مجلة الرسالة/العدد 275/للأدب والتاريخ
→ من مشاكل التاريخ | مجلة الرسالة - العدد 275 للأدب والتاريخ [[مؤلف:|]] |
جورجياس أو البيان ← |
بتاريخ: 10 - 10 - 1938 |
مصطفى صاق الرافعي
1880 - 1937
للأستاذ محمد سعيد العريان
- 40 -
(طال بي الحديث إلى قراء الرسالة عن الأسباب التي كانت تملى على الرافعي موضوعاته التي كتبها لقراء الرسالة، فسأرجئ ما بقي من هذا الباب إلى موضعه من كتاب (حياة الرافعي) الذي يصدر قريباً؛ ليتسنى لي أن أنشر على القراء ما يتيسر نشره من فصول هذا التاريخ قبل الفراغ من طبع الكتاب)
سعيد العريان
رسائل القراء إليه:
لم يكن بين الرافعي وقرائه صلةٌ ما قبل أن يبدأ عمله في الرسالة، ولم تكن أصوات القراء تصل إليه من قريب أو من بعيد، إلا طائفة تربطه بهم صلات خاصة كان يكتب إليهم ويكتبون إليه؛ فلما اتصلت أسبابه بالرسالة، أخذت رسائل القراء ترد إليه كثيرة متتابعة، حتى بلغ ما يصل إليه في اليوم ثلاثين رسالة أو تزيد. وأستطيع أن أقول غير مبالغ: إن الرافعي قد عرف من هذه الرسائل عالماً لم يكن به عهد، وانتقل بها نقلة اجتماعية كان لها أثر بليغ في حياته وتفكيره وأدبه. وإذا كان مؤرخو الأدب قد اصطلحوا على وجوب دراسة البيئة التي يعيش فيها الأديب والتطورات الاجتماعية التي أثّرت فيه، فأن مما لا شك فيه أن الحقبة التي كان الرافعي يكتب فيها للرسالة - كانت تطوُّراً جديداً في حياته الاجتماعية نقله إلى عالم فيه جديد من الصور وألوان من الفن تبعث على التأمل وتوقظ الفكر وتجدّد الحياة. وقد عاش الرافعي حياته بعيداً عن الناس لا يعرف عنهم ولا يعرفون عنه إلا ما ينشر عليهم من رسائله ومؤلفاته، فكان منهم كالذي يتكلم في (الراديو) يسمعون عنه ولا يسمع منهم، وليس له مما يستمد منه الوحي والإلهام إلا ما تجيش به نفسه، ويختلج في وجدانه، غير متأثر في عواطفه الإنسانية بمؤثر خارج عن هذه الدائرة المغلقة عليه وكان هو نفسه يشعر بهذه القطيعة بينه وبين الناس، وكان له من علّته سبب يباعد بينه وبينهم؛ فمن ذلك كان يسره ويرضيه أن يجلس إلى أصحابه القليلين ليستمع إليهم ويفيد من تجاربهم، ويُحصِّل من علم الحياة وشئون الناس ما لم يكن يعلم. . .
ثم بدأ يكتب للرسالة فعرفتْه طائفة لم تكن تعرفه، وتذوْق أدبه من لم يكن يسيغه؛ وكانت الموضوعات التي يتناولها جديدة على قرائها، وجدوا فيها شيئاً يعبر عن شيء في نفوسهم؛ فأخذت رسائل القراء تنثال عليه، فأنفتح له الباب إلى دنيا واسعة، عرف فيها ما لم يكن يعرف، ورأى ما لم يكن يرى، واطلع على خفيات من شئون الناس كان له منها علٌم جديد. . . فكان من ذلك كمن عاش حياته بين أربعة جدران لا يسمع إلا صوته، ولا يرى إلا نفسه، ثم انفتح له الباب فخرج إلى زحمة الناس، فأنتقل من جو إلى جو، ومن حياة إلى حياة. . .
هي نقلة اجتماعية لا سبيل إلى إنكار أثرها في الرافعي وأدبه، وإن لم يفارق بيئته ومنزله وأهله
والآن وقد وصلت إلى جلاء هذا المعنى كما شاهدته وعاينت أثره، فأني أتحدث عن ضرب من هذه الرسائل التي كانت ترد إلى الرافعي من قرائه، ليعرف الباحث إلى أي حد تأثر الرافعي بها، وأيَّ المعاني ألهمته وقدحت زناد فكره؛ وإذا كانت بعض (الظروف الخاصة) قد حالت بيني وبين الاطلاع على كل هذه الرسائل التي خلّفها لتتم لي بها دراسة التاريخ، فحسبي ما أقرأني الرافعي منها في أيام صحبته، وما اطلعت عليه بنفسي من بعد. . .
نستطيع أن نردّ الرسائل التي كانت ترد على الرافعي إلى أنواع ثلاثة:
1 - رسائل الإعجاب والثناء
1 - رسائل النقد والملاحظة
3 - رسائل الاقتراح والاستفتاء والشكوى
أما النوعان الأولان فليس يعنينا منهما شيء كثير، وحسبي الإشارة إليهما؛ على أنه ليس يفوتني هنا أن أشير إلى أن أكثر ما ورد إلى الرافعي من رسائل الإعجاب، كان عن مقالاته في الزواج وكان أكثر هذه الرسائل من الشبان والفتيات، وقلما كانت تخلو رسالة من هؤلاء أو هؤلاء، من شكوى صاحبها أو صاحبتها وتفصيل حاله. وأطرف هذه الرسائل هي رسالة من آنسة أديبة في أسيوط كتبت إلى الرافعي تسأله أن يكتب رسالة خاصة إلى أبيها - وقد سمْته في رسالتها - يعيب عليه أن يعضل ابنته ويردّ الخطَّاب عن بابه حرصاً على التقاليد. . .
. . . ثم رسالة من (مأذون شرعي) يحصي فيها للرافعي بعض ما مر عليه من أسباب الطلاق في الأسر المصرية، ويردها كلها إلى سوء فهم الناس لمعنى الزواج وحرصهم على تقاليد بالية ليست من الدين ولا من المدنية، وفي هذه (الإحصائية) الطريفة قصص خلقية بأن تنشر لو وجدت من يحكيها على أسلوب فني يكسبها معنى القصة
واعجب ما قرأت من رسائل النوع الثاني، رسالة جاءته بعقب نشره مقالة (الأجنبية) عليها خاتم بريد (شطانوف) فلما فض غلافها لم يجد فيها إلا صفحات ممزقة من الرسالة التي نشرت فيها القصة ومعها ورقة فيها هذه الأسطر:
سيدي الأستاذ إن كان لا بد من رد فهذا هو خير رد، وإن كان لا بد من كلمة فكلمتنا إليك هي تلك الكلمة التي ختمت بها هذا الكلام المردود إليك
(مصري)
ومن النوع الثالث من هذه الرسائل، كان استمداد الرافعي ووحيه ودنياه الجديدة، وإلى القراء نماذج مختلفة من هذه الرسائل
1 - هذه رسالة فتى في العشرين، يكتب إلى الرافعي من الإسكندرية يقول:
(أستاذي الكبير
(ليس لي الآن إلا ربي وأنت يا أستاذي، وإن من حقك عليَّ أن أسألك حقي عليك وقد هداني الله إليك
(. . . قرأت وتدارست ما كتبته عن الانتحار، فماذا تقول في امريء علم عمن الجنة تحت أقدامها أنها فسقت وزلْت. . فهو يتحين الفرصة ليقتلها. إني أبكي يا أستاذي إذ أعيد هذا القول.
أبكي دماً. لي أخوة وأنا أكبرهم، ولا أخاف إلا أن لي أختاً.
وأبي - غفر الله له - ليس له ما يكون للرجل من معاني الرجولة ليضمن ألا يكون في بيته شيء مما قد كان. . .
(الشك يساورني منذ أكثر من عامين. واليوم فار التنور، إذ سمعت إنها حبلى. ووقع في يدي ما ملأني يقيناً بتصديق إثمها؛ ولقد همت أن أفعل ما لا يُفعل، وأنا أخشى ألا يتداركني حكمك.
(. . . ماذا تقول يا أستاذي؟ أنا الصابر أبداً كاد الصبر يتلاشى من نفسي، أنا المطمئن أبداً كاد أمري يضيع من يدي. أنا كالمجنون لا يبقني شبه عاقل إلا أنت، فماذا تقول يا أستاذي وبماذا تحكم؟ يكتبها الله لك فتداركني برأيك. . .
(ولك مني شكر من يسأل الله ويسعى إلى أن يكون بنفسه وحياته من حسنات تربيتك، وأن يكون في اليوم الآخر كلمة من سطر من كتابك القيم. . .
(ومعذرة لي من لدنك إن أغفلت الآن اسمي)
في 1451935
2 - وهذه معلمة في إحدى مدارس الحكومة، حامت حولها ريبة فوقفتها وزارة المعارف حتى تحقق أمرها، فكتبت إلى الرافعي تسأله أن يعينها بجاهه حتى تعود إلى عملها الذي تعول منه أبويها؛ فيشفق عليها الرافعي ويسعى سعيه لبراءتها. . . وعادت إلى عملها؛ وحفظت الجميل للرافعي، فكانت تكتب إليه كل أسبوع رسالة تبثه خواطرها، وتصف له من أحوالها وما تعمل؛ وتكثر رسائلها إلى الرافعي حتى يزول الحجاب بينهما، فتصرح له بما لا تصرح فتاة، ويؤول أمرها في النهاية أن تكتب للرافعي بأنها عاشقة. . . وأن معشوقها الصغير - التلميذ في إحدى المدارس الصناعية بالقاهرة - لا يعلم ما تكن له. هي تلقاه، وتماشيه، وتخلو به خلوات (بريئة) ولكنها لم تكشف له عن ذات نفسها، وتأكلها النار في صمت. . .! وتقول في رسالتها إلى الرافعي:
(. . . فدبرني يا سيدي في أمري؛ قلبي يحس أنه يحبني، لقد قالتها لي عيناه، ولكنه لم يتحدث إلي، ولست أجد في نفسي القدرة على التصريح له. . .)
وتتوالى رسائلها إلى الرافعي تصف له ما تلاقي من الوجد بحبيبها الذي تكبره بسنوات، ويقرأ الرافعي رسائلها فيبتسم، ويتناول قلمه الأزرق فيثوِّر فيها علامات يشير بها إلى مواضع وفِقَر تلهمه معاني جديدة وفكراً جديداً؛ ويشتط الحب بالمعلمة العاشقة حتى تنظم الشعر، فتبعث إلى الرافعي بقصائدها ليرى رأيه فيها. . .
بين يديّ الساعة آخر رسالة من رسائلها إلى الرافعي. بعثت بها إليه قبل منعاه بقليل. ليت شعري كيف انتهت قصة هذا الحب؟
3 - وهذه رسالة من (حلب) يدهش كاتبها أن يرى صورة (الشيخ) مصطفى صادق الرافعي مطربشاً حليق اللحية أنيق الثياب، فيكتب إليه:
(. . . لقد رأيت رسمك يا مولاي فتأملته. . فوجدته من أناقة الجلباب ومظهر الشباب على حظ. فهل لك يا مولاي في مجاراة المدنية ومماشاة الحضارة رأى دعاك إلي هذا المظهر الأنيق؟. . .)
4 - وتلك رسالة من (دمشق) وقع كاتبها في هوى مغنية مشهورة، يحسن الظن بها إحساناً يمثلها لعينيه مَلَكا أنثى؛ لا يترك مجلساً من مجالس غنائها، ولا يفكر في خلوته إلا فيها. .
ثم يأتيه النبأ أنها قد سُمِّيتْ على رجل من ذوي اليسار والنعمة، وأنها موشكة أن تصير له زوجة، فيطير به هذا النبأ ويؤلمه أيَّما أيلام؛ فيكتب إلى الرافعي يقول:
(. . . إن خطيبها على غناه رجل فاسد الخلق، متقلب القلب، دنس الذيل؛ وأنا على يقين أنها ستشقى به وقد خفيت عنها حقيقته. وأنا أحبها وأشفق عليها وأتمنى لها السعادة. . .
(هل يجب عليُّ أن أقف وقفة المحذر بإقناعها بالعدول عن هذا الزواج الذي لا أتوقع له إلا نهاية واحدة قريبة، أو ألزم الصمت وأدع الأمور تجري في مجاريها وأقطع علائقي معها فأرد لها صورها ورسائلها احتراماً لهذا الزواج من الناحية الشرعية وأدفن ذلك الحب لها في ركن من أركان قلبي؟)
5 - وذلك طالب في الجامعة، له دين وخلق ومروءة، بلغ مبلغ الرجال وفار دم الشباب في عروقه فتسلّطت عليه غرائزه، تغالبه شهواته فلا يكاد يغلبها، ولا يجد له سلطاناً على نفسه أو وسيلة لقمع شهواته إلا أن يحبس نفسه أياماً في غرفته الموحشة، ومع ذلك لا تزال (المرأة) تتخايل له بزينتها في خلوته وفي جماعته، فليس له فكر إلا في المرأة، وأنه ليخشى الله، وما به قدرة على الزواج، ولقد جرب الصوم فما أجدى عليه، وقد أوشك أن يفقد نفسه بين شهوات تتجاذبه ودين يأبى عليه. . . فماذا يفعل؟
6 - وهذه فتاة متعلمة، تعيش بين أبيها وزوج أبيها في هم لا يطاق، كل سلوتها في حياتها أن تقرأ، وهي لا تحسن عملاً ولا تجد لذة في عمل غير القراءة، ولكنها تنكر موضعها بين أبيها وزوجه، إنهما ينكران عليها كل شيء مما تراه هي من زينها بين الفتيات، فعلمها حذلقة، وآراؤها فلسفة فارغة، ومطالعتها عبث ولهو وسوء خلق، وفرارها بنفسها إلى غرفتها كبرياء وأنفة وتمضي السنون وهي في هذا العذاب من دار أبيها، فلا هي تستطيع أن تحمل أباها وزوجه على رأيها في الحياة ولا هي تستطيع أن تنزل إليهما، والمنقذ الذي تنتظر الخلاص على يديه من هذا العذاب لم يطرق بابها بعد، ولو أنه طرق بابها لأشاحت عنه معرضة في وجل، لأنها تسيء الظن بكل الرجال. فماذا تعمل؟
7 - وهذا فتى مثاليٌّ يحسن الظن بالأيام ولكن الأيام تخلفه موعده: أحب فتاة من أهله وأحبته وتواعدا على الزواج، ولكن أهلها زوجوها من غيره
والتمس الوظيفة التي يؤمل أن يصل إليها بعد تخرجه، فنالها ولكن وجدها غُلاًّ في عنقه وكمامة على فمه
وطلب الزلفى إلى الله بالإحسان إلى الناس فبادلوه إساءة بإحسان وغدراً بوفاء
وكلما غرس زهرة هبت عليها أعاصير الحياة فاقتلعتها وألقتها في مواطئ النعال
وبرم الحياة وضاقت به الدنيا وما يزال في باكر الشباب. . . فماذا يصنع؟
8 - وهذا شاب يشهد لنفسه بأنه من عباد الله الصالحين يخاف الله ويخشى عذابه: أحب فتاة من جيرته حباً (عُذرياً) وأحبْته، وبرّح بهما الحب حتى ما يطيقا أن يمضي يوم دون أن يلتقيا، ولقيته ذات مساء في خلوة بعيدين عن أعين الرقباء، وما أكثر ما التقيا في خلوة، ولكن الشيطان صحبهما هذه المرة إلى خلوتهما. . . ووقعت الجريمة من غير أن يكون لها إرادة أو يكون له. . .
. . . ولما فاءت إليه نفسه أخذ يكفكف لها دموعها وهو يبكي وكان في نيته أن يتزوجها حين ينتهي من دراسته بعد سنتين أو ثلاث، وكان صادقاً في نيته، وكانت الفتاة مؤمنة بصدقه، ولكنها لم تُطق الانتظار حتى تمضي السنوات الثلاث ولم تطق أن تراه بعد؛ وجاءه النبأ بعد ثلاثة أيام أنها ماتت محترقة. . .
وعرف هو وحده من دون أهلها ومن دون الناس جميعاً كيف ماتت. . . ومنذ ذلك اليوم تلاحقه صورتها في نومه وفي يقظته؛ ومضت سنتان منذ وقعت الفاجعة ولكنه ما يزال يذكرها كأنها كانت بالأمس، وكتب إلى الرافعي يقول في رسالته: (. . . إنني أنا الذي قتلتها، إن دمها على رأسي؛ لقد ماتت ولم يعلم بسرها أحد غيري وهذا أشد ما يؤلمني، ولقد احتملت بصبر وثبات كل ما نالني في هاتين السنتين من تأنيب الضمير وعذاب القلب، ولكني اليوم أحس بأن صبري قد انتهي ولم يبق فيّ قوة على الاحتمال أكثر مما احتملت. . . فماذا أفعل، ماذا أفعل. . .؟)
ألوان وصور، وملائكة وشياطين، ونفوس تتعذب، وقلوب تحترق، وأنات وابتسامات، ودنيا لم يكن للرافعي بها عهد، ولم تكن تخطر له على بال.
وفي الأسبوع الآتي بقية الحديث عن رسائل القراء.
(شبرا)
محمد سعيد العريان