مجلة الرسالة/العدد 279/من مآسي الحياة
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 279 من مآسي الحياة [[مؤلف:|]] |
في رمضان ← |
بتاريخ: 07 - 11 - 1938 |
شيطان!
كان الناس منذ عهد قريب يقرءون في القصص الغربية أفانين من فجور النفس وقحة الهوى وبغي الفتنة، فتفيض عيونهم من الدمع رحمة للزوجة التي أعمتها الغواية، وللزوج الذي أشقته الخيانة، وللطفل الذي أيتمه الطلاق؛ ثم يُسَرِّي عنهم أنها فجائع إن تكن في الغرب فنحن في الشرق، وإن تكن من زور الخيال فنحن في حقيقة الواقع. حتى عشنا معيشة أوربا، وفتحنا دورنا لكل طارق، وصدورنا لكل متودد، فأصبح ما يجري هنا صورة لما يجري هناك، وما كان معدوداً من خداع الفن صار جارياً على نظام الطبيعة!
عرفت زوجين شابين تعارفا بالجمال وتآلفا بالحب، ثم عاشا على اختلاف الدار والجنس معيشة أهل الجنة: صفاء غير مشوب، وولاء غير مكذوب، ورخاء في ظلال النعيم والأمن يبسط المشاعر وينشر الأنس ويجمِّل الحياة
كان الزوج مثلاً في الإخلاص والرعاية لزوجه، فلا يفكر إلا فيها، ولا يسعى إلا لها، ولا يفهم وجوده إلا مضافاً إليها ومتصلاً بها. وكانت الزوجة آية في الوفاء والطاعة لزوجها، تقاسمه هم العمل، وتساهمه دعة المنزل، وتبادله رجاء المستقبل، وتتقلب معه في الشدة والخفض غير متبرمة ولا متجهمة. وكانا معاً بهجة الأسرة وأنس الأصدقاء، فلا يخلو بيتهما من سمر، ولا ليلهما من زيارة، حتى أصبحا في بيئتهما الخاصة مثلاً مضروباً في الزوجية الموفقة والحياة السعيدة
وكانت حياتهما الأوربية تقضي عليهما أن يكابدا التعرف العارض والخلاط المستمر. والعصمة من شرور الأخلاق في مثل هذه الحال لا تجد لها مناطاً إلا ثقة الزوج في الزوج، واطمئنان النفس إلى النفس. وثقة الرجل المثقف في المرأة المثقفة أصبحت في المجتمع الحديث من القضايا المسلّمة والأمور المفروضة. فلا ينبغي أن تحوم حولها شبهة، ولا يقوم عليها جدل
وكان فيمن يختلف إلى بهوهما الأنيس الباش فتى من أهل الرواء، خداع الملامح، خلاب الأحاديث، يعد نفسه في الطراز الأول من ثقافة الفكر والخلق. تقلب طويلاً بحكم منصبه في البيئات الدبلوماسية المختلفة، فحذق الكلام والهندام، ومهرَ الغناء والرقص، وأحك النظرة التي تنفذ، والبسمة التي تقول، واللفتة التي تعجب؛ وامتلأ ذهنه من صور الدنيا وحوادث الناس، فكان جميل المحاضرة عذب المفاكهة حتى ليستولي على المجلس فلا يترك فيه مسمعاً إلى أحد. وكان مَذاعاً يتمزى على زملائه، ويتبجح بالحظوة عند رؤسائه، ويلقي في روع السامع أن له المكانة المرفوعة والكلمة المسموعة والغد المضمون. فاستطاع بكل أولئك أن يخدع الزوجين بمظهره عن جوهره، فكبر في نفس السيد، وحلا في عين السيدة
ودخل هذا الفتى جنة الزوجين دخول إبليس، فحرك فيها السَّموم وسَفَى عليها الكدر! فلا الزهر نفاح باسم، ولا النسيم رِخيٌّ أرج، ولا الجو بهيج طلق، ولا العش الصادح في أفياء الشجر ناعم آهل! وسوس الشيطان لحواء قال لها: إن السعادة في بيت غير هذا البيت، والثروة عند رجل غير هذا الرجل، والجاه في منصب غير هذا المنصب! وهذه المزايا التي لك على الأتراب في الجسم والفكر والطبع لم يجملك بها الله لتحبسيها في هذا القفص الشعري الذي تهدهده الأحلام على نغمات الحب والأمل. ليست الحياة كلها شعراً يا حواء! وإن بجانب النفس الشاعرة نفوساً أخرى هواها في المال واللهو والسلطان والعظمة. ومن زعم أن نعيم الدنيا في الغزل، وزينتها في الرياض، وبهجتها في المنى، فقد أنكر المعروف وتجاهل الواقع. وكان الشيطان المُغْوِي حِدْثَ نساء، فعرف كيف يندس بالخديعة إلى الزوجة الضعيفة، فأصغت إلى نزغاته بأذنها ثم بقلبها. ثم أصبحت فإذا زوجها مسؤوم، وبيتها موحش، وعيشها تافه؛ وأحست برباط الزوجية يشتد على حناياها اشتداد الوثاق على ضلوع الأسير. لم تعد الجنة في عينها هي الجنة، ولا آدم في قلبها هو آدم! وأوهمها الخيال أو الخبال أن النعيم المقيم هو في أكناف إبليس على متون السحب وربى الجبال وشطئان الأبحر. ولكن عشر سنين قضتها مع الزوج الوفي في نشوة متصلة من الحب المواسي لا يمكن أن تخفت أصداؤها العذبة في لحظة. فكانت كلما تخلصت من فعل الغواية صارحت زوجها بأنها تحب هذا الفتى حباً غطى على بصرها وبصيرتها فهي لا ترى ولا تفهم. وسألته يوماً أن يحتال لبرئها من هذا الخبل، فاتفقا على أن ترحل إلى أوربا تنشد في أجوائها المختلفة السكينة والسلو، حتى إذا أقبل الصيف وتعطل العمل لحق بها زوجها، فربما إنجاب الغشاء عن العين والقلب فأبصر الأعمى ورشُد الغوي! ولكن الفاجر علم بسفرها المفاجئ فطلب إجازة طويلة من الوزارة التي يعمل فها وتبعها إلى مصيفها وهي وحدها توازن في هدوء العزلة بين ماضي الزوج الواضح ومستقبل الحبيب المبهم، فأسقَط من يدها الميزان، وأيقظ في نفسها الحيوان، وأفسدها على نفسها وعلى زوجها وعلى أهلها فساداً لا يرجى معه صلاح!
ثم امتدت يد القدر تحل عقدة الرواية، فإذا الزوج وحيد يعاني غصص الألم، والزوجة مطلَّقة تتجرَّع مرارة الندم، والشيطان الرجيم يقطع البحر عائداً إلى منصبه الكبير في وزارة الخارجية يشارك في أمور الدولة على هذا الخلق، ويتصل بالأسر المخدوعة على هذا الوجه. .!
أحمد حسن الزيات