مجلة الرسالة/العدد 277/إلى شباب القصصيين
→ للأدب والتاريخ | مجلة الرسالة - العدد 277 إلى شباب القصصيين [[مؤلف:|]] |
بين الشرق والغرب ← |
بتاريخ: 24 - 10 - 1938 |
كيف احترفت القصة
قصة السير (هيو والبول)
للأستاذ أحمد فتحي
- 1 -
ننقل إلى القراء في هذا المقال وما يعقبه سلسلة فصول تنشرها إحدى الصحف الأدبية الكبرى في لندن، على أسابيع، متضمنة جواب استفتاء وجهته إلى تسعة من كبار القصصيين الإنجليز، راجين أن ينتفع شبابناً من عشاق القصة وكتابها بهذه الفصول المترجمة بكل أمانة وإتقان.
في أوائل السنة القادمة: أي بعد بضعة أسابيع، أرجو أن يتاح لي الاحتفال بانقضاء ثلاثين سنة على ظهور قصتي الأولى وإن يكن قد مضى على هذا الحادث الهامّ في تاريخ حياتي كل هذا الزمن الطويل الذي يجعل من العسير أن أستدعي كل ذكرياته على وجه التحقيق، فإنني أستطيع أن أذكر كل شيء بغاية الوضوح!
وحين يسألني الشبان، كما يفعلون كثيراً، عن طريقة لفت الجمهور إلى قصصهم الأولى، وعما صنعت أنا نفسي في مثل ذلك، يعود بي خيلي طائراً إلي الوراء، حتى ليخَيَّلُ إلى أنه الأمس القريب، حين عدت إلي بيتي في (شلسي) ووجدت ما سيجده القراء مفصلاً في هذا المقال. . .
من المحقق أن القصة الأولى التي أخرجتها لي المطبعة لم تكن أول أعمالي القصصية. فلقد بدأت أعالج كتابة القصة منذ طفولتي المبكرة. ولكنني لم أضع قصتي الناضجة الأولى إلا حين كنتُ في (ليفربول)، وبعد أن فرغتُ من دراستي في (كيمبردج)
ولقد كان سفري إلى (ليفربول) بسبب أن أبي كان يحب لي أن أكون قسيساً! وأن أتنكر (لادّعائي) الكتابة! ولهذا التحقتُ بإحدى البعثات الدينية لرجال البحرية، وامتطيتُ ظهر السفن لأداء واجبي كرجل من رجال الدين. واتصلت بكثير من النوتَّية المرحين أمامي الآحاد السعيدة. غير أنني لم أصادف نجاحاً يذكر! وبسبب ما كنت أحسَّ ُ من اندماجي مع مشاعر فتيان البحار، وبسبب أنني لم أكن سعيداً أبداً لإيماني بأني سأكون (قسّيساً) فاشلاً، مما بعث في نفسي مضاضة وحزناً! ولقد عاونتني الأمسية التي كنت أقضيها في بيتي على كتابة سبعة فصول من قصتي الأولي، وكان اسمها (الدير)، وقد ثبت عندي أنها كانت بشيراً بأخرى كتبتها بعد ذلك بأمد أسمها (الكاتدرائية)، وبعد هذه الفصول السبعة ازدحمت في ذهني شخصيات كثيرة من أبطال قصة (الدير) وأخذت تختلط وتختلط حتى فقدت قيمتها ومميزاتها. ولقد عّلمني ذلك شيئاً. والحق أن الفصل الأول من هذه القصة قد احتفظ به ذهني حتى جعلت منه (الفصل الأول) في قصة أخرى كتبتها بعد ذلك باسم (الفضولي)!
ولما أدرك أبي أنني لا يمكن أن أكون قسيساً، ظن أنني قد أصلح لأكون مدرساً! ومِنْ ثمَ وجهني إلى ألمانيا وفرنسا لأتعلم لغة كِلّ من البلدين العظيمين. ولكنني لم أتعلم لغة هذه ولا تلك، وإنما كتبت قصة طويلة كاملة أسمها (تروىْ هانتون)! ليس في وسع ألفاظ أن تعبر عن كيفية انكبابي على الكتابة. . . وبعد أن فرغت منه هذه القصة كنت شديد الإيمان بأنها من روائع الفن القصصي! وهذا ما لا أعتقد الآن في شيء من كتبي! فأرسلت بها إلى دار (آرثر بنسون) للنشر، فقد كان أحد أصحابها معي في (كيمبردج) ولقد تلقيت منه في (كيمبرلند) كتباً عدة عن هذه القصة، يقول في أحدها: (إني لأخشى أن تكون قصتك رديئة! ولكن هنالك شيء واحداً أعتقده تماماً: ذلك إن ليست لك أية مقدرة على الابتكار. وقد تصبح ناقداً يوماً من الأيام؛ ولكن النقد الأدبي لن يكفل لك أكثر من حياة بئيسة!)
ولقد بلغ من ثقتي بالرجل أنني أحرقت قصتي هذه. على أنني انتفعت كثيراً من صورها - فيما بعد - في قصة أخرى سميتها (الصبر). . .
والتحقق بعمل جديد، مدرساً في كلية مدينة (ابسم) ولقد توجهت إليها وحيداً، فقد كانت على مقربة من (لندن) وفيها كنت أرجو أن أبدا حياتي الأدبية والحق أني إلى تلك اللحظة لم أتلق كلمة تشجيع واحدة لأعمالي الأدبية من أي إنسان!. وفي (ابسم) كتبت قصتي الأولى التي أخرجتها المطبعة للناس بأسمى. وقد اخترت لها أسم (الحصان الخشبي) وكنت قد أظهرت على نصفها أستاذاً كانت تلوح عليه إمارات الذكاء؛ ولكنه ردَّ علىَّ أوراقها مع قوله: (لست يا (والبول) قصصيأ على أي حال. . .!)
وبالرغم من هذا فمهما بلغ من قلة ثقة الناس بي؛ فلقد كنت وطيد الثقة بنفسي! ولقد بدا لي عجيباً جدَّا أن يكونوا جميعاً بهذا العمى! ولقد أصبحت الآن، بعد هذه السنين الطويلة، أعجب لما كان لي من ثقة بالنفس لم يكن يشجع عليها شيء! واعترض طريق حياتي رجل بادن يقال له (ماَّسي) أبَجَلّ الآن وأحيَّي روحه المرح لأنه كان أول من تفضل عليّ بالتقدير. ومع أن تقديره ذاك بدا لي في ذلك الحين طبيعياً، بل حقا من حقوقي، فإني الآن لأعجب لهذا التقدير من الرجل؛ في أي تربة نبَت؟!
كان (ماَّسي) ضخم الجسم شاحباً غائض دم الوجه. وكان يشرك (كرتسي براون) في وكالة أعمال أدبية. وقد أبدى لي رغبته في استخدامي لعمل خاص بتلك الوكالة الأدبية على أن يوظف لي جنيهات قليلة كلَّ أسبوع. وبهذا الروح المرح قذفت بعمل التدريس الذي كنت أمقته. وا كتريت حجرة أرضية صغيرة في (شلسي) أجرها الأسبوعي ريال واحد! وهكذا بدأت حياتي الأدبية. .
كانت فكرة (ماَّسي) أن أضع كتاباً يبحث قي طرق توجيه الناشئة. غير أنه لم يكن عنده، ولا عندي، رأى ما في الموضوع!. غير أن الرجل ظلَّ يدفع لي المال الذي وعد به عاماً كاملاً. وهو شديد يحقق تلك الثقة بي؛ وأخشى ألا أكون قد صنعت شيئاً يحقق الثقة العمياء!!
أكملت قصة (الحصان الخشبي) وكان على بعد ذلك أن أبحث عن ناشر. . وإني لأذكر كيف كتبت أسماء كافة الناشرين في (بريطانيا العظمى) على رقعة طويلة من الورق. وكنت أظن حينذاك أنني سأبعث بالكتاب إلى كل هؤلاء الناشرين تباعاً، بعد أن أنتزع عنه اسمي واضع مكانه اسماً مستعاراً هو (م. س) لأنني كنت قد قرأت الكثير عن العبقريات المبتدئة، وعلمت أن العبقري الناشئ لابد أن تردَّ عليه قصته التي تحمل اسمه المستعار - بدلا من اسمه المجهول - مرات كثيرة، قبل أن يحين يوم حظه السعيد! وكان قد أول نشر وقع عليه اختياري هو (سميث إلدر). . لأنه كان قد نشر أعمالاً ناجحة كثيرة. وكان يخيل إلي أن كتابي يجيب أن تظل آمالي فيه معلقة بهذا الناشر بضعة أسابيع. .!
ولقد كنت في تلك الأيام سعيداً إلى غير حد، إذ كان يسيراً جداً أن أعيش بمائة وخمسين جنيهاً في العام. كنت طليقاً، وكان لي أصدقاء في لندن؛ وإن لم يكونوا بكثرة أصدقاء واحد من رجال الأدب بعد. وإني لأذكر كيف كان يروقني أن أتروض بالسير في (طريق الملك في شلسي) وكيف كنت أقول لنفسي حين أبصر السابلة: (سيأتي يوم يقف فيه هؤلاء للناس وسط طريقهم ويشيرون إلى وهم يقولون (هذا هو والبول يمشي هناك!)
وكان إلى جانب النهر مطعم كنت استمرئ فيه وجبات طعامي، وكان الفنانون يجيئون فيحتلون منضدة متوسطة، وهم يضجون في مرح. ولقد كنت أشعر بأن جوهم يحتضنني أيضاً. وكثيراً ما كنت أغشى مرقص أو داراً للتمثيل، كلما كان ذلك في طاقة نقودي. ولم يكن لي من الرغبات ولا المخاوف شيء في الحياة!!
وعدت إلى غرفتي يوماً ووجدت خطاباً من الناشر، يقول في بلغة بالغةٍ حَّد العظمة والكبرياء (إنهم سيطبعون كتابي) ولقد قرأت هذا الخطاب مرات ومرات. ثم أصابتني حمى الفرح!. ويستطيع المؤلفون أن يقولوا لك إن سعادة في الدنيا لا يمكن أن تقاس إلى سعادة المؤلف بقبول الناشر إخراج كتابه الأول! وفي الحق، لقد مرت بي إلى ذلك الحين لحظات كثيرة من السعادة، ولكنها جميعاً لم تكن تعدل سعادتي بذلك الخطاب.
ووثبت إلى الطريق والخطاب في يدي، وهرعت إلى المطعم العتيد واندسست بين الفنانين الجالسين؛ وبرغم أنى لم أكن أعرف أحداً منهم فقد حدثهم بما صادفني من حسن الحظ. فشربوا نخبي، وبعد الغداء اصطحبوني إلى (استديو) أحدهم، ومن هذه اللحظة؛ أحسست أن حياتي قد بدأت!
بعد ذلك توجهت لزيارة دار (سميث إلدار) للنشر والتقيت بالمستر (ريجنالد إلدر). وإني لا أتصور الآن أن في دار من دور النشر مثل ما كان في غرقته من الفخامة والعظمة والأبهة! وقد كان رجلاً طويلاً له سالفتان من شعر كثٍ تتدليان إلى جانب صدغيه، كما كانت تبدو عليه الهيبة التي كانت تلازم رجال النشر في تلك الأيام!
ودعا لي الرجل بالتوفيق، وبعد ذلك عرَّج على حديث سوقيّ! قال إن الوقت عصيب بالنسبة للناشرين، ولهذا لم يكن في وسعه أن يدفع لي شيئاً من المال عن النسخ الثمانمائة الأولى من كتابي. وبعد بيع هذا العدد من النسخ يكون لي حق النشر في ثمن ما يباع. ولم يسترع قوله اهتمامي، إذ لم يكن يعنيني شيء سوي أنني لن أدفع شيئاً!.
ولقد كان (ريجنالد سميث) رجلاً طيباً، كما يبدو من اسمه. فأخرج (الحصان الخشبي) في غلاف رائع بالألوان. وبعد شهرين فقط رأيت في محل أحد باعة الكتب النسخة الأولى من كتابي. وبعد أسبوع من ظهور الكتاب كنت أجلس مع (المستر تشارلس ماريوت) في (الكورنول) وهو مؤلف كثير من أحسن القصص التي كتبت عن (الكورنول) قدمت إليه واحدة من النسخ الست الأصلية من (الحصان الخشبي).
وبعد ستة أشهر أخبرني الناشر بأن ثمانمائة نسخة من كتابي - بالضبط - قد نفذت. وكنت قد اتفقت ثلاثة جنيهات في كتابة النسخ الأصلية على الآلة الكاتبة. ولهذا كنت إلى ذلك الحين محتملاً خسارة هذه الجنيهات الثلاثة. ولكن لو لم يكن من الغرور والفخر لذكرت أن الكتاب كان يباع دائماً. وأنني تلقيتُ بعد وقت قصير حصتي في ثمن النسخ التي بيعت ذلك العام وهنالك شيء أظنه على غير قليل من الطرافة، هو كيف أنني انقلبت من قصصي هاوٍ فاشل إلى مؤلف محترف بكل معنى الاحتراف، وهذا ما لم أفهمه أبدا.
وبالرغم من أن قصتي (ترُوىْ هانتون) لم تكن قصة مؤلف محترف متمكن على ما أذكر، وأني ارتكبت فيها كل الأخطاء الممكنة من حيث الفكرة والأسلوب والبناء، فإن قصتي (الحصان الخشبي) التي كتبتها بعدها مباشرة؛ كانت أحسن ما كتبتُ من قصص مُجَوَّدة. وقد لا تكون مكتوبة بيدٍ مرنة طويلة الخبرة بدقائق الفن؛ ولهذا السبب فإن قيمتها الأدبية التافهة لم تكن شيئاً يذكر؛ ولكن. . . بعد أن تعلمت هذه الدقائق الفنية لم تعد لي هذه التفاهة في التفكير!
وعلى أي حال فقد مضت سنون سعيدة جداً قبل الحرب، لم يكن التزاحم بين القصصيين قد بلغ من العنف ما بلغه اليوم ولم تكن الصحف الكبرى تعنى بنشر روائع الفن القصصي. ولهذا لم يبرز من القصصيين العباقرة سوى أفراد قلائل جداً، مثل (مردث) و (هاردي) و (هنري جيمس)، في حين كان معظم كتاب القصة مشغولين بقصّ حكايات يستمدون أبطالها من شخصيات الحياة العملية بقدر الإمكان. ولم تكن هنالك اتجاهات نظرية معينة في الفن القصصي إلا بقدر محدود، كما أنه لم يكن هنالك من يعني بشيء من وسائل الدعوة الخاصة على وجه الإطلاق!
ولقد كان للحياة في هذه السنين منظر ساحر خلاب بصفة عامة. فإذا أنت كتبت عن شخصية سعيدة ثم اختتمت قصتك ختاماً سعيداً أيضاً، فأنك تكون بذلك فناناً أميناً على الحق في فنك. وإذا حملت على بعض مظاهر السلوك الخلقي أو السياسي، فانك بذلك لم تكن قد تطورت في موضوع رديء!
تركت (الدر سميث) بعد أن نشرت لي كتابي الثاني، لأني كرهت أن أحرم ثمن النسخ الثمانمائة الأولى من كل كتاب من كتبي: وصادقت (مارتن يكر) ذلك الناشر النبيل الذي كان في ذلك الوقت يدعى (د. هـ. بورنس وكومبتون ماكنزي وفرانك سونيرتوس وفرانسيس برت يونج وجلبرت كانان) وليس في وسع بياني أن يعبر عما ندين به للصديق (مارتن سيكر) فلقد كان صديقاً وفياً. يتولى مهمة الناشر في إخاء ومودَّة، وإنه ليسعدني أن أذكر أنه حينما غامر بنشر قصتي (الصبر)؛ لم يأسف على هذه المغامرة!!
القاهرة
احمد فتحي