الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 276/متى يوجد منقذ العرب

مجلة الرسالة/العدد 276/متى يوجد منقذ العرب

بتاريخ: 17 - 10 - 1938


للآنسة فلك طرزي

يحلو لي أحياناً استجلاء بعض أمور الحياة ومحاولة تحليل بواعثها وأسبابها ساعة أخلو بنفسي في وحدة صامتة لا يكون رفيقي فيها إلاَّ قلبي وضميري، لأن الساعة التي يجالس المرء فيها ضميره وينفرد في ظلال التفكير والتأمل بعد ساعات يقضيها بين الناس تعد من أعظم ساعات الحياة نفعاً وأرفعها شأناً، وأكثرها فائدة. فكم من ضال مخطئ كانت الوحدة سبيل هدايته إلى الحق والصواب! وكم من نفائس علمية وفنية وأدبية لم يتحفنا بها رجال العلم والفن والأدب إلاَّ بعد ساعات بل أيام انفردوا خلالها بأنفسهم وضمائرهم، فإذا ما اطمأنوا إلى صمت هذه الوحدة وسكونها، أرسلوا أنفسهم على سجيتها فانطلقت من عقالها مجتازة الحدود، مخترقة بنفاذ بصيرتها صميم الحياة، تكشف الحجب عن حقائقها وترشدهم إلى كل موضع ومعنى من مواضعها ومعانيها، فيستجلون بدقة خيالهم صورها، ويدركون بقوة عبقريتهم دقائقها، فإذا ما انتهوا إلى الإدراك، عرضوا صور الحياة على اختلاف ألوانها ومعانيها، أمام أبصارنا واضحة صافية، فيها دقة الفن وفيها دقة الأداء، لأنهم حين استخرجوها من مكمنها وأخذوا في توضيحها، مزجوا ألوانها بألوان نفوسهم، وأضافوا إلى معانيها من معاني قلوبهم، وأفرغوا فيها الكثير من إحساسهم وشعورهم

وليس النضال الذي تخرج منه العبقرية إلى النصر بعد عراك طويل مستميت مع مختلف عوامل الحيرة والضعف التي تعتري نفس الفنان أحياناً بأصغر شأناً وأقل خطراً من نضال القائد الجبار الذي يقوم بتدريب فرقة من فرق الجيش في ساحات الحرب.

أجل يحلو لي اللجوء إلى الوحدة في ساعة من الساعات تحن نفسي فيها إلى الصمت وتشتهيه، لكي يتسنى لي عصر قلبي، فأستنزف منه قطرات من دم الصدق والإخلاص

لقد حدثتني نفسي أن تأخر الأمة العربية عامة والسورية خاصة ناتج عن سبب خلوها من النهضة الفكرية أو بالأصح من التفكير الصحيح المستقيم الذي هو بمثابة مشعل ينفذ بحامله إلى خفايا حياة أمته ويتغلغل به في جوانبها وزواياه، ليطلعه على مختلف شؤونها ونقائضها، ثم ليقوده بعد النفاذ والتغلغل إلى تشخيص الداء الأساسي الذي تشكو بسببه علتها ومرضه خذ دليل ذلك أيها القارئ، وبرهانه الساطع من تاريخ النهضة العربية في غابر العصور، وتأمل ضخامة الدرس الذي ألفته الأمة العربية على الإنسانية جمعاء، ثم تأمل في سرعة الانقلاب الذي حدث في تلك الجزيرة المحاطة بالجدب والقحط من كل نواحيها، فإذا بها تصبح في مدة من الزمن لم تبلغ نصف قرن ينبوعاً صافياً يؤمه كل ظامئ إلى معرفة الحق، ليرتشف من مناهله ماء الثقة والأيمان

أنظر كيف أن قريشاً لم تنهض من الجهل الذي كانت واقعة فيه ولم ترتفع من الدرك الذي انحطت إليه، إلا حين خرج النبي المفكر البصير، فبدد جهلها بآيات الكتاب المبين الذي حملته يمينه، وأيقظ في قلوبها الحق والأيمان مشعل الحقيقة الذي كان نوره ينبعث من بين جوانحه فإذا به يجري عجباً، وإذا به يغير حالاً بحال، ويبدل أموراً بأمور، فتمسي قريش التي كانت من قبل تغط في غياهب الجهل والشرك، كعبة المدينة والحق، والمنارة التي ترشد الإنسانية إلى سبيلهما

ثم انظر إلينا كيف نسير متلكئين في طريق نهضتنا الفتية ونحن بعد بين هجعة ويقظة. . . بين ظلام الليل ونور النهار، نحاول في سبيل إيجاد الحل الموافق لقضيتنا المعقدة نتبع خطوات الأمم التي أحدثت الحرب العظمى تغيراً في نظمها ومناهجها الدولي، ناسين أو متناسين أن للعوامل الإقليمية والتاريخية والنفسية شأناً كبيراً وأثراً بعيداً في اختيار نوع من أنواع الأنظمة الدولية المختلفة الذي يلائم أمة ولا يلائم غيرها، إذ هي الدعائم الأولى، بل القاعدة الأساسية التي يشيد عليها مؤسسو النهضات القومية بناء هذه القومية.

فلا النظام الشيوعي ولا النازي ولا النظام الفاشستي يلائم الأمة العربية: هي بحاجة إلى نظام خاص يكون مقتبساً من تاريخها، ومستمداً من قوة الحاضر وواقعه.

القضية العربية تشكو خلوها من عالم مدقق حصيف يدرسها على ضوء المنطق، درساً عميقاً مستفيضاً، كما درس موسليني القضية الإيطالية، وهتلر الألمانية، وكما درس من قبلهما الفيلسوف الاجتماعي مونتسكيو القضية الفرنسية فكان كتاب (روح الشرائع) الذي أخرجه بعد درس النظام الدولي الأنكليزي، درساً مشبعاً بروح البحث والتمحيص، ومشعلاً استنار به الفرنسيون واسترشدوا بقوانينه وشرائعه، فجاء مطابقاً لأهوائهم، ملائماً لرغبائهم، محاكياً ميولهم محققاً آمالهم وأمانيهم.

الأمة التي في عبقريتها وجوهر، تخلق ذاتها، وتوجد نهضتها بهذه الذات، وتختار بفضل تفكيرها وجهودها نوع الأنظمة الذي يوافق طبيعة إقليمها ويلائم مستوى شعبها الفكري والعقلي والأخلاقي. فهي إذن في غنى عن تقليد هذا النظام وذاك المنهاج، وهي في غنى - إذا كانت شروط العبقرية متوفرة لديها - عن اتباع النظم الدكتاتورية التي خلقت الحرب الكبرى وجودها في بعض أمم الغرب.

ولست أعتقد أن سمة التقليد هي سمة الأمة العربية التي برهنت وتبرهن الآن في أجل وأقدس بقعة من بقاعها على أنها أمة فيها نبوغ وفيها عبقرية.

أمتنا شبيهة بتلك النفس المضطربة الحيرى التي تحس في أعماقها بحاجتها إلى الصديق العالم المخلص العطوف الذي يحنو عليها برفق ليسير بعقله حقيقتها، ويملك بقوة (سيكولوجيته) كل ناحية من نواحي خلقها ونفسيتها، ويحبها بقلبه وجوارحه حباً عميقاً صادقاً لا يخالطه زيف يحوجه إلى سلوك طرق النفاق والتدجيل.

ويوم يعلن لها ضحاه وجود هذا الصديق تستطيع هذه الأمة التعسة أن تنام قريرة العين، لأنها سوف تستودع آمالها وأمانيها في قلب وفي أمين، تعلو به مشاعره النبيلة عن الخيانة والكذب، ويرتفع عن استعمال أحط الطرق والوسائل في سبيل خدعها والسخر منها

فلك طرزي