مجلة الرسالة/العدد 278/إلى شباب القصصيين
→ الكميت بن زيد | مجلة الرسالة - العدد 278 إلى شباب القصصيين [[مؤلف:|]] |
رسَالة الشعر ← |
بتاريخ: 31 - 10 - 1938 |
كيف احترفت القصة
قصة الآنسة (ج. ب. ستيرن)
للأستاذ احمد فتحي
في تعاون خبيث بين عقلي الواعي والباطن، يبدو لي دائماً أنني كنت - حتى الثامنة عشرة - قد أرصدت عمري كله لإخراج قصتي الأولى. ولكنني حين أرجع البصر في الموضوع؛ أتبين أنني لم أخرج هذه القصة الأولى إلا بعد أن بلغت الحادية والعشرين. وإن أبعث للإنسان على استدعاء صور الماضي أن يكون قد كتب قصته الأولى وهو لم يودع من عمره سوى ثمانية عشر ربيعاً، وأن تكون قصته تلك على جانب من الأمانة الفنية، كما أذكر من أمر قصتي الأولى (يانتومايم)!
وحين أنظر الآن إلى القصص الأولى لكثير من الكتاب المعاصرين، أجدها تتساوى في السطحية والضآلة وإظلام آفاق التفكير. فما أجد بينها واحدة كانت خليقة أن تبشر بخير، غير أنها جميعاً تنطق أفصح النطق بما أحب أن أدعوه (فوضى السخرية!). . . والحقيقة أنني كنت أميل كثيراً إلى القصص الساخر إلى ما قبل ظهور قصتي الأولى بسنوات. وهذا اللون الساخر نفسه من ألوان الفن القصصي، كان صورة من أظهر صور العصر. وكم كنت أرقص طرباً كلما قرأت شيئاً لأحد من أعلامه، ولا سيما كاتب (برونللا) وهو (لورنس هاوسمان) وكاتب (مهرج العصر) وهو (إيرنست داوسن)!
ولقد كانت تلك سني حياة ساخرة عابثة مرتجلة!. . ولربما أسفت عليها الآن وحننت إليها حنيناً. . .
وتأثرت بطراز هذه القصص الساخرة فكتبت على غرارها كثيراً من القصص، أذكر منها واحدة اسمها (بائع الأحلام)
وكان هنالك كاتب اسمه (باري) وآخر اسمه (لوك) وإني لأذكر كيف كان أبي في أحيان كثيرة يقول لي (آه. . . حينما تستطعين أن تكتبي مثلما يكتب (لوك!) ثم يهز رأسه في قنوط؛ دون أن يتم العبارة. .! على أن أعلى مثال للقصة الساخرة كان ولم يزل؛ مائلاً في (كرنفال كوميتون ماكنزي) وقيمتها الخالة ترتكز على ما فيها من دراسة صادقة حية لشخصية البطل، ولكني لم يكن يعنيني كثيراً منها ومن أمثالها من قصص هذا الطراز الساخر سوى بعض العبارات الملونة التي تتمتع بقسط أوفى من قوة الإفصاح وصرامة التعبير. وإني لأذكر حين كنت في مستقبلي أتحدث إلى إحدى صاحباتي ممتدحةً قصة (الكرنفال) كيف أن صديقتي قالت في أسلوب رائع من النقد الفني (أجل. . . هذا المؤلف يستطيع أن يكسو الصفحة من الورق منظراً طبيعياً ساحراً). . . وقد أغْلَى هذا من طمعي، وحسبتني مستطيعة أن أكسو - أنا الأخرى - صفحتي منظراً طبيعياً ساحراً! جعلت أتخيّله، بألوانه، وظلاله، ومشاهده، ولم تكن هذه المحاكاة يسيرة ولا قريبة المنال، فأن التزامها كان يقتضيني ثلاثة أمثال ما يلزمني من الوقت!
كنتُ إلى أن بلغت الحادية والعشرين، أُعَني بكتابة المسرحيات وحدها. لأنني كنت أودُّ حينذاك أن ألعب أدواراً في مسرحياتي إذا أخرجَتْ! وكذلك كنت أكتب الأشعار، ومن قصائدي واحدة اسمها (هنا مضحكون آخرون) لا أزال أرويها إذا ألحَّ عليها طلب حار؛ ولكنه لا يوجد! كما أنني كتبتُ ثلاث أقاصيص قصيرة حملتها بنفسي إلى محرر (المجلة القصصية) وكان في ذلك الوقت (ر. سكوتلاند ليدل). ولقد كان - على غير متوقُّع مني - إنساناً لطيفاً. انصرفتُ من حضرته بعد أن وعد بنشر أقاصيصي، وبعد أن أمضينا وقتاً طيباً في حديث طيب. وفي بضعة الشهور التالية لم أسمع شيئاً عن هذه الأقاصيص، ثم لقيت الرجل مصادفةً في شارع (أكسفورد) وما كاد يراني حتى أخبرني بأن أقاصيصي جميعها قد ظهرت في مجلته، وأنه كان الأيسر أن أترك له عنواني كي يبعث إلي بثمن ما نُشر لي!
وبعد، فقد أستطيع التحدث عن بدء كتابتي (القصة) بمعناها الصحيح. ولحسن الحظ أن الثامنة والأربعين تنظر إلي الحادية والعشرين بعطف وإشفاق، وفي غير فزع! كان الدافع لي على الكتابة هو تلك الخاتمة الفاجعة الأليمة التي انتهى بها (حُبِّي) الذي حسبت أن لا نهاية تنتظره! والذي كان غراماً شعرياً إلى غير حد!
كان (تشارلس) غضَّ السن، جذاباً ذكيَّ الفؤاد. . . التقينا في بعض حدائق (ميدنهد) ثم أهدى إلي نسخة من كتاب (لورنس) المسمى (ماكيافيللي الجديد). ذلك الكتاب الذي ترك في نفسي أبعد الأثر بفصوله الرائعة، وبأنه هدية من حبيب القلب!
كان مغرماً بالطائرات، ولقد حملني مرة على متن إحداها في مساء ساحر، وعدنا إلى بيته بعد أن أنتصف الليل بساعتين، ولقد تلقاني قومه في شيء من عدم الارتياح، والشك في مستقبلي ككاتبة! وعلى أي حال فأن والدته من فورها قد أخذت تعلمني كيف ترقع سراويل الرجال!
دامت خطبتنا عاماً. ولم يكن هنالك من المتاعب سوى افتقاري إلى المرانة في البيت. فقد نشأت في بيئة فتيات يهوديات من عائلات طيبة. ولم تكن هذه البيئة دينية على وجه الإطلاق. وإنما كانت تتميز بالزهد وتتشبث بأهداب الطهارة. وإني لأذكر العبارة التي كانت الفتيات يستعملنها دائماً فيما بينهن. . . (إنك لن تظفري بزوج أبداً ما لم تظلي نقية. . . وعذراء!)
وربما لم تكن هذه العبارة تعنيني وحدي، ولكنها كانت تفنى في جوي أنا. . . ربما؛ حقاً إنها لم تزل تفنى في جو حياتي إلى الآن!. .
إن شباب هذه الأيام، على قلة ثرثرتهم، يعرفون جيداً كيف يجيبون على سؤال شاب حار الدم، خطب لنفسه فتاة يحبها، وقد أمضى وقتاً طويلا وهولا يستطيع الاقتران بها لعجزه عن التغلب على بعض العوائق الاقتصادية!. أجل، إن شاب اليوم يستطيع أن يقطع برأي حاسم في مثل هذه المسائل. ولكن، حين عرضت لي نفس الظروف لم أستطع أن أصنع شيئاً، بل لم أعلم ماذا يراد أن يصنع بي. وقد ندر ما كنت أتحدث وخطيبي في هذا الصدد، بصفة غير مباشرة. وهذا من أظهر الفروق الملحوظة بين تلك الأيام، وبين أيامنا هذه!!
واعترف لي الفتى بأنه كانت له عشيقة، امرأة جميلة، ولكنها ليست (خاصة)! وكانت تكبره في السن
(بالتأكيد يا تشارلس، كان هذا قبل الآن. . .) هذا ما قلت له، دون أن أعلم أنني كنت وراء مطلب عسير، هو النقاء التام في الجسد، كما في الروح!!
لم يرض أبي عن هذه الخطبة من أول الأمر، وكثيراً ما كان يقول لي (ليس في خلق هذا الفتى شيء من الثبات، هل هو على شيء من الثبات؟ كلا!. .) وكنا نلتقي، كعاشقين مضطهدين، في ظل استياء أبي وتجهمه. ومضى عام كامل. . . وكان (تشارلس) مهندساً بارعاً ولكنه كان قليل الصبر على عمله المسئم الذي لم يكن يبشر باتساع في الرزق!
وفي بعض الأماسي، حيث كنت أعيش معه ومع أمه، صحب عشيقته إلى (دروري لين) وكان الصباح التالي مقروراً جهما. وكذلك كنت. وحين أقبل المساء اعترف لي بأنه لا يستطيع أن يحتفظ بأمانته لحبي أكثر من ذلك. وقذفني ببعض الألفاظ المؤلمة! فأخذتني المفاجأة شر أخذة. ثم افترقنا بوسيلة تمثيلية أكثر مما كان ينبغي!!
كيف أعالج بقية أيام حياتي؟!. هذا هو السؤال الذي ألح على خاطري بعد فشل غرامي العظيم! ولقد وثب إلى ذهني أنني لو استطعت أن أكتب قصة من روائع الفن فسأبعث الحسرة والأسف في نفس من نأى عني بجانبه. . .
وفي مخدع أنيق في (برايتون)، وبغير تحضير تقريباً، بدأت أكتب السطور الأولى من قصتي الأولى.
كان على حوائط المخدع أستار جميلة مسدلة، وكانت نيران الموقد تتلظى في لهب ساطع براق. وإني لأذكر القليل من ظروف كتابة (بانتومايم) وإن طريقتي الآن هي أن أظل أدور حول موضوع قصتي شهوراً؛ قبل أن أبدأ في تسجيل فصولها؛ مع تسطير بعض الخواطر المبعثرة على أوراق منفصلة أجمعها في النهاية فتكونِّ هيكل الموضوع الناضج الذي أخرجه للناس. وفي ذلك الحين لا بد أن أكون بدأت تسجيل فصول قصتي مباشرة، لأسري عني الألم، وأزجي الفراغ الذي كان يملأ حياتي، والذي كنت أشعر به دائماً.
وعقدت في تلك الأثناء صداقة وثيقة مع فتاة في مثل سني اسمها (روز آلاتيني) هي اليوم تحترف الكتابة باسم (لوسين ونيرايت) وكانت هي أيضا قد بدأت كتابة قصة. وكثيراً ما كنا نكتب مجتمعتين قلماً إلى قلم! وكثيراً ما كان يحدث في تروضنا بالمشي أن نقف بأسماء الناشرين المعلقة على دورهم؛ نفكر أي دور النشر الكثيرة هذه يحسن استقبالنا بعد حين؟! ولقد استقر رأينا على دار (بوولى هد) أخيراً. . .
وحدث أن كنا في بعض خلوتنا الفنية نكتب في جو حالم حين طالعنا وجه رجل أبيض الشعر معقود الحاجبين، عرفنا فيه (جون لين) ولم نشأ أن نصدمه بإخباره بأننا نكتب (قصتين) سنعرض عليه أمر نشرهما في القريب!
بعد فراغي من كتابة قصتي الأولى (بانتومايم) بعثت بها إلى والد (مارجريت هالستان) الذي كان قد أرضته مسرحية كتبتها منذ أربعة أعوام تقريباً حينما كنت في (الأكاديمية المسرحية) واسمها (خادم الأجم) كانت مفزعة حقاً. وكانت له في نشرها وجهة نظر خاصة.
وقرأ المستر (هرتز) قصتي فزعم أنها عمل فني من الطراز الممتاز، وكان في ذلك حسن الظن جداً، ولكنه لم يكن مصيباً. كان في القصة الإجادة ولكنها لم تكن ترتفع إلى الدرجة الأولى. بل إني لأقرر الآن أنها لم تكن أكثر من بشير بالتقدم. ولو أنه أتيح لي - الآن - أن أكتب رأيي في نفسي - حينذاك - لما زدت على قولي: (لهذه الكاتبة استعداد حسن، ولا يبعد أن تنبغ إذا استطاعت أن تقهر أخطاءها الشنعاء!)
على أن الرجل قد كتب إلي يقول إنه قد أظهر على قصتي صديقاً له يدعى المستر (جيمس دوجلاس) وقد تفضل هذا بدوره فكتب إليَّ مطرياً يقول إنه قرأ القصة، ثم دفع بها إلى صديقه (جون لين). وظننت بذلك أنني أصبحت (في عداد المؤلفين) الذي تعتمد عليه دار (بودلي هد) للنشر! ولكن (جون لين) لم يلبث أن أعاد إلي قصتي مصحوبة بقوله (إن هنالك ناشرين يرضون بأن يقبلوا هذا الهواء المزركش - على حد تعبيره - ولكن دارنا لا يمكن أن تفعل ذلك!)
وانزعجت كثيراً. . . فان قرار الرجل كان يبدو نهائياً بقدر ما كان يبدو فيه من تحقير! ولم يكن لي من قوة الروح ما يبرر لي الظن بأن (جون لين) لم يكن يدري عم يتكلم! ولم يكن يتبين العمل الجيد حين يقدم إليه. أو لم ينشر (الكتاب الأصغر)؟؟ أو لم يكشف الستار عن مئات العبقريات المغمورة
وعلى أي حال فإني لا أكاد أذكر من الذي نصح لي بأن أبعث قصتي إلى (كالثروب) وأن أسأله عما إذا كانت رديئة إلى هذا الحد!
ولم أكن لقيت أبداً أكبر الأخوة الذين يحملون اسم (كالثروب) ولكن، عندما كنت في السادسة عشرة كان (دونالد كالثروب) ممثلاً محترفاً، وكان بطلا في نظري، وكان فوق ذلك يهوى واحدة من زميلاتي بالدراسة اسمها (نيللي) وقد رغب وإياها في إخراج إحدى مسرحياتي، ولكن أخاه الأكبر (ديون) نصح له بالعدول، وإنما وعد بمساعدتي إذا كتبت خيراً منها في المستقبل!!
ولقد تحقق وعده على الأيام. إذ قرأ لي (بانتومايم) وما لبث أن كتب لي في تظرف ورقة يقول إنه أوصى بي وصاة خاصة عند الوكيل الأدبي لأعماله ويدعى (جيمز بنكر) وكلفه أن يرعاني. غير أنني، في قلة صبري وقلة تجاربي. لم يكن يرضيني منه أقل من أن يقول لي (إن الدنيا تحت قدميك جميعاً. تفضلي يا عزيزتي يسي ستيرن)!!
ودعاني المستر (بنكر) للقائه. فلما ذهبت إليه وسألته سبب هذه الدعوة، قال إنهم يريدون أن يكسبوا مالاً عن طريقي! وذكر لي أنهم يتبعون نفس الطريقة مع سواي وعدد لي أسماء اطمأننت إلى سماعها، وتركت له القصة، وجعلت أرتقب المستقبل!
واتفقت نهائياً على نشر القصة في سبتمبر 1913، وظهرت للناس في يناير 1914. ولم تكن هذه سنة حسنة ليبدأ أي إنسان حياته العملية!
وأنا وإن لم أقرأ القصة قراءة كاملة منذ عام 1914، إلا أنني كثيراً ما أتصفح بعض فصولها بين الفينة والفينة، فأجد فيها كثيراً من الهفوات التي أصبحت أنزه عنها أعمالي الأدبية، غير أنني أجد فيها دائماً أشياء تبعث على الارتياح
وكثيراً ما أصادف من قرائي من يقول بأن (بانتومايم) قصتي الأولى والأخيرة، وأنني لم أكتب مثلها أبداً!
بل قد يسألني بعض القراء (متى أكتب) قصة جيدة مثلها؟ فابتسم، وأقول (أرجو. . . في القريب)
احمد فتحي