الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 277/تسهيل الدراسة الدينية

مجلة الرسالة/العدد 277/تسهيل الدراسة الدينية

بتاريخ: 24 - 10 - 1938


للأستاذ داود حمدان

بمناسبة ما أثير من جدل حول تيسير قواعد اللغة العربية يصح للإنسان أن يبحث في تسهيل الدراسات الدينية أيضا، فأنها في حالها الحاضر من الصعوبة والعقم بحيث تستدعي البحث وكثرة التفكير، ولعل هذه الكلمة تفتح الباب للباحثين. والله الموفق.

لاشك أن الدراسة الدينية في حالها صعبة، وغير مؤدية إلى فائدة، لاسيما في تعليمها العالي، وبالموازنة بين الماضي والحاضر يظهر الفرق العجيب.

لما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقوم بتبليغ الدين، عملا ًبقوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) كان الرجل يأتي إلى النبي ﷺ وهو على دين مما يعرف الجاهليون إذ ذاك فيمكث عنده ساعة من زمان يتلو عليه النبي فيها بعض آي القرآن الحكيم، فيقوم الرجل من عنده وهو مسلم حسن الإسلام، مؤمن كامل الأيمان، عالم بما أوجبه الله وما حرمه عليه.

واليوم يذهب المسلم المولود من أبوين مسلمين إلى أعلى معاهد العلم الديني فيشتغل بضع عشرة سنة، ثم يرجع إلى قومه وقد زادت الفوارق بينه وبين الدين كما زادت بينه وبين الناس.

وكان الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فيتلقفون القرآن ويتدارسونه، فيملئون الأرض علماً وحكمة، كما يملئونها طهراً وعدلاً وصلاحاً.

واليوم يتخصص أوفرهم ذكاء، وأكثرهم اجتهاداً، وأصبرهم على الدرس، سنوات عديدة وقصاراه أن يحصل بعض ما علموه، وبتحلي بحفظ بعض ما قالوه. واليوم يدرس الدارس بضع عشرة سنة ويظل العامي أكثر منه ورعاً وتقوى.

بهذه الموازنة يظهر بكل وضوح أن تعليم الدين في الماضي كان مؤدياً أجل النفع، وأعظم الفائدة، وأنه في الحاضر قليل النفع والفائدة، بل ضار أعظم الضرر.

فالامَ يرجع السبب هذا الاختلاف بين الماضي والحاضر؟ هذا سؤال لم يكن أحد ليعيا بالجواب عنه إذا علم من أين كان يؤخذ الدين بالأمس، ومن أين يؤخذ اليوم.

إن المسلمين كانوا يأخذونه من القرآن، ثم صاروا يأخذونه من غير القرآن، وما القرآ عندهم - والحالة هذه - إلا مادة كمالية. ومهما أنكروا هذا بألسنتهم فهم ملزمون به من عملهم.

ألا ترون أن طالب العلم الديني يدرس كتب الفقه ويعرف أحكام الدين - في زعمهم - ويدرس كتب التوحيد والعقائد قبل أن يدرس القرآن وتفسير القرآن؟ بل ربما لا يحضر دروس التفسير أصلاً، وإن هو حضرها فلا يستطيع أن يأخذ منها حكما واحداً لأن طريقتها لا تعود الاستقلال في الفهم ولأنه نشأ على ذلك.

في صدر الإسلام كان النبي عليه السلام لا مادة عنده للدين غير القرآن، فمنه كان يعلم الناس، وبتلاوته عليهم كانوا يسلمون لما يأخذهم من روعة وبلاغته، وصدق لهجته، والشعور بإعجازه. وبالقرآن كان الصحابة ومن بعدهم يبلغون الدين. وفي تلك الأوقات كان النابغون في علم الدين أكثر من أن يحصوا، بل تستطيع أن تقول إنه لم يكن أحد حينئذ يقلد أحداً فيه، وإذا جهل أحد شيئاً فإنما كان يرشده به للدليل ولا يلقنه الحكم تلقينا.

ولما فشا التأليف، وأكثر المتعلمون من قراءة الكتب التي ألفها أصحابها فيما استنبطوه من الأحكام الفقهية، والمجادلات الذهبية، نقص معدل النبوغ، ثم صار يزداد نقصاً كلما كثرت المؤلفات الفقهية وأقبل الناس على دراستها. فلما كان العصر الخامس بدت تلك القولة المجرمة الأثيمة، ألا وهي سد باب الاجتهاد، وصرح بعض الفقهاء أن الاجتهاد بعد الأربعمائة منقطع، وذلك لضعف ثقتهم بأنفسهم، وسوء ظنهم بالناس. فضعفت الهمم، ومازالت الأمة إلى الوراء حتى عصرنا هذا. فالمسلمون من العصر الخامس حتى اليوم، بل من العصر الثالث لا يأخذون الدين إلا من كتب الفقه والكلام طبقة عن طبقة؛ فكل طبقة تنظر في كلام سابقتها وتشرح أو تعلق أو تؤول، حتى وصلنا الدين بحالته الحاضرة وبعبارة صريحة: وصلنا وهو بعيد عن القرآن ألفا وأربعمائة سنة. إي والله ألفاً وأربعمائة سنة نحن بعيدون عن القرآن، وإن كنا نتلوه للتبرك، وذلك بسبب الالتواء في الدراسة. وقد وصدق علينا المثل العامي: تمسك من الدين بذيله: نترك رأس النبع وهو القرآن، ونأخذ من ذلك الرشاش المتطاير منه إلى إفهام الناس. أفلا ينظر المسلمون إلى أي هوة وصلوا من جراء هذا؟! كانوا عند ما لحق الرسول بالرفيق الأعلى أمة واحدة، لا يعرفون لهم إماما إلا القرآن. وأصبحوا لا تحصى فرقهم ومذاهبهم وشيعهم. ولكل فرقة أو شيعة إمام غير القرآن.

لا يقولن قائل إن السبب في بعض الاختلافات كان سياسياً. فإن الاختلافات السياسية كان ينبغي أن تموت بموت سببها، ولكن بقاء الكتب وداستها فيما بعد، دون دراسة القرآن الكريم بعقل مجرد عن تأثير تلك الاختلافات، هو الذي أبقاها

وكان المسلمون لا يتركون القرآن إلى سواه، ولا يبحثون عن حديث الرسول في قضية ما إلا إذا لم يجدوا لها نصاً في كتاب الله، كما كان يفعل أبو بكر وعمر وسائر الصحابة. فإذا اضطروا إلى حديث أخذوه بكامل التحري. واصبحوا اليوم (ولديهم مئات الألوف من الأحاديث) يجعلونها في مرتبة القرآن ويختلفون: هل ينسخ الحديث القرآن أو يقيد مطلقه ويفصل إجماله؟! وصاروا يؤولون كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ليوافق كلاماً رووه، ولو حققوا لما رووه. وذهبوا إلى أبعد من هذا فأولوا القرآن ليوافق مذاهبهم ونحلهم، وأقربهم اعتدالاً أول آية التيمم لتوافق المذاهب المعروفة وعدها من المشكلات، ولم يجز لنفسه أن يؤول تلك المذاهب لتوافق القرآن. ولعل أصحاب المذاهب لو انتبهوا لمخالفة القرآن لرجعوا إليه.

وكان الدين سمحاً سهلاً قليل التكاليف، يستوي في فهمه البدو والحضر، والأذكياء والبلداء، والمتعلمون والعوام، لكونه دينا عاماً لا يختص بطبقة دون طبقة، ولا يقبل دون قبيل.

فمن المعقول ألا يختلف في إدراك عقيدته، ومعرفة تكاليفه أقل الناس إدراكاً عن أعلاهم ذكا، ولكن الاختلاف إنما يكون في طرق الاستدلال. فالفيلسوف يستدل على وجود الله بفلسفته، والطبيب بما يرى من دقائق تركيب الجسم، والحراث مثلاً يستدل عليه بما يقع تحت حسه من نبات وحيوان وكيفية نشأته ونظام حياته - أقول كان الدين سهلاً ولكن كتب العقائد هي التي جعلته صعباً عسير الفهم، لأنها من الكبر والاتساع بحيث تحتاج إلى سنين لدراستها، ومن الدقة والعمق بحيث يعيي فهمها الأذكياء والعباقرة. وكذلك الفقهاء الذين فرعوا الفروع، وفرعوا من الفروع فروعاً (وولدوا البنات من الأمهات، كما يقول ضاربو الرمل) حتى فضوا المستحيلات، فهؤلاء قد طمسوا على سماحة الدين، وجعلوه كثير التكاليف، كثير الحشو. وأذكر مما يحضرني الآن مسألتين: قالوا: بعد أن يتوضأ المتوضئ أينشف أعضاءه أم لا؟ وجعلوها مسألة خلافية. ومن العبث والغفلة أن يقال إن هذه المسألة تدخل في حساب الدين، فالمقصد الطهارة وقد حصلت بالوضوء، ولا ينظر الدين إلى ما وراء هذا. والمسألة الثانية أنهم أدخلوا في الدين ما ليس منه كمسألة الأزياء والملابس، فألف بعضهم كتاباً في سنية العمامة. وما لبس النبي العمامة إلا لأن بيئته كانت هكذا تقتضي، ولو نشأ في بيئة أخرى تلبس غير العمامة كما يلبسون، لأنه عليه السلام ما جاء لتغيير الأزياء، ولكن لتغيير العقائد.

بهذا الحشو وأمثاله امتلأت كتب الفقهاء، وبهذا وأمثاله يضيع الذين يتعلمون العلوم الدينية زهرة شبابهم، وصفوة عمرهم وقوة تفكيرهم، حتى إذا انتهوا منه كانوا بعيدين عن الدين مراحل عديدة، مقدارها ألف وأربعمائة سنة.

لقد جرى إصلاح في منهج دراسة الدين في بعض المعاهد الدينية، وينبغي أن يجري الإصلاح أيضاً في مادة الدراسة الدينية، وذلك يكون بأمرين: الأول: دراسة اللغة العربية بطريقة سهلة غير طريقة الكتب التي تدرس الآن. والثاني: دراسة القران نفسه، وأخذ الأحكام والأخلاق والمعارف الدينية منه بقطع النظر عن المذاهب، وطريقة ذلك كما يلي:

1 - في دور التعليم الابتدائي

من اللغة يعطي التلاميذ جملاً وقطعاً من منثور الكلام البليغ بقدر ما تتسع طاقتهم لحفظه، ومن الغلط أن يختار لهم من أقوال العصور المتأخرة، فإن القصد أن يقروا من لغة القرآن، وتتجنب ألفاظ الغربية. وكل ما شاكل ألفاظ القرآن فهو مأنوس وليس بغريب. وكلما ارتقى التلاميذ يزداد لهم في المقدار الذي يحفظونه. وعند شرحه بكلمة أو كلمتين؛ ويستطيع المعلم الحاذق أن يبين للتلاميذ موقعاً لكلمة من رفع أو نصب الخ باختلاف الجمل، وبالتكرار تنطبع في ذاكرتهم، فيتعودون النطق الصحيح بسهولة، وبممارستهم الكلام البليغ يتربى فيهم الذوق العربي. وبعد الثالث الابتدائي تشرح لهم الجمل شرحاً نحوياً بسيطاً ويزداد كلما ارتقوا. ومن الرابع فصاعداً تكون اللغة الفصحى لغة الدراسة في جميع المواد ولغة التخاطب، ويستعملون ما حفظوا من الكلام البليغ. وليس هذا غريباً بين العرب، حتى ولا بين غيرهم، فإن الإنكليزية لغة الدراسة والتعليم في جميع مدارس الهند، وليست أسهل من اللغة العربية. هذا من اللغة.

ومن القرآن يحفظ التلاميذ أكبر قسط يمكنهم على الترتيب: من سورة الناس فصاعداً.

وتختار لهم الآيات التي فيها أحكام التكاليف وتشرح لهم بإيجاز. وتختار لهم آيات أخلاقية وتشرح بإيجاز.

2 - في دور التعليم الثانوي

من اللغة يعطى التلاميذ الشيء الكثير من منثور القول ومنظومه على أن يكون من أقوال العصر الأول والثاني، ويشرح لهم شرحاً يشمل النحو والمعاني بتحليل تتحمله عقولهم، ويزداد كلما ارتقوا. ومن القرآن يحفظون قدراً كافياً مرتباً أو مختاراً ويدرسون آيات الأحكام بتوسع، ويقدم الإلزام فالإلزام، وتؤخر مثل أحكام الطلاق واللعان إلى السن المناسبة، ويعودون الاستنباط بأنفسهم، ويدرسون قسطاً وافراً من آيات الآداب والأخلاق والعبر، والآيات الكونية والاجتماعية، ويحفظون شيئاً من الأحاديث المختارة في الأدب والاجتماع، وتكون لغة الدراسة والتخاطب اللغة كما سبق.

3 - في دور التعليم العالي

(وهذا لا يكون إلا في معاهد العلم الديني، لأن غيرها لا تدرس الدين مادة في الصفوف العالية) في هذا الدور تدرس آداب اللغة العربية بتوسيع، وأعنى الآداب نفسها، لا تاريخها، فإن دراسة تاريخ الآداب شيء قليل الفائدة، وتشمل دراسة الآداب دراسة الحديث الشريف على أنه نمط من أنماط الكلام البليغ. ويدرس القرآن كله بلا استثناء دراسة وافية تؤخذ منها العلوم والمعارف الإسلامية، والبدائع اللغوية؛ ويراعى في هذا الدور أن يكون التدريس مجرد إرشاد لطريق الاستنباط وتطبيق القواعد. ويطالب الطلبة بالاستنباط بأنفسهم، وبمعرفة الخطأ والصواب بعرضه على مقاييس العلم والأدب. ويدرس الحديث على أنه مادة من مواد الدين تؤخذ منها الأحكام والحكم والمواعظ، ولكن ينبغي أن تكون شروط صحة الحديث غير الشروط الحاضرة فيحذف أولا كل ما نشأ أو يظن أنه نشأ عن أسباب سياسية، أو لتأييد فرقة، أو بقصد الهدم كالأسرائيليات، ثم يجعل للمعنى حظ من الاعتبار كما للرواية، أي ليس كل ما استكمل شروط الرواية كان صحيحاً حتى يستكمل شروط صحة المعنى أيضاً. وفي هذا الدور يدرس النحو في بعض الكتب المعتبرة المؤلفة قديماً تثبيتاً لما تلقنوه من القواعد أثناء الشرح، وزيادة في البحث، وفي نهاية هذا الدور أو في دور التخصص تدرس بعض كتب الفقه والأصول والتوحيد للاطلاع والبحث. لا لتأثر خطواتها وتقليدها.

بهذا تسهل دراسة الدين وتؤتى أكلها بأذن ربها، ويلاحظ هنا أن الكلام في دراسة الدين وأنه ليس المقصود أن تقتصر الدراسة في المدارس على مادتي اللغة والقرآن فان مواد العلوم الأخرى لها مكانها من برامج الدراسة.

ليس المجال متسعاً للتفصيل والشرح فهذه اقتراحات يمكن نقدها وتحسينها والزيادة عليها، ولكن لا يمكن قط أن يقال: إن دراسة كتب الفقه أجدى في الدين من دراسة القرآن وأحب أن ألفت النظر إلي أنه ليس بيننا وبين النابغين الأولين في علوم القرآن إلا إتقان اللغة العربية، وأنها ليست صعبة كما يتصورون، وأن ثلاث سنين تكفي لإتقان علومها إذا هذبت طرق تعليمها كما قال الأستاذ الإمام محمد عبده

ولا أحدثكم بعد عن الفوائد التي نجنيها من إتقان اللغة العربية ودراسة القرآن، فإن الهداية والتقوى تكون ملازمة للعلم بأحكام الدين لملازمة ذكرهما في آية واحدة أو آيتين متجاورتين، ولما يغمرنا من الشعور ببلاغة القرآن وسلطانه على النفوس، ثمرة ذوقنا اللغوي الذي نكتسبه من ممارسة اللغة. أما الفوارق المذهبية والشيع المختلفة فإنه يقضي عليها بأذن الله، ويصبح المسلمون - كما كانوا - أمة واحدة يتعاونون على البر والتقوى. والله الموفق

(فلسطين)

داود حمدان