مجلة الرسالة/العدد 278/لا كرامة لنبي في وطنه!
→ التعليم والمتعطلون في مصر | مجلة الرسالة - العدد 278 لا كرامة لنبي في وطنه! [[مؤلف:|]] |
مصدر الهتلرية ← |
بتاريخ: 31 - 10 - 1938 |
ولي الدين يكن يتجاهله المصريون
للأستاذ كرم ملحم كرم
مما يؤلم أن ليس لأديب مصر ولي الدين يكن صدى مسموع في وادي النيل وهو الذي ملأ وادي النيل صيحات وأغاريد، فالمصريون إخوانه لا يحفلون به كما يحفلون بسواء من رجال الأدب والعلم، فكأنه لم يكن، مع أن ولي الدين بلغ مكانة في الأدب والبيان يحن إلى بلوغها عدد وافر من بني قومه. ومعظم هؤلاء الذين يكتبون اليوم في مصر لا يجيدون الكتابة كما أجادها ولي الدين. فان لولي الدين في الإنشاء أسلوباً لم يسبقه إليه منشئ، وما جاراه فيه مقلد، فارتقى إلى ذروة سامية كان فيها نسيج وحده. فنفحنا بلغة القرآن كما نفحنا جبران خليل جبران بلغة التوراة، وظهرت لنا فيه الفخامة، والتشبيه البكر، والرقة، والبلاغة. وقد يكون في بيانه أقدر كاتب عرفته مصر، فما في أسلوبه تقعر ولا تحذلق ولا ترهل، بل قوة ورسوخ، قوة مصدرها القلب، ورسوخ لحمته الإخلاص؛ فليس يكتب ولي الدين ليملأ فراغاً بل ليجود بما تزخر به نفسه من عواطف وأشجان.
وإن يكن ثمة أديب يدل إنشاؤه عليه فهو ولي الدين، ففيما يكتب تجري نفسه: فيما يكتب الأنفة، وولي الدين أنوف. فيما يكتب الجرأة، وولي الدين جريء؛ فيما يكتب ثورة على الظلم وولي الدين ثائر على الظلم. فيما يكتب عن العظمة، وولي الدين عظيم. في أصله وفي قلمه. فان إنشاءه إنشاء ملوك، وهو من حفدة أصهار الملوك والسلاطين
لقد استعان المنفلوطي بعواطف سواه لما كتب، فزخرف ونمق؛ وذلك حسبه، على حين أن ولي الدين خلق، وهذا هو المنشئ البليغ. كتب ما بحسه بلغة رفيعة وجيزة تنطلق كالسهم فلا انحناء ولا التواء؛ ومع كونها لغة ما قل ودل فأنها لتموج بالزخرف كالعروس
ولولي الدين في الأدب أنداد جروا مجراه في الأنفة والسمو والنبل. ومن هؤلاء أبو فراس الحمداني، والشريف الرضي. أبو فراس طمع في العرش الحمداني والشريف الرضي في الخلافة. وبين ولي الدين وبينهما شبه متعدد الوجوه في عواطفه وشعره
ولي الدين عانى وحشة المنفى، وأبو فراس ذاق مرارة الأسر. أبو فراس عاش ومات مقهوراً، وولي الدين عاش ومات مقهوراً. شعر المتنبي طغى على شعر أبي فراس، وشع شوقي طغى على شعر ولي الدين. على حين أن قصيدة أبي فراس: (أراك عصي الدمع شيمتك الصبر. . .) تساوي ديواناً. ولا جدال في أن صاحبنا أبا الطيب يتمنى لو تكون له، إلا أن عواطف المتنبي بعيدة كل البعد عن رقة أبي فراس في غزله بعد رقة شوقي عن طبع ولي الدين
فلسنا نحس ونحن نقرأ شوقي قلبه يجول في السطور. فما هناك غير شاعر ينقر العود ليطرب سامعه، وربما ليرفعه إلى أعلى ذروة من عالم الطرب؛ على حين أن ولي الدين في شعره الغزلي يثب وثباً إلى القلب ويتلاعب به ويملكه ويذله ويدعوه إلى الإقرار مكرهاً بأنه فعل فيه فعله، وبأنه تأثر كل التأثر به، وبأن ما في هذا الشعر يحاكي عواطفه وميوله؛ فهذه نفسه مسبوكة في أبيات من الشعر ذوات قواف وأوزان، بينما هو يقف أمام شوقي وقفة الإعجاب، وقفة الاحترام والخشوع، فيتأثر عقله لا قلبه، شأن كل منا أمام الأهرام وقلعة بعلبك وخرائب تدمر، فنعجب بالصانع والمبتكر دون أن يكون لهذا الإعجاب صلة بالقلب. فالقلب يظل مستقراً في زاويته لا تهتز منه الأوتار، على حين أن تغريدة بلبل وزقزقة عصفور تحتلان منه الصميم
وهذا موقف أبي فراس من المتنبي: المتنبي شاعر القوة وأبو فراس شاعر المهجة المقروحة، والاثنان لا يلتقيان. فالمتنبي لما عاد من مصر بالإخفاق، واحتل قلبه اليأس لم يفكر في سوى الهجو، في غير ضرب العصا، فما جرى في منظومة قلبه بل حقده، بل أعصابه الثائرة وحنقه. فأطلقها تغلي كالمرجل الجياش:
عيدٌ بأية حال عدت يا عيدُ ... بما مضى أم لأمر فيك تجديد؟
أما الأحبة فالبيداء دونهم ... يا ليت دونك بيد دونها بيدُ
وهذا شعر، ولكنه شعر حجري مقدود من الجلمود!
وأبو فراس يئس كالمتنبي لدى وقوعه في الأسر، ولا نكير في أنه كان أشد من المتنبي يأساً وقد نزعت منه حريته وبات تحت رحمة ملك الروم. على أن هذا اليائس لا يضرب بالعصا وهو ينظم الشعر، فلا يقول كالمتنبي:
لا تشتر العبد إلا والعصا معه ... إن العبيد لأنجاس مناكيد
بل ينشد: أقول وقد ناحت بقربي حمامة: ... أيا جارتا هل تشعرين بحالي؟
معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى=ولا خطرت منك الهموم ببال
أيضحك مأسور وتبكي طليقة ... ويسكت محزون ويندب سالي؟
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة ... ولكن دمعي في الحوادث غالي
وهذا الشعر يائس، ولكن القلب يتكلم فيه، لا الحنق ولا العصا، وليس منحوتاً في صخر!
في طليعة الشعراء العاطفيين في مصر إسماعيل صبري وولي الدين. وما اشتعلت العاطفة إلا في الأيام الأخيرة في صدر شوقي. ولقد اندفع إليها مضطرا. حمله عليها أبطال رواياته. فلا يسعنا القول أن شوقي شاعر عاطفي لكونه أنطق ليلى العامرية ومجنونها بالغزل والنسيب. فالموقف جره إلى ما كلف نفسه إياه. فنطق بيانه لا قلبه. كان مصوراً لا حساساً يعطينا من كبده
وفي هذه الناحية اختلف ولي الدين عن شوقي: ولي الدين كان عبد العاطفة. وكل شعره شذ به عن العاطفة كبا فيه. والدليل شعره السياسي. فأين هذا الشعر من القصائد المصهور فيها قلب ولي الدين؟
فبينا أنت إزاء ولي الدين العاطفي في حضرة شاعر من الطبقة الأولى إذا بك تجاه شعره السياسي أمام شاعر من الطبقة الثانية بل الثالثة، وأين قصيدة:
الله في وجدٍ وفي مأمِلِ ... من لي بعود الزمن الأول
قد كنت أشكو عّذلي في الهوى ... وها أنا أثنى على عّذلي
مللت عذب اللوم جهلاً به ... لو كنت أدري الحب لم أملل
من قصيدته في تهنئة سيد مصر يومذاك عباس حلمي الثاني:
هلموا بنا نحو الأمير نسَّلم ... سلام على عباس مصر المعظم
ألا أن في الأكباد شوقاً مبرحاً ... إليه فقد كادت من الشوق تدَّمى
ففي القصيدة الأولى تكلم قلب ولي الدين فأسمعنا أبرع الشعر، وفي الأخرى تكلم لسانه بما تقضي به المجاملات فعدا سجيته ولم يكن من الظافرين.
وهذه حال ولي الدين في قصائده كافة: يجلي في شعر العاطفة ويكبو فيما جاوز هذا الشعر. ولسنا بحاجة إلى الأمثال وهي موفورة في كل قصيدة من نظم الرجل. وأي جسامة في الفرق بين قصيدته:
أعلمت الهوى الذي أخفيه ... أي سر في القلب لم تعلميه؟
هو مأواك منذ كان وهل يح ... جب شيء في البيت عن ساكنيه
وقصيدته في رثاء أحمد خيري بك:
يا روح خيري حين جدَّ الرحيلْ ... قفي قليلا وكفانا الدليل
الموت قد بت الذي بيننا ... لم يبق منه غير حزن طويل
فلا صلة بين القصيدتين ولا قرابة: فكأن هذه من نبع وتلك من نبع آخر. وعلى المرء أن يعالج ما خلق له، وولي الدين على سمو منزلته في الأدب، وهو ممن يمشون أبداً في الطلائع والنظائر، لم يدرك الفوز فيما لم ينشأ عليه. لقد تفوق في شعر العاطفة وكان عليه أن يملأ به ديوانه فحسب، لا أن يجري على ما ليس فيه!
ومع أن من حق مصر أن تفاخر برجل موهوب من أبنائها كولي الدين فإنها لتحدق إليه شزراً كأنما يضيمها أن تتعرف إليه على حين تغبطها سائر البلاد العربية على أديب فريد في نثره وفريد في شعره العاطفي في هذا العصر
يقول الناقمون على الرجل إنه ساير الإنكليز فوقف عليهم قلمه، ورحب باحتلالهم وادي النيل، وجوابنا أن الإنكليز ساعدوا على ترقية مصر، فان يدهم في عمرانها غير منكورة عليهم. وفئة محترمة من زعماء مصر، وبينهم من تربعوا في العرش المصري وكانوا منه كالسوار من المعصم، اعترفت للإنكليز باليد البيضاء على وادي النيل. فان يكن ولي الدين جارى هذه الفئة فلا عليه. وقد سمعنا النحاس باشا نفسه، زعيم الوفد المصري، يتدفق بالشكر لإنكلترا على أثر إبرام المعاهدة المصرية الإنكليزية!
وثمة من ينعى على ولي الدين عبثه بالتقاليد، إذ حارب الخليفة، وتزوج مسيحية، وأطلق على أبنائه أسماء غريبة، فأنكره ذووه ومالوا عنه فعرف البؤس المرير:
تعوَّد كلٌّ بؤسها ونعيمها ... وعشنا على بؤسي ولم نتعوَّد
على أنه ما شأن الأدب في حياة الأديب الخاصة؟ هذه في واد وهو في واد. وإذا جئنا ندين الأدباء في حياتهم الخاصة اضطرنا إلى حذف تسعة أعشارهم من السجل. وهو مجهود سخيف! ولقد بسم الحظ لولى الدين، ولكن ما بسم له حتى مات، وهذا نصيب المنكود من دنياه. كان ولى الدين من مؤيدي السلطان حسين كامل. فلما تولى السلطان حسين عرش مصر قرَّب إليه الأديب الموهوب؛ غير أن الموت زاحم مولى مصر على ابنها البار فدهمه داء الربو فمات وهو في حلوان، وقيل إنه مات بالسل
ومهما يكن فليس ولي الدين ممن يجب الإغضاء عنهم وله على البيان العربي يدٌ طاهرة. عدا أن محاولة طمسه لن تأتي بفائدة؛ والغد كفيل بأن يحييه. فما أبقى ولي الدين من آثار أدبية يضمن له الخلود. فليس من أديب في مصر يأتي فوراً تلو شوقي سوى ولي الدين، أي إن إنكاره وغمط فضله لا يؤثران فيه، بل يدلان على نية فاسدة. وإننا لننزه القوم في مصر عن التحزب في الأدب، ويكفيهم أن يعلموا أن التحزب العباسي قضى على تسعة أعشار منظوم بشار بن برد وظل بشار من الخالدين!
(بيروت)
كرم ملحم كرم