مجلة الرسالة/العدد 276/التعليم والعاطلون في مصر
→ الصقر نحن به أولى | مجلة الرسالة - العدد 276 التعليم والعاطلون في مصر [[مؤلف:|]] |
كما يرانا غيرنا ← |
بتاريخ: 17 - 10 - 1938 |
للأستاذ عبد الحميد فهمي مطر
الأستاذ عبد الحميد فهمي مطر أحد رجال التربية المثاليين
الذين يسيرون إلى غايتهم من التعليم مستقلين على ضوء
الفكرة والخبرة والاطلاع، فهو لا ينفك منذ 24 عاماً معنياً
بمسائل التربية في مصر باحثاً في عللها ناقداً لنظمها في
صراحة وجرأة. وقد توفر أخيراً لدرس هذا الموضوع
الخطير، وهو معضلة الساعة؛ ثم تفصل فوعد بنشره تباعاً في
الرسالة.
المحرر
نشأت في قرى الريف بين حقول الطبيعة وإحراجها مغرما بها، في أحضان الحرية وبين ضلوعها هائما بها، ثم دفعت بي الأقدار بعد الدراسة في الكتاب إلى المدرسة الابتدائية التي جذبتني إليها جذباً بطربوشها وملابسها الإفرنجية. ذلك الطربوش الملون بلون الورود، الذي كان لا يزال يتعشقه أبناء الريف منذ ظهر في الوجود، والذي بمجرد أن لبسته أنا وإخواني تأكدنا من المستقبل السعيد، في ساحة الدواوين، بين الموظفين.
فكان ذلك الغرض الذي يملأ نفوسنا حافزاً لكل منا إلى الاجتهاد والجد. وبالرغم مما صدمتنا به المدرسة من ضغطها وشدتها وعصبها وجبروتها وحدتها، مما بغض الجميع فيها فقد كان الغرض السامي يدفعنا أبداً إلى الأمام، إلى العمل المتواصل، إلى المدارس الثانوية من غير أن يتخلف منا إلا القليل. أما من تخلف فقد وجد السبيل إلى العمل أو إلى مدارس أخرى سهلا ميسورا، ثم كان النجاح في البكالوريا فكان الفرح الشامل
وألحقناه بين الحفاوة والتبجيل، وعظيم الدعاء والتهليل، بالمدارس العليا يحدونا الأمل الكبير إلى المستقبل الحافل الذي لا يحلم به أحد من موطنينا الريفيين. فلما حصلنا على الشهادة العليا تخطفتنا الأيدي إلى العمل الحكومي، فولجناه نشيطين جادين. فكان منا المعلمون والأطباء والمهندسون ورجال القضاء، الذين ملئوا دواوين الحكومة بأعمالهم ولم يجد العمل الحر سبيلاً إليهم، وبالرغم مما لقيناه من تكريم فقد بقيت في نفوسنا للمدرسة مرارتها، ودامت فيها ذكريات ضغطها وشدتها. ولكن ذلك كله هان بجانب ما أوصلتنا إليه من نتيجة طيبة. فتلخص في سهولة الحصول على وظيفة حكومية
عملت بين جدران المدارس بعد ذلك زمناً طويلا كنت أحس فيه أن المدارس التي عملت فيها تلميذاً والتي عملت فيها مدرساً والتي عملت فيها ناظراً لم ينلها شيء محسوس من التغير ولم يتطرق إلى روحها شيء من التجديد أو التبديل، فهي لازالت تسير على نفس الوتيرة القديمة، مليئة بنفس الروح القديمة، يحس تلميذها إذا ما دخلها بانقطاعه عن العالم وما فيه إلى شبه سجن غير محبوب إن لم يوصف بأنه مكروه، ولكن الجميع ظلوا يكبتون عواطفهم إزاءها لما تجلبه من خير الوظيفة إلى طلابها بعد نيل شهادتها، وظلت المغريات القديمة تدفع الناس دفعاً للسعي إليها
وبدأت بعد ذلك تظهر مشكلة المتعطلين من المتعلمين بعد أن امتلأت الدواوين بالموظفين وكنت قد تبينت بالبحث حالة المدارس في البلاد الأخرى، وما تسير عليه من أنماط وأساليب، تغاير ما نسير عليه في مدارسنا فرفعت بعض التقارير إلى وزراء المعارف في نقدها مبيناً عيوبها، واستمر ضغط حملة الشهادات على الدواوين حتى اكتظت بهم، وأصبحت المدرسة لا تجد سبيلاً لتصريف الخريجين من أبنائها، مما اضطربت له أفئدة المسئولين. وأخذ ألم المتعطلين يحز في نفوسهم ونفوس أهلهم، ويثبط من همم الناشئين المتعطلين، ويضغط في الوقت نفسه على الحكومة ورجالها ضغطاً شديداً. ثم أخذ الحال يزداد سوءاً يوماً بعد يوم. أما المدرسة التي كنا نتحمل قديماً شدتها، ونخضع لما فيها من ضغط وإكراه، في سبيل غرضها الأسمى، فقد أصبحت اليوم لا غرض لها إليه إذ أحس كل من فيها بزوال غرضها القديم الذي كانت تتجه بكليتها إليه، هذا فوق شذوذها عن الطريق السوي لبعدها عن الحياة وما يجري فيها. وهكذا ساءت الحالة إلى مدى بعيد بين جدران المدارس نفسها، فأنحط مستوى التعليم كما انحطت الأخلاق فيها؛ ذلك إلى العطل الذي ضرب إطنابه بين خريجيها مما أصبح خطره يهدد المجتمع في نظامه وحياته، ذلك المجتمع الذي لم يضمن بأنفاق الملايين من الجنيهات على مدارسه في سبيل الانتفاع بمجهودات أبنائها
إزاء كل ذلك لم أجد بداً من هذا البحث الذي أنشره في الرسالة تباعاً واضعاً فيه نتائج بحثي وعصارة تجارب حياتي تلميذاً ومدرساً وناظراً بعد جهاد طال أكثر من خمسة عشر عاماً بيني وبين أنصار القديم كنت فيه هدفاً لسهامهم نظراً لما كنت أتمتع به في كتاباتي وأقوالي من حرية الرأي التي نشأت عليها. وهأنذا اليوم أتقدم بالصراحة التي عرفت بها إلى أمتي العزيزة وعلى رأسها عنوان الشباب وقوة العزيمة مليكها المحبوب المتفاني في حبها المتحمس لنفعها وخيرها - بخطط جديدة للإصلاح متمشية مع الروح الجديدة في عالم التربية متضمنة لأحسن الآراء والمذاهب من غير أن أتعرضللتفصيل، ليمحص تلكم الآراء ذوو العقول والأفكار الناضجة في سبيل تنفيذ الصالح منها. ولست أدعي أن الخطط الجديدة التي تضمنها هذا البحث كلها سليمة لا غبار عليها، لأني أعتقد أني لست معصوماً من الزلل، ولكني أقرر أنني بحثتها ومحصتها وأعتقد أن الأخذ بها ينقل عالم التعليم والتربية عندنا من حال إلى حال، لأنه يمنح المدرسة الحياة الحرة المستمدة من حياة مصر الحرة، كما يضع أمامها هدفاً تسعى إليه عن طريق العمل المفيد المثمر. إذ أنها بحالتها الحاضرة تنبو عن أصول التربية والتعليم، كما تتجافى مع الآراء الحديثة فيهما. ولا تتنافى فقط مع ما يجري في مثلها من البلاد الأخرى، بل تتنافى أيضاً مع ما يقع في بلادنا بين سمعنا وبصرنا في المدارس الأجنبية. فلا يليق باستقلالنا ونهضتنا وحريتنا أن تبقى المدرسة أسيرة لروح التمسك بالقديم. تلك الروح التي قد اضطررت للتنديد بها لما رأيته من وقوفها حجر عثرة في طريق الإصلاح حباً في الراحة والاطمئنان، أو احتفاظاً بالنفوذ والسلطان. ولو أن المسألة وقفت عند هذا الحد لهان الأمر، ولكنها تعدت إلى الأضرار بمصالح الملايين من فتيان هذه البلاد وفتياتها، بل إلى المساس بمصالح أمة يخشى على نظامها الاجتماعي من الانهيار. من أجل ذلك تقدمت راضياً بتحمل كل تضحية، راضيا ببذل كل مرتخص وغال في سبيل مصلحة بلادي وإخلاصي لمليكي، بالعمل على إنقاذ هذا الوطن من خطر العطل المحدق به والذي شعر به الجميع، وخشيه الجميع، وأشفق على مصر منه الجميع، راجياً ألا تذهب صرختي هذه أدراج الرياح كما ذهبت صيحاتي السابقة. آملا أن يقرأ المسئولون عن مستقبل هذا البلد هذا البحث برؤية وإخلاص وأن يبحثوه ويمحصوه. فإذا اقتنعوا بكل ما فيه أو ببعضه عملوا على تنفيذه وإلا فأني أكون قد أرضيت ضميري وأديت واجبي. هذا وان كنت قد اضطرني البحث إلى ذكر بعض مساوئنا وأخطائنا، قائما فعلت ذلك ليكون في حاضرنا عبرة لمستقبلنا. وإذا كنت كذلك قد اضطررت إلى التنديد بروح الاحتفاظ بالقديم في ديوان المعارف وفي معاهد التعليم، فأني أرجو ألا يفهم من ذلك إني أوجه النقد إلى أشخاص معينين، لأن البحث العلمي فوق الأشخاص. وما كان نقدي إلا في سبيل الصالح العام وهو موجه إلى سياسة عامة أنتجت نتائج سيئة هامة؛ خصوصاً أننا نعلم أن الأشخاص يذهبون ويزولون، أما السياسة العامة فبقاؤها أدوم وأثرها أعظم في الأبناء والأحفاد، بل وفي مرافق البلاد.
ويكفيني أن يشاركني في ذلك مندوبو مصر في مؤتمر الاتحاد العالمي لجمعيات التربية في جنيف سنة 1929 في تقريرهم عن هذا المؤتمر الذي طبعته وزارة المعارف سنة 1936 وقد جاء فيه (ص35) في سياق الكلام عن المعرض الذي أقيم في هذا المؤتمر ما يأتي: (وأني أقول آسفاً إننا لم نعان في الحياة أشد من مرارة المقارنة بين ما نحن عليه من تأخير وجمود وما وصلت إليه تلك الأمم المتمدنة الناهضة. وأمر من ذلك أن نعد أجيالا طوالا لابد من أن نمضي قبل أن نلحق بهم ما لم يهم أولياء الأمور فينا بثورة على القديم، ونهضه تحطم الأغلال العتيقة، وتقلب نظام التربية الحديثة عندنا من أساسه فندب الروح الجديدة في التعليم من كل نواحيه)
(يتبع)
عبد الحميد فهمي مطر