجلواً في أبهى حلله، ذلك الجمال الذي هو
زهرة الحياة الدنيا وفتنتها فما هو هذا الشعر الذي يقدم لنا كل هذه
الهبات؟
أما أساتذة مدارسه التي أخذت تعلمه في الشرق فقد اهتدوا منذ القرون الأولى للهجرة إلى تعريفه بأنه (الكلام الموزون المقفى) ولا شك أن هذا تعريف قاصر لأنهم تناولوا به السور الخارجي الذي يحيط بمدينة الشعر فقط، أما المدينة نفسها وما تضج به من حياة وحركة، وما تموج به من حسن وجمال، فلم تسترع أنظارهم، ولم تجذب انتباههم، ولعل رواية الشعر الجاهلي هي التي ورطتهم في هذا التعريف الأبتر، فقد كان الشعر الجاهلي يروى سواء أكان بسيطاً أم لم يكن، وسواء أكان مؤثراً أم لم يكن، وسواء أكن مفهوماً أم غير مفهوم، وكان الرواة لا يطلبون في الشعر إلا أن يطن بالوزن والقافية، وأما المعنى الذي هو روح الشعر فلم يلق منهم عناية ولا دراية إلا في الأقل القليل، فلما أخذت المدارس تعلم الشعر وتقننه فهمت أن الوزن والقافية هما كل شيء فيه، واستن لها السنة الخليل بن أحمد أستاذ المدرسة الأولى فقد قال: والشعر هو ما وافق أوزان العرب، فمادام الكلام قد ارتدى برداء الوزن فهو شعر ولو لم يكن فيه روح تنبض، ولا حياة تخفق، والذي يدعو إلى الدهش هو أن هذه الفكرة السقيمة في الشعر استمرت قائمة في هذه المدارس طوال العصور المختلفة كأنها قضية منطقية مسلم بها، ولم يفكر الأدباء في الخروج عليها. نعم أتيح للجاحظ أن يتأثر بالمدرسة اليونانية فيقول: (إنما الشعر صياغة وضرب من التصوير) ولكن للأسف لم يعن هو نفسه بهذا المعنى فيما جمع من الشعر بكتابه البيان والتبيين، وعلى الرغم من أن ابن خلدون انتقد المدارس السابقة في تعريفها للشعر، استمرت عند فكرتها، ولم تحاول أن تعتق نفسها من رق هذا الخطأ، ولا أن تطلق عقولها من أغلال هذا التقصير.
والأمر في تعريف الغربيين للشعر على خلاف هذا، ولنلم بطرف من تعاريفهم، ولعله يلقي على الموضوع أشعة توضحه، يقول مستر بلوك: إنه لا يمكن تعريف الشعر بشيء سوى السحر، وكان أجدر به أن يعدل في كلامه فيقول إنه لا يمكن تشبيه الشعر بشيء سوى السحر، ومهما يكن فتعريفه لا يعطينا شيئاً أكثر من فكرة أولية لا تقبل التحليل، وقال مستر تيفر: إن كلمة الشعر ككلمة الجمال من الكلمات المبهمة التي تشمل مجموعة من الأشياء المختلفة تمام الاختلاف بالنسبة لاختلاف المنتجين، وانتهى إلى أنه يمكن تعريف الشعر بأكثر من هذا التعريف الرديء لمعاجم اللغة، واعترف مستر لمبورن بأنه لا يمكن تعريف الشعر إلا إذا عرفنا الحياة والحب، اللذين يترجم عنهما.
وهكذا نجد النقاد من الإنجليز مضطربين أمام تعريف كلمة الشعر، فبعضهم يعرفها تعريفاً ناقصاً، وبعضهم يعرفها تعريفاً مبهماً، ويحجم كثير عن تعريفها لأنه لا يمكن تعريفها، أو لأنها ككلمة الجمال لا يمكن تحديدها، وبمعنى أوضح لأن الشعر عمل فني، وكأنما كتب على كل عمل فني ألا تحيط به التعاريف إحاطة تامة، وأياً كان فكلمة الشعر تعني شيئاً موجوداً أمامنا، يشرح خواطرنا، ويخاطب قلوبنا، ويؤثر في نفوسنا تأثيراً جميلاً، وإذا كنا لا نستطيع أن نحدد الشعر تحديداً تاماً يبين ماهيته فليس من العسير أن نقف على أساسه، ولعل أقدم من تكلم في هذا الموضوع كلاماً مستفيضاً هو أرسطو فقد قال: إن الابتكار أساس الشعر، فالشعر عنده صورة مخترعة يخلقها الشاعر بقوة خياله، والوزن عنده شيء إضافي يلحق بالصورة حين يتم خلقها في قلب الشاعر، وماذا؟ أيخترع الشعراء الأوزان التي ينظمون عليها كلامهم؟! وهل يخلق الشعراء الألفاظ التي يوقعون عليها نغمات عواطفهم؟ إن الوزن واللفظ ملك للغة، ليس لأحد أن يدعي شيئاً منهما لنفسه وإنما الذي يستطيع الشاعر أن يعزوه إلى نفسه فيصدق هو الصورة الطريفة التي يبتدعها، وهذه النظرية جميلة في ظاهرها، ولكنها ليست دقيقة كل الدقة، وعلى الرغم مما يظهر فيها من المغالاة في تقدير الشعر استمرت محتلة أفكار النقاد مدداً طويلة، حتى جاء المؤرخ اليوناني (ديونيسيوس) صاحب الأبحاث البلاغية الشهيرة، فعلق على الأوديسا تعليقاً انتهى فيه إلى أن أساس الشعر إنما هو الأسلوب، وقد تبعه كثير من النقاد في أوائل العصر الحديث، كل منهم يخطئ نظرية أرسطو، ويبرهن على أن الأسلوب والوزن لهما أثر كبير في صناعة الشعر والواقع أن الشعر عمل فني يقوم على أشياء لا على شيء واحد، فلا بد له من الصورة الفنية، والموسيقى الجميلة، والخيال البارع حتى يستطيع أن ينهض من الأرض فيحلق فوق رءوسنا في السماء.
وقيمة الشعر ترجع إلى أنه يترجم عن احساسات الإنسان محاولاً أن يوقظ العواطف المقابلة في قلوب الآخرين، ومادامت هذه هي قيمته، فكل منا شاعر إلى حد ما، لأن كلاً منا يملك إحساساً، وقوة بها يترجم للآخرين عما يجيش بصدره، ولكن يجب أن نعرف أن هؤلاء الذين نسميهم شعراء هم في الواقع أرق من الشخص العادي شعوراً وألطف منه وجداناً، وهم أقدر على التعبير عما يحسون ويتأثرون، قد انقادت إليهم أعنة الكلام واستسلمت لهم شوارد الأوزان، فسهل عليهم تصوير ما في قلوبهم وإخراج ما تطفح به صدورهم، والذين يعنون بدراسة الشعر ونقده يجدون مواطن كثيرة لا يجذب جمالها قلوبهم، ولا يسترعي حسنها عقولهم، يلفتهم الشاعر إليها بصوره الساحرة التي يعرضها، وموسيقاه الجميلة التي يغني بها، ولقد أحسن كيتس حين قال: (ربما جعل الله لك يا بني هذا العالم جميلاً في نظرك كما هو جميل في نظري) وحقاً أن الشاعر يتراءى له العالم جميلاً أو قبيحاً أكثر مما يتراءى لنا، وكثيراً ما يجعل الأشياء التي تبدو لنا قليلة القيمة أنيقة معجبة بما يصور من جلالها وما يظهر من جمالها.
وأول محاولة في الشعر هي ترجمة العاطفة الثائرة في قلب الشاعر، فقياس الشعر ليس هو المنطق، وإنما هو العاطفة، ونحن لا نسمع لشعر الشاعر، ولا لغنائه لأنه أكثر عقلاً من غيره، بل لأنه يجعلنا نشعر بحياة قلوبنا وأحاديث وجداننا، والتعبير العاطفي هو الشعر ولكن إذا حمل لباساً جميلاً، وشكلاً أخاذاً وموسيقى بارعة، فإذا لم يحمل ذلك لم يكن شعراً بالمعنى المعروف، لأن الشعر لا يتطلب حياة عاطفية فقط، بل هو يتطلب إلى ذلك الأسلوب الجميل والموسيقى المؤثرة، ويجب أن تكون الموسيقى قوية، وطبيعية، وحرة، لتستطيع عواطف الشاعر وأفكاره أن تبقى خالدة على وجه الدهر، أما إذا كانت الموسيقى ضعيفة واهنة، أو نافرة جامحة، أو أسيرة سجينة، فإنها تفسد على الشاعر شعره، والموسيقى الشعرية لا تستطيع أن تحيا بدون التعبير العاطفي لحظة من الزمن، بخلاف التعبير العاطفي فإنه يستطيع أن يحيا، بدون الموسيقى فيكون نثراً أدبياً، وبقوة تعبيره وجمال تصويره تكون قيمته في هذه الحياة الفنية التي وقف عندها.
ويجب أن تكون لغة الشعر سلسة عذبة، جميلة في مرأى العين وسمع الأذن، لا يعوزها الحسن ولا ينقصها الرواء، كما يجب أن يكون الأسلوب متماسكاً متراكباً ليعبر تعبيراً واضحاً مسرعاً عن غايته، وحسن البيان ضروري في الشعر حتى لا يقعد به سوء التعبير عما يريد الإفصاح عنه، والواجب أن يهتم الشاعر بهذه الأشياء جميعها لأنها اللباس، وكثيراً ما يدل اللباس على صفات لابسه.
وكل العواطف صالحة لأه تكون موضوعاً للشعر يترجم عن مستورها ويفصح عن خبيئها، ولكن ليست العواطف كلها في مرتبة واحدة غير متفاوتة، بل منها القوي ومنها الضعيف، فإذا ترجم عن عاطفة ضعيفة فأن شعره يتدلى معها إلى أسفل فتنقص من حسنه وتغض من روعته، ويجب أنه يكون القلب الذي يعبر عن هذه العواطف سليماً غير مريض، فأن القلب هو الذي يمثل مرض الإنسان، أما القلب المريض فلا يجد من يحمله، وما أشبه العواطف بجداول مياه تنساب من لقلب فيميلها كيف يشاء.
وخير العواطف ما كان يبعث على الحياة والقوة كعاطفة الإعجاب التي تملأ قلب الشاعر فتجعله يصف الأسد مثلاً، وسمو هذه العاطفة راجع إلى أن القوة مظهر الحياة، وهي تعجب الإنسان أكثر من أي مظهر آخر، فالإنسان دائماً يعتز بقوته ويخفي سوأة الضعف التي قد تتراءى له في زوايا نفسه، يتجاهلها، ويتعامى عنها، ويبعدها عن نفسه كلما ألمت به، ولهذا كانت العواطف التي تبعث على الحزن ضعيفة، لأن الألم والبكاء تنفر منهما النفس وتفر بطبيعتها إذ الإنسان لا يرضى أن يعترف بضعفه، وإذا اعترف لم يبق على هذا الاعتراف طويلاً، ومن العواطف الضعيفة عاطفة المدح فإنها عاطفة شخصية تتصل بنفس الشاعر وذاته، ولا تعبر عن شيء عام يشترك فيه الجميع. نعم إن تخلصت من ذاتيتها، فمدحت المروءة أو حضت على خلق كريم تغير حالها، وعلت مرتبتها، لأنها حينئذ تفصح عن شيء يشترك فيه الجميع ويقدره.
والعاطفة، ليست وحدها كل شيء في الشعر بل يجب أن تضاف إليها الفكرة التي تنظمها وتهيئها للحياة والظهور، وكل الفنون ماعدا الموسيقى لابد فيها من الفكرة حتى تتلذذ العاطفة، وليس من الواجب أن تخترع الفكرة، وإنما الواجب أن تظهر في معرض جديد يوضح عمل صاحبها وقوة إيمانه بها، والشعر قد يكون فكراً خالصاً فيبحث في أعمق المسائل التي تشغل عقول الفلاسفة من مثل طبيعة الخير والشر، وحينئذ لا يكون شعراً بالمعنى الصحيح إلا إذا امتزج بالقلب فأصبح عاطفة قوية تفيض منه لا من العقل , تخاطب الشعور والوجدان قبل أن تخاطب الأفكار والأذهان , ولقد أحس قدماؤنا حين قالوا (الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان).
والشعر في الواقع رسالة كرسالة الأنبياء، فهو يقوم على الإلهام أكثر من أي شيء آخر، والأيمان بالفكرة ووضوحها هما الملكان اللذان يوحيان إلى الشاعر بالمعاني الجميلة المعجبة، والصور الفريدة المعجزة، فيخرج للناس أفكاره نيرة واضحة، كأنها وهج الحريق في الليل البهيم، فر تجد تكلفاً ولا تعملاً، وإنما هي زهور جميلة ينثرها الشاعر على رغمه كما ينثر الزيتون زهوره، وما أشبه الفكرة القلقة يقولها الشاعر بالعصفور المضطرب الحيران التائه من عشه، ويجب أن تكون الفكرة قوية، ليكون الشاعر مبدعاً، رائعاً حتى إذا أراد أن يحلق في السماء انتهى إلى أعلاها فكان نجماً زاهراً بين نجومها، وللأسف نجد الشعر العربي تعوزه القوة في كثير من الأحيان، ولعل هذا هو السر في أن الشاعر العربي إذا أراد أن يحلق فوقنا ارتفع ارتفاع السحاب في السماء الدنيا ولم يستطع الارتفاع إلى أعلى أكثر من ذلك، لأن أجنحته ليست قوية، على أنه سرعان ما يدنو إلينا وينزل من سمائه إلى أرضنا.
والعواطف والأفكار لا تكون وحدة الشعر بنفسها، وإنما الذي يصنع ذلك هو الخيال الشعري، فهو المنظم للأفكار والعواطف وهو المخرج لها، هو الذي يجمعها وينفحها بروح من لدنه فتستوي ناطقة معبرة نشخص لها ونعجب بجمالها، وإذا شاهد شخص حديقة جميلة في مكان وجاء يقول: لقد رأيت حديقة بها أزهار وأشجار ومياه لم يكن هذا شعراً، وإنما الشعر حقاً هو الذي يحمل للناس أبهة الخيال فيظهر للناس في وحدة جميلة بديعة تسترعي الأنظار، وتخلب الألباب، وأي خيال أجمل من قول كيتس (يوجد الغد مبرعماً في نصف الليل)
شوقي ضيف
بكلية الآداب