مجلة الرسالة/العدد 278/إحياء الأدب العربي
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 278 إحياء الأدب العربي [[مؤلف:|]] |
في سبيل الإصلاح ← |
بتاريخ: 31 - 10 - 1938 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
نشرت الصحف اليومية أن صاحب المعالي محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف (يعنى الآن بدراسة طائفة من المشروعات التي ترمي إلى بعث كتب الأدب العربي القديم، وصوغها في أسلوب عصري يقرب من ذوق الطلاب ومريدي الأدب، وإن الوزارة تفكر في نشر المخطوطات المجهولة التي تتصل بالأدب المصري وفيها فائدة للطلاب)
وإن الوزير الأديب ليصنع خير صنيع إذا وجه وزارة المعارف هذه الوجهة النافعة، ولديها ولا ريب وسائلها الوافية. فالآداب العربية مشحونة بالذخائر النفيسة التي عليها طابع الذهن العربي والحياة المشرقية لا يشركها فيها أدب من آداب الأمم الأخرى بمثل هذه الخصائص أو بمثل هذه الوفرة. وعندنا في الكتب المطبوعة والمخطوطة ثروة من أدب النوادر والفكاهات والأمثال والآراء الموجزة والملاحظات النفسية لا تجتمع في أدب أمة أخرى. وأحسب أن الأجوبة العربية التي اشتهرت بالأجوبة المسكتة لو ترجمت كلها إلى اللغات الأوربية لغطت فيها على شهرة الأجوبة اللا كونية المنسوبة إلى إسبرطة والمأثورة بين الأوربيين بالإيجاز والإفحام والمضاء، وتشبه هذه الأجوبة الأمثال والحكم والمشورات والنوادر التي يسوقونها بغير تعقيب ولا تفسير، ولكنها كبيرة المغزى عظيمة الإيحاء عند التأمل فيها والتدبر في أغراضها. ويقترن بما تقدم كله سير (الشخوص) التاريخية التي ظلمناها بإهمالها واستصغارها، وإن في كلمة من بعض كلماتها، وفي حيلة من بعض حيلها، وفي خطة من بعض خططها، ما يسلكها بين أعظم الشخوص العالمية التي تحيا في سجلات التاريخ بكلمة أو بمشورة أو بخليقة من خلائق السيادة والسياسة
هذه ثروة يسرف من ينبذها وهو في حاجة إليها، ويسهل علينا جدَّا أن نضعها بوفرتها بين أيدي الناشئة المصرية فتغنم منها الفوائد الذهنية وتغنم منها الثقة النفسية في زمن كثر فيه المتحدثون بفضائل الأجناس والفصائل والأعراق
وقد نحصر الأسباب التي تحول بين الناشئة وبين هذه الثروة فإذا هي لا تخرج عن سبب من الأسباب الآتية وهي:
1 - التطويل والحشو 2 - التشتت والاختلاط
3 - صعوبة المفردات والمصطلحات
4 - العبارات النابية التي كان المؤلفون في جميع الأمم القديمة يقحمونها بين أخبارهم ولا يتورعون من التصريح بها لأنها من جهة لا تصل إلا إلى أيدي القليلين من نساخ الكتب للتعلم والإستفادة، ولأنهم من جهة أخرى كانوا يعيشون في زمن الفطرة التي لا نتحرج من بعض ما تحضره لباقات الحضارة وكناياتها
وجميع هذه الأسباب علاجها ميسور وعناؤها غير كبير
فالتطويل علاجه الاختصار، ونعني بالاختصار هنا حذف أجزاء وإبقاء الأجزاء الأخرى بنصها العربي القديم، لأن المقصود بالإحياء هو هذا النص لا مجرد الحكاية ولا فحواها. وقد يجوز أن نختصر حكاية لا تهمنا إذا كانت الحوادث هي المقصودة بالوعي والصيانة. أما إذا كان المطلوب هو نمط الأداء وأسلوب التعبير والنظر في وضع الجمل والمفردات فينبغي أن يكون الاختصار بطريقة أخرى غير طريقة التلخيص وتغيير الكلمات، ليعلم الطالب وهو يقرأ الكتاب أنه يقرأ المؤلف لفظاً ومعنى ولا يقرأ كاتباً حديثاً ينقل المعاني من ذلك المؤلف القديم
وأما التشتت والاختلاط فليس أيسر من ردهما إلى نسق واحد ونظام متلاحق. ولا ضير هنا من جمع مؤلفين عدة ومؤلفات شتى في كتاب واحد إذا اتفقت الموضوعات والمناسبات مع الإشارة إلى أسماء المؤلفين وأسماء الكتب في ذيل كل فقرة، وإلحاق المنقولات بترجمة وجيزة للمؤلف وبيان وجيز عن الكتاب
أما صعوبة المفردات والمصطلحات فعلاجها الأوفق في رأينا هو التفسير دون التغيير، وأن يترك ما هو صعب لمن هم أقدر على فهمه من الطلاب، وأن يقصر الناشئة الصغار على السهل السائغ في المعنى وفي التركيب؛ ولتدرس الكتابات المغلفة على النحو الذي تدرس به روايات شكسبير اليوم في الجامعات والمدارس الثانوية، أي مقرونة بالحواشي والهوامش ومقصوداً بها علم اللغة والإحاطة بالفحوى حيناً آخر، وذلك أفضل من نقلها إلى عبارة أخرى تخرج بها من نطاقها وهو نطاق الأدب القديم
وأسهل الأسباب التي ذكرناها علاجا هو سبب العبارات النابية والأخبار (المكشوفة) كما نسميها في اصطلاحنا الحديث، فهذه كلها تحذف حذفا من الكتب التي يتداولها الطلاب ولا يسمح بالاطلاع عليها في المدارس ولا في الأسواق العامة إلا لمن يريدها من الباحثين والمنقبين عن أطوار الشعوب ودقائق التاريخ
بقى أن نعرف ما هي الكتب التي يشملها الاختيار والإحياء؟ وفي أي عنوان نلتمسها إذا طلبناها - مثلا - في إحدى المكتبات؟
أفي عنوان الأدب وحده أو في غير ذلك من العناوين والأبواب؟
والرأي، فيما أحسب، أن نوسع الاختيار حتى يشمل جميع الأبواب ولا ينحصر في باب الأدب وحده بمعناه المشهور
فرب كلمة عارضة في رحلة من الرحلات تصف مدينة أو رجلا أو شعبا من الشعوب هي أدخل في باب الأدب من رسائل المنشئين البلغاء
ورب قصة في سياق تاريخ هي أدب صميم وخيال محض ليس فيها من التاريخ بقدر ما فيها من الإبداع والافتنان
ورب شاهد في تفسير آية أو حديث يحتاج إليه الأديب أضعاف حاجة الفقيه
ورب مجاز في استخدام لفظ مهجور تحتويه المعاجم يكون مفتاحا لأسرار التشبيه والتعبير عند واضعيه الأولين
ورب شتيت متفرق بين كتب الجغرافية والنبات والطب والكيمياء يتألف منه رأي جميع لا يستغني عنه المقتبس والمستفيد
فالاقتصار على ما اشتهر من كتب الأدب يفوت علينا شوارد هذه الأبواب ويضيق علينا الأفق الذي نملك توسيعه إلى غاية مداه
فكل ما صلح للاقتباس والاطلاع فليقتبس من أي كتاب ومن أي باب، وإذا كنا لا نأخذ كل ما في باب الأدب فليس صواباً أن نغلق كل ما عداه من الأبواب
إن المطلب عظيم ومستطاع، وعند وزارة المعارف وسائله من المصادر ومن العاملين، وكل عناء مبذول فيه هو عناء دون الفائدة المرجوة منه للجيل الحاضر ولمقبل الأجيال
عباس محمود العقاد