الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 279/فردريك نيتشه

مجلة الرسالة/العدد 279/فردريك نيتشه

بتاريخ: 07 - 11 - 1938


للأستاذ فليكس فارس

(تتمه)

وفي اعتقادنا أن نيتشه قد فاق كل كاتب في تصويره واجب الإنسان نحو الحياة، الدنيا لأن العلماء الماديين من جهة اعتبروا الحياة زائلة فما اهتموا لرقيّ الإنسان الأدبي فيها قدر اهتمامهم بإطالة حياته وإيلائه التنعم الأوفر بالجهد الأقل، ولأن المفكرين المؤمنين، من جهة أخرى، ما كان بوسعهم أن يفكروا للأرض ويحصروا كل جهد فيها كأنها دارُ قرارٍ لأن العمل للأرض ليس إيمانهم كله بل هو نصف إيمانهم، أما نيتشه فبعد أن أقفل على تفكيره وخياله كل نافذة يمكن للروح أن تتطلع منها إلى السماء، وبعد أن تاقت نفسه إلى الخلود فاستنزله كمعنى لهذه الأرض كما يقول جاعلاً هذا التراب وطنَ الإنسان الدائم، لم يسعه إلا توجيه كل قواه لتصوّر لإنسانية تتمتع كل ما يمكن اعتصاره من الدنيا وتبلغ عليها من الرقي مرتبة الألوهية

تلك حقائق لم تفت ثلاثة من أعلام الشرق العربي أهابوا بنا إلى ترجمة زرادشت ونشره في هذه البلاد لتسديد عزم الشبيبة في هذه المرحلة التي يتوقف على نهضتنا فيها مستقبلنا واستعادة أمجاد تاريخنا. أولئك الثلاثة هم المغفور له السيد مصطفى صادق الرافعي فقيد الشرق والعروبة والإسلام، والأستاذ حافظ عامر بك قنصل مصر العام في الآستانة مؤلف رسالة الحج التي كان لها دويٌّ في أوساط المفكرين، والأستاذ أحمد حسن الزيات القابض على آداب الغرب باطلاعه وتفكيره والرافع عَلَمَ الآداب الشرقية بقلمه، وقد تفضل الأستاذ المشار إليه فنشر في مجلته الرسالة أكثر من ربع الكتاب في مدى سنة، ولولا تقديرنا أن الزمان سيطول على نشره برّمته لما كنا بادرنا إلى طبعه كاملاً مستقلاً

إن ما دعانا وأصحابنا المشار إليهم إلى تقرير ترجمة زرادشت هو أننا نظرنا إلى فلسفته من الوجهة الملامسة للمبادئ الدينية الاجتماعية التي نتجه إلى أحياء حضارتنا القديمة على أساسها، وقد رأينا أن هذا المؤلف الفريد في نوعه ليس من الكتب التي تنقل إلى بياننا لما لها من قيمة فلسفية وأدبية فحسب، بل هو من الكتب التي يجدر بالناشئة العربية درسها كما يدرسها طلاب الجامعات في كل قطر أوربي، فإن كتاب زرادشت قد أثر التأثير الأكب تطور الحركة الفكرية في أواخر القرن التاسع عشر في عالم الغرب، واشتمل من المبادئ على ما كان ولا يزال محور الخلاف لمستحكم بين ذهنيته وذهنية الشرق العربي بوجه خاص. ولقد مضى على ظهور هذا الكتاب زهاء نصف قرن ولم يكن العالم العربي في ذلك العهد على اتصال وثيق بالحركة الفكرية الغربية، فلم يسمع في هذه البلاد بنيتشه وفلسفته إلا بمقالات موجزة، وكل ما عرف عنه هو أنه يدعو إلى التحرر من ربقة الأوهام واطرح الزهد واليأس والاتجاه إلى إيجاد الإنسان المتفوق.

ولعل المفكرين يسلمون معنا بأن خلوّ المكتبة العربية من هذا المؤلف الفريد الذي ترجم إلى جميع اللغات الحية فاتخذ أنموذجاً بين أبنائها للصراحة والإخلاص في طلب الحقيقة يعد نقصاً في هذه المكتبة ويسجل قصوراً علينا، لذلك اقتحمنا إعارة بياننا لكتاب زرادشت الذي قالت فيه الموسوعة الكبرى إنه لا يعد أروع ما كتب نيتشه فحسب، بل أروع ما كتب في اللغة الألمانية على الإطلاق.

ولابد في ختام تمهيدنا من لفت المفكرين إلى فصل من كتاب زرادشت عنوانه (بين غادتين في الصحراء) وفيه نشيد لخيال زارا (صفحة 254) فإننا وقفنا عنده ملياً لأنه من نوع البيان المستغرق في الرمزية فلا يفهمه القارئ إلا بحسه الكامن وقد لا يتفق اثنان على تأويله تأويلا واضحاً جلياً.

ولو أننا ترجمناه بالحرف لجاء كأحد الرسوم التي ابتدعها أنصار التكعيب يقف المشاهد أمامها فلا يدري أجبلا يرى أم شجرة أم إنساناً.

لذلك اضطررنا إلى ملء بعض الفراغ بين الخطوط، وإلى الالتجاء لكسر النتوءات عند نقل بعض المكعبات المبهمة الصارمة، فجاء هذا النشيد أقرب إلى البيان المألوف دون أن يخرج عن أصله الرمزي الذي يحتاج إلى كثير من الاستغراق في تفهم معانيه

وخفنا أن نكون تجاوزنا حد الخطوط الأصلية في النقل فرجعنا إلى عالم معروف من علماء الغرب ممن أحاطوا بفلسفة نيتشه وذهبوا إلى حد بعيد في تحليلها وهو حضرة الدكتور روبرت ربننجر الأستاذ في جامعة فينا نعرض عليه ما رأيناه في رموز نشيد الصحراء، ونسأله إقرارنا على ما أصبنا فيه وتصحيح ما قد نكون ضللنا في تبيانه، فوردنا جوابه مؤرخاً في 19 أبريل من هذه السنة وفيه يقول: (إنني أرى خلاصة معنى النشيد في فقرته الأولى المكررة في آخره وهي: إن الصحراء تتسع وتمتد، فويل لمن يطمح إلى الاستيلاء على الصحراء) فإن نيتشه قد رمز بالصحراء إلى الوجود القاحل الذي لا غاية له، وقد أتيت على بحث هذا الرمز في كتابي (جهاد نيتشه من أجل معنى الحياة وغايتها)

(أما سائر ما في النشيد فأراه يرمي إلى وصف أجواء الصحراء المتمتعة بالحرية وهي بابتعادها عن المعمور تولى أبناءها الحياة الساذجة الطاهرة على نقيض ما تورثه ثقافة أوربا الشمالية من الخشونة والكثافة

أما كلمة (صلاة) فقد أصبتم في ترجمتكم إياها (حيَّ على الصلاة)

(هذا وقد يكون النبي محمد هو المرموز إليه بأسد الصحراء ونذيرها على حسب تأويلكم)

لقد سرنا وأيم الله أن يوافقنا هذا العالم على تأويلنا وإن يكن ذهب في تفسير اتساع الصحراء وامتدادها إلى غير ما ذهبنا إليه، فقد كنا صارحناه بأن ما فهمناه من أتساع الصحراء وامتدادها وتهديد من يطمح للاستيلاء عليها إنما هو انبعاث الإيمان الحق بالفضائل العليا وتمردها على الجحود والتضعضع في الحياة

وقد كان دليلنا على صحة مذهبنا ما ورد في النشيد من صراحة تؤيدنا خاصة في الفقرة الأخيرة وهي:

(ارتفع يا مظهر الجلال، ولتهب مرة أخرى نسمة الفضيلة

(ويا ليت أسد الفضائل يزأر أيضاً أمام غادات الصحراء، فإنه أقوى ما ينبه أوروبا ويحفزها إلى النهوض

(وهأنذا ابن أوربا لا يسعني إلا الخشوع لدوي هذه الآيات البينات)

للعالم الأوربي تأويله ولنا تأويلنا، وللصحراء في بلاد العرب رموزها فلندع للأزمان تأويلها ولنكرر ما جاء في نشيد الجاحد الطامح إلى الخلود

(إن الصحراء تتسع وتمتد، فويل لمن يطمح إلى الاستيلاء على الصحراء)

إن عبير الشرق لا يضوع من نشيد الصحراء فحسب - بل هو يفوح من كل حكمة ينطق بها زرادشت أمام مشاهد التضعضع الأوربي، ولسوف يقف رجال العلم أبناء الضاد عند كثير من أقواله فيعرفون فيها آية من الآيات التي أوحيت لأنبيائهم أو ألهمت لحكمائهم أو حديثاً لذلك الأمي الأعظم الذي تناول أدق القضايا الاجتماعية فردها إلى مكارم الأخلاق ليحلها جميعاً

إننا ونحن نخط هذه الأسطر نتذكر صديقنا فقيد الشرق المغفور له السيد مصطفى صادق الرافعي الذي قل من جاراه في تفهم دين الله والشعور بالقومية العربية ووحدة الإنسانية. إننا لنذكره ونحس بما كان يمكننا أن نستمده من ثقافته العريقة ومعارفه الواسعة من آيات وأحاديث وحكم يتجلى فيها ما أجمع مفكرو الغرب على الخشوع أمامه من نظرات زرادشت الصائبات في اتجاهات العالم المتمدن وفي طلب رقي الإنسان والاهابة به إلى العمل في الأرض كأنه خالد عليها لا يموت

غير أننا إذا كنا حرمنا الآن من هذه النجدة في كتابة تمهيدنا هذا فلن تحرم البلاد أعلاماً يقومون بهذا الواجب نحو مهبط وحي الله ومنبت العباقرة من السلف والمعاصرين

فليكس فارس