مجلة الرسالة/العدد 28/الشافعي واضع علم أصول الفقه
→ الطفلة الراقصة | مجلة الرسالة - العدد 28 الشافعي واضع علم أصول الفقه [[مؤلف:|]] |
صفي الدين الحلي ← |
بتاريخ: 15 - 01 - 1934 |
للأستاذ الشيح مصطفى عبد الرازق
أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب
- 6 -
- الدراسات الفقهية إلى عهد الشافعي. ب - أهل الرأي وأهل الحديث
جـ - الشافعي بين أهل الرأي وأهل الحديث وآثاره وكتبه
د - وضع الشافعي علم أصول الفقه
وكان أهل الحديث يعيبون أهل الرأي بأنهم يأخذون في دينهم بالظن، وأنهم ليسوا للسنة أنصاراً ولاهم فيها بمتثبتين، فان أصحاب أبي حنيفة يقدمون القياس الجلي على خبر الواحد وهم يقبلون المراسيل، والمجاهيل - أي الحديث المرسل الذي أسنده التابعي أو تابع التابعي إلى النبي خلى الله عليه وسلم من غير أن يذكر الصحابي الذي روى الحديث. أما المجاهيل فهم مجهولو الحال من الرواة -
ثم لا يقبلون الحديث الصحيح إذا كان مخالفاً للقياس، ولا يقبلونه في الواقعة التي تعم فيها البلوى: الرازي ص250، 251
كانت الحال على ما ذكرنا حين جاء الشافعي، وقد تفقه الشافعي أول ما تفقه على أهل الحديث من علماء مكة، كمسلم بن خالد الزنجي، وسفيان بن عيينه، ثم ذهب إلى إمام أهل الحديث (مالك) ابن أنس في المدينة فلزمه، ولقي من عطفه ومن فضله ما جعله يحبه ويجله (عن يونس بن عبد الأعلى أنه سمع الشافعي يقول: (إذا ذكر العلماء فمالك النجم، وما أحد أمن علي من مالك بن أنس) الانتقاء ص23
على أن نشأة الشافعي لم تكن من كل وجه نشأة أهل الحديث، ولا استعداده استعدادهم.
لقد توجه في أول أمره إلى درس اللغة والشعر والأدب وأخبار الناس، ولم يقطع صلته بهذه العلوم حين وصل حبله بأهل الحديث الذين كانوا لا يرونها من العلم النافع (حكي عن مصعب الزبيري قال: كان أبي والشافعي يتناشدان، فأتى الشافعي على شعر هذيل حفظاً وقال: لا تعلم بهذا أحداً من أهل الحديث فانهم لا يحتملون هذا، معجم الأدباء ص380) وكان الشافعي بطبعه نهماً في العلم، يلتمس كل ما يجده من فنونه، وقد ذكر من ترجموا له: أنه اشتغل بالفراسة حين ذهب إلى اليمن، وعالج التنجيم والطب، وربما كان درسهما في إحدى رحلاته إلى العراق، حيث كان التنجيم يعتبر فرعاً من فروع العلوم الرياضية، وكان الطب فرعاً من العلم الطبيعي، والعلم الرياضي، والعلم الطبيعي قسمان من أقسام الفلسفة التي كان مسلمو العراق أخذوا يتنسمون ريحها، وكان الشافعي مغرى بالرمي في شبابه ولم يكن في كهولته يأنف من الوقوف عند مهرة الرماة يدعو لهم ويمدهم بالمال، ويظهر: أنه لم يكن شديداً في جرح الرجال كعادة أهل الحديث، وقد نقل صاحب كتاب (طبقات الشافعية الكبرى) حكاية تدل على سخرية الشافعي من تزمت المزكين.
(قال الشافعي - رضي الله عنه - حضرت بمصر رجلاً مزكياً يجرح رجلاً فسئل عن سببه وألح عليه فقال: رأيته يبول قائماً، قيل وما في ذلك؟ قال: يرد الريح من رشاشه على بدنه وثيابه فيصلي فيه، قيل هل رأيته أصابه الرشاش وصلى قبل أن يغسل ما أصابه؟ قال: لا ولكن أراه سيفعل؟ حـ - 1 - ص 194، 195
وكان في العلماء المعاصرين للشافعي: بل أهل الرأي منهم بله أهل الحديث من لا يراه ممعناً في الحديث (عن أبي عبد الله الصاغاني يحدث عن يحيى بن أكثم قال: كنا عند محمد بن الحسن في المناظرة، وكان الشافعي رجلاً قرشي العقل والفهم، صافي الذهن، سريع الإصابة، ولو كان أكثر سماع الحديث لاستغنت أمة محمد به عن غيره من العلماء (ابن حجر ص59)
ولما ذهب الشافعي إلى العراق استرعى نظره تحامل أهل الرأي على أستاذه مالك وعلى مذهبه، وكان أهل الرأي أقوى سنداً وأعظم جاهاً بما لهم من المكانة عند الخلفاء، وبتوليهم شؤون القضاء، ذلك إلى أنهم أوسع حيلة في الجدل من أهل الحديث وأنفذ بياناً، ويمثل حال الفريقين من هذه الناحية، ما روي عن أمامي أهل الرأي وأهل الحديث: أبي حنيفة ومالك.
روى ابن عبد البر المالكي عن الطبري قال: وكان مالك قد ضرب بالسياط، واختلف فيمن ضربه وفي السبب الذي ضرب فيه قال: فحدثني العباس بن الوليد قال: خبرنا ذكوان عن مروان الطاطري أن أبا جعفر نهى مالكاً عن الحديث: (ليس على مستكره طلاق) ثم دس إليه من يسأله عنه فحدث به على رؤوس الناس (الانتقاء ص43، 44)
أما أبو حنيفة فينقل في شأنه الموفق المكي في كتاب (المناقب) (عن معمر بن الحسن الهروي يقول: اجتمع أبو حنيفة ومحمد ابن إسحاق عند أبي جعفر المنصور، وكان جمع العلماء والفقهاء، من أهل الكوفة والمدينة وسائر الأمصار لأمر حزبه وبعث إلى أبي حنيفة فنقله على البريد إلى بغداد، فلم يخرجه من ذلك الأمر الذي وقع له إلا أبو حنيفة، فلما قضيت الحاجة على يديه حبسه عند نفسه ليرفع القضاة والحكام الأمور إليه، فيكون هو الذي ينفذ الأمور ويفصل الأحكام، وحبس محمد بن إسحاق ليجمع لابنه المهدي حروب النبي - ص - وغزواته قال فاجتمعا يوماً عنده وكان محمد بن إسحاق يحسده لما كان يرى من المنصور من تفضيله وتقديمه واستشارته فيما ينوبه وينوب رعيته وقضاته وحكامه، وسأل أبا حنيفة عن مسألة أراد بها أن يغير المنصور عليه، فقال له ما تقول يا أبا حنيفة في رجل حلف ألا يفعل كذا وكذا أو أن يفعل كذا وكذا ولم يقل إن شاء الله موصولاً باليمين، وقال ذلك بعدما فرغ من يمينه وسكت، فقال أبو حنيفة لا ينفعه الاستثناء إذا كان مقطوعاً من اليمين، وإنما كان ينفعه إذا كان موصولاً به، فقال وكيف لا ينفعه وقد قال جد أمير المؤمنين الأكبر أبو العباس عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن استثناءه جائز ولو كان بعد سنة، واحتج بقوله عز وجل (واذكر ربك إذا نسيت)؟ - فقال المنصور لمحمد بن إسحاق: أهكذا قال أبو لعباس صلوات الله عليه؟ قال نعم! فالتفت إلى أبي حنيفة - رحمه الله - وقد علاه الغضب، فقال تخالف أبا العباس فقال أبو حنيفة لم أخالف أبا العباس، ولقول أبي العباس عني تأويل نخرج على الصحة ولكن بلغني أن النبي - ص - قال (من حلف على يمين واستثنى فلا حنث عليه). وإنما وضعناه إذا كان موصولاً باليمين، وهؤلاء لا يرون خلافتك. لهذا يحتجون بخبر أبي العباس، فقال له المنصور كيف ذلك؟ قال: لأنهم يقولون إنهم بايعوك حيث بايعوك تقية وإن لهم الثنيا متى شاءوا يخرجون من بيعتك ولا يبقى في أعناقهم من ذلك شيء قال هكذان قال: نعم فقال المنصور: خذوا هذا يعني محمد بن إسحاق فأخذ وجعل رداؤه في عنقه وحبسوه) ج1 ص142 - 144
كان طبيعيا: أن يجادل الشافعي عن أستاذه وعن مذهب أستاذه وقد نهض الشافعي لذلك قوياً بعقله، قوياً بعلمه، قوياً بفصاحته قوياً بشباب في عنفوانه، وحمية عربية، وقد رويت لنا نماذج من دفاع الشافعي عن مالك ومذهبه: (عن محمد بن الحكم قال: سمعت الشافعي يقول: قال لي محمد بن الحسن: صاحبنا أعلم من صاحبكم يعني (أبا حنيفة ومالكاً) وما كان على صاحبكم أن يتكلم وما كان لصاحبنا أن يسكت، قال فغضبت وقلت نشدتك الله من كان أعلم بسنة رسول الله (صلعم) مالك، لكن صاحبنا أقيس، فقلت: نعم ومالك أعلم بكتاب الله تعالى وناسخه ومنسوخه وسنة رسول الله (صلعم) من أبي حنيفة فمن كان أعلم بكتاب الله وسنة رسوله كان أولى بالكلام) الانتقاء ص24
كان هذا الحجاج عن مذهب مالك، في قدوم الشافعي إلى العراق أول مرة، وأقام الشافعي في العراق زمناً غير قصير ودرس فيه كتب محمد بن الحسن وغيره من أهل الرأي فيما درس في العراق ولازم محمد بن الحسن ورد على بعض أقواله وآرائه نصيراً لأهل الحديث.
ولاشك أن الشافعي في ذلك العهد كان متأثراً بمذهب أهل الحديث ومتأثراً بملازمة عالم الهجرة فهو كان يدافع عن مذهبه يدافع حميته لأستاذه وأنصار أستاذه المستضعفين.
أما البزاز الكردري فهو يروي في سبب اختلاف الشافعي على محمد بن الحسن روايات يقول فيها: (عن عبد الرحمن الشافعي: لم يعرف الشافعي لمحمد حقه وأحسن إليه فلم يف له. وعن إسماعيل المزني قال الأمام الشافعي: حبست بالعراق لدين فسمع محمد بي فخلصني فأنا له شاكر من بين الجميع. وعن ابن سماعة قال: أفلس الشافعي غي مرة فجاء إلى محمد أصحابه فجمع له مائة ألف فكان فيه قضاء حاجته ثم أفلس مرة أخرى فجمع له سبعين ألف درهم ثم أتاه الثالثة، فقال: لا أذهب مروءتي من بين أصحابي، لو كان فيك خير لكفاك ما جمعت لك ولعقبك وكان قبل هذا مولعاً بكتبه يناظر أوساط أصحابه ويعد نفسه منهم، فلما أتى محمداً الثالثة أظهر الحلاف) المناقب - ج2 - ص150، 151
والشافعي نفسه يرد على ذلك، فقد أخرج الحاكم من طريق محفوظ بن أبي توبة قال: سمعت الشافعي يقول: يقولون. إني إنما أخالفهم للدنيا، وكيف يكون ذلك والدنيا معهم؟ وإنما يريد الإنسان الدنيا لبطنه وفرجه، وقد منعت ما ألذ من المطاعم ولا سبيل إلى النكاح، وعني لما كان به من البواسير ولكن لست أخالف إلا من خالف سنة رسول الله. ابن حجر ص76 ولما عاد الشافعي إلى بغداد في سنة 195هـ - 810 - 811م ليقيم فيها سنتين اشتغل بالتدريس، والتأليف وروى البغدادي في كتاب (تاريخ بغداد):
(عن أبي الفضل الزجاج يقول: لما قدم الشافعي إلى بغداد وكان في الجامع إما نيف وأربعون حلقة، أو خمسون حلقة فلما دخل بغداد مازال يقعد في حلقة حلقة ويقول لهم: قال الله وقال الرسول وهم يقولون قال أصحابنا حتى ما بقي في المسجد غيره) ص68، 69
واختلف إلى دروس الشافعي جماعة من كبار أهل الرأي كأحمد بن حنبل وأبي ثور فانتقلوا عن مذهب أهل الري إلى مذهبه، ويروى عن أحمد ابن حنبل: أنه قال (ما أحد من أصحاب الحديث حمل محبرة إلا وللشافعي عليه منة) فقلنا: يا أبا محمد كيف ذلك؟ (قال إن أصحاب الرأي كانوا يهزؤون بأصحاب الحديث حتى علمهم الشافعي وأقام الحجة عليهم) الانتقاء ص76
ووضع الشافعي في بغداد كتاب: (الحجة) (روى ابن حجر عن البويطي: أن الشافعي قال: اجتمع علي أصحاب الحديث فسألوني أن أضع على كتاب أبي حنيفة فقلت: لا أعرف قولهم حتى أنظر في كتبهم، فكتبت إلى كتب محمد بن الحسن فنظرت فيها سنة حتى حفظتها ثم وضعت الكتاب البغدادي يعني (الحجة) ص76
ويظهر من ذلك: أن مذهب الشافعي القديم الذي وضعه في بغداد كان في جل أمره رداً على مذهب أهل الرأي وكان قريباً إلى مذهب أهل الحديث.
وروى البغدادي عن حرملة: أنه سمع الشافعي يقول: (سميت ببغداد ناصر الحديث) ج2 ص68
ونقل ابن حجر عن البيهقي: أن كتاب الحجة الذي صنفه الشافعي ببغداد حمله عنه الزعفراني، وله كتب أخرى حملها غير الزعفراني منها: كتاب السير، رواية أبي عبد الرحمن أحمد بن يحيى الشافعي) وفي كتاب كشف الظنون:
((الحجة) الإمام الشافعي، وهو مجلد ضخم ألفه بالعراق إذا أطلق القديم من مذهبه يراد به: هذا التصنيف، قاله الأسنوي في المبهمات ويطلق على ما أفتى به هناك أيضاً)
ثم انتهى الشافعي إلى مصر فآزره تلاميذ مالك حتى إذا وضع مذهبه الجديد وأخذ يؤلف الكتب رداً على مالك تنكروا له وأصابته منهم محن (قال الربيع: سمعت الشافعي يقول: قدمت مصر لا أعرف: أن مالكاً يخالف من أحاديثه إلا ستة عشر حديثاً فنظرت فإذا هو يقول بالأصل ويدع الفرع، ويقول بالفرع ويدع الأصل.
ثم ذكر الشافعي في رده على مالك: المسائل التي ترك الأخبار الصحيحة فيها بقول واحد من الصحابة أو بقول واحد من التابعين أو لرأي نفسه
ثم ذكر: ما ترك فيه أقاويل الصحابة لرأي بعض التابعين أو لرأي نفسه وذلك: أنه ربما يدعى الإجماع وهو مختلف فيه
ثم بين الشافعي أن ادعاء: أن إجماع أهل المدينة حجة، قول ضعيف. الرازي ص26
ويروي بعض الرواة: أن الشافعي إنما وضع الكتب على مالك لأنه بلغه أن بالأندلس قلنسوة لمالك يستسقي بها وكان يقال لهم: قال رسول الله (صلعم) فيقولون: قال مالك، فقال الشافعي: إن مالكاً بشر يخطئ فدعاه ذلك إلى تصنيف الكتاب في اختلافه معه وكان يقول استخرت الله تعالى في ذلك. ابن حجر ص76
ومذهب الشافعي الجديد الذي وضعه في مصر هو الذي يدل على شخصيته وينم عن عبقريته ويبرز استقلاله
(سئل أحمد ما ترى في كتب الشافعي التي عند العراقيين أهي أحب إليك، أم التي بمصر؟ قال: عليك بالكتب التي وضعها بمصر فإنه وضع هذه الكتب بالعراق ولم يحكمها ثم رجع إلى مصر فأحكم تلك كما يرويه الذهبي في تاريخه الكبير (هامش الانتقاء ص77)
(يتبع)