الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 275/إلى مؤتمر نواب العرب

مجلة الرسالة/العدد 275/إلى مؤتمر نواب العرب

مجلة الرسالة - العدد 275
إلى مؤتمر نواب العرب
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 10 - 10 - 1938


لبيك! لبيك! فلسطين

للأديب السيد ماجد الأتاسي

إذا كانوا يزعمون أن هذا العصر عصر الديمقراطيات والحريات والمساواة في الحقوق والواجبات، فهو إذن عصر المؤتمرات للأفراد والجماعات والهيئات. ومن الناس يأتمرون من مختلف الأمم، ويريقون على هذه المؤتمرات عواطفهم وميولهم، وينفضون عليها آمالهم ومثلهم، ويحيطونها بالضجيج وفنون الدعاوى، فإذا الناس يتحدثون عنها إذا أمسوا وإذا اصبحوا، حين يكتبون، وحين يخطبون، وحين يسمرون، وحين يهذون. وقد تصبح هذه المؤتمرات ملء الدنيا وشغل الناس، وقد يكون لها نصيب من حق، وحظ من جمال، ونَسَم من مثل عليا، ولكنها - على هذا كله - تبقى مؤتمرات تضم طائفة من أهل الأرض!

ولكنها - على هذا كله - تبقى أرضية، أرضية!. . .

أما مؤتمر العرب اليوم، دفاعاً عن فلسطين، فهو نوع آخر من المؤتمرات فذ طريف؛ من طراز لا عهد لأبناء الأمم الأخرى به ولا قبل لهم بمثله. . .

هو مؤتمر برئ كرقصة العجوز، صادق كصلاة الطفل، رائع كحلم الحسناء، شريف كأغنية البطل في جوف الليل.

هو، يا أهل المشارق والمغارب، مؤتمر اشتركت فيه الأرض والسماء! وهل اشتركت الأرض والسماء في مؤتمر قبل اليوم؟!.

من يدري، أيها المؤتمرون؟ لعل الأرض لم تتصل مرة بالسماء، اتصالهما بالقاعة التي ضمتكم، تلك القاعة التي هيأتها الأقدار لتكون اليوم مهبط الوحي، ولتكونوا أنتم اليوم رسل هذا الوحي إلى العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها!. .

من يدري، أيها المؤتمرون؟ لعل مواكب العرائس من الحور العين كانت تمتد على حفافي طريقكم إلى قاعة المؤتمر مزغردات، هازجات، فأثارت على رؤوسكم الفل والياسمين والريحان، نافحاتٍ مواكبكم بأطياب العطور!. .

من يدري، أيها المؤتمرون؟ لعل أجنحة الملائكة كانت تخفق في جو القاعة المباركة، فتنفض عليه النور والقوة، والهناء والثقة؛ ولعل أرواح الأنبياء كانت - إذ وطأت أقدامك عتبتها - تفوح حمداً ودعاءً، احتفالاً برسل الأخوة، وقيام الدعوة مرة أخرى إلى (حِطِّين) ثانية!. . آيات من وحي السماء كانت

من يدري، أيها المؤتمرون؟ لعل آيات من وحي السماء كانت تتنزل على شفاهكم حين تكلمت قلوبكم من على المنابر الخاشعة، فخنس - إذا تكلمت - الشيطان، وارتعد الأرعن العجلان، وكبَّرت وهللت - إذا تعاهدتم - الأرض والسماء وملائكة الرحمن!. .

اليوم تأتمرون، وتصلون لأجل فلسطين، يا بقايا السيوف، وأحفاد الفاتحين. .

واليوم تتلفت فلسطين المفجوعة، ترسل النظر الحائر الدامع إلى قبلة الهرم، ترتقب من قاعة المؤتمر ومضة النور، ونفحة القوة، ودعوة الجهاد؛ وجبل النار، جبل النار الذي صهرته الشدائد، وهدته النوازل، وطهرته الدماء، واجتاحته النار ليكون روضة من رياض الجنان، يرتقب اليوم من مؤتمركم قطرات الندى لزهره الذي ذوي، وانبعاث الربيع لربعه الذي أقوى، وانتعاش الحياة في هيكله الذي يضوي.

اليوم، تأتمرون، وتصلون لأجل فلسطين، يا بقايا السيوف، وأحفاد الفاتحين!. .

واليوم، ترنو إليكم - في إسارها ومحنتها - بضراعة المهان، وانكسار الذليل، واستغاثة المصاب، ابنة عم قيدوها عند صخرة المسجد الأقصى، ومهد المسيح

اليوم تمد يديها إليكم، وقد بهرتها الشدائد، وفدحتها المصائب، وأجهدها اللغوب؛ وأبناؤها المدافعون بالأيدي عنها، يتساقطون - والهف نفسي عليهم - بالقرب منها عزلاً واحداً بعد واحد، وزمرة بعد زمرة، مشردين في مجاهل المفاوز، وخوادع السبل، بين شاب كزهر الصبح معفر الوجه - واحسرتاه - بالرمال، وشيخ يلفظ النفس في شعاف الجبال، وطفل يتضور جوعاً في الحصار، وفتاة كالبدر تبكي مروعة في الأسحار، وفارس يصبح ويمسي كل يوم في ميدان، لحافة السماء ومهاده صهوة الخيل، وقوته الأعشاب، يذب عن ثاني القبلتين وأيكة الأنبياء والأقطاب، وخميلة الوحي والإيمان، وعروس الأديان في كل زمان، يذب عن عذارى العرب المروعات، يذب عن الأعراض والحرمات، يذب عن الشرف العربي خشية أن يهان، يذب واهباً لله نفسه، والوطن روحه، والعروبة ماله، فاتحاً ذراعيه للقاء العرائس الملوحات له من وراء النظر وقد فتحن له باسمات مزغردات أبواب الجنان، ففاحت عطورها، وتضوعت زهورها، وهبت نسائمها، وصدحت طيورها، وكبرت وهللت سدنتها يباركون (العريس) الجديد، يباركون الزائر القادم، يباركون هذا الجندي الفارس الملثم من جنود صلاح الدين. . .!

اليوم تأتمرون وتصلون لأجل فلسطين، يا بقايا السيوف، وأحفاد الفاتحين!

واليوم أنتم اليد الملائكية الناعمة، تمتد في هدأة الليل، لتكفكف دموع ذلك اليتيم العربي الهائم على وجهه في فيافي بئر السبع؟ يفتش عن جثة الأب الشهيد!

أنتم اليوم قطرات الندى يتساقط في غلس الفجر على قبور الشهداء فترف على زهرات هذه القبور؛ تلك الزهرات التي رويت من دم قلوبهم فتفتقت - في رواءها ونضرتها - رمزاً حياً لأمانينا ومثلنا، رمزاً لأماني العروبة المجاهدة في فلسطين!

أنتم اليوم زمجرة الثأر تعصف فتهتز لها طرباً عظام الشهداء الهاجعين في سفوح الجبال، وترقص عليها النسوة المروعات في الأسحار!

أنتم اليوم لمعة النور تومض في معامي الأفق الغائم، فتهفو لها قلوب المؤمنين الآمنين المحاصرين في أجواف الدور، وشعاف الجبال، في فلسطين!

أنتم اليوم بسمة الأمل لمن خلف المجاهدون في فلسطين وراءهم من شيوخ وأطفال ونساء!

أنتم اليوم، لحن العزاء لهؤلاء الشيوخ المكابدين لواعج الأحزان على حرمات تنتهك، ونفوس تزهق، ووطن يستباح، وشعب يموت، وحق يهضم، لسواد عيون شعب (مدلل) جميل، لسواد عيون الحسان من بنات صهيون!

أنتم اليوم شبح القصاص يطارد، بعد موهن الليل. بنات صهيون المجررات عند الأقصى أذيال الخطايا والآثام!

أنتم اليوم حلم الخلاص الجميل يداعب جفون العذراء العربية عند مهد المسيح الغارقة في غفوة الأحلام؟

أنتم. . . أنتم. . . وإن لم يكن بيدكم هذا السوط الذي يهزه اليوم هتلر وموسوليني في وجههم. . . فإذا هم كالأنعام. . .

أنتم. . . أنتم. . . وفيكم اليوم ما يخيف: فيكم تاريخ يثور، وماض يبعث، وحاضر يتوثب، ومستقبل يتوعد، وعلى لسانكم - فوق هذا وذاك - حق يتكلم

والمجرم، المجرم، يا قوم؛ هو أجبن خلق الله وإن كان أقوى الأقوياء! هو يحمل اللعنة في ثيابه، وإهابه، ويرن أبداً بين أذنيه صوت القصاص. . .

أنتم. . . أنتم. . . وفيكم اليوم ما يخيف: اليوم يعلمون حق العلم أن هؤلاء الذين أمامهم هم هم الذين عرفوهم، منذ قرون تحت أسوار أورشليم. واليوم يعلمون حق العلم أن أولئك الفرسان الذين يسابقون الريح في خطوط النار، هم هم الفرسان الذي كان يرتفع غبارهم وراء رايات صلاح الدين في حطين. . .

وكل عربي اليوم صلاح الدين. وكل بلد عربي اليوم حطين

أيها المؤتمرون:

أتقولون اليوم: إن فلسطين لأهل فلسطين، وأن ما يقترف في فلسطين اليوم دونه مآسي تيمورلنك، ونيرون، وجنكيز؟ أم تقولون أن العرب لن يرضوا بعد اليوم بعَظْمة يهودي صهيوني واحد ترمى في فلسطين؟! هذه العظمة المنتنة التي عافتها أنوف العالمين، أتقولون هذا؟ حذار! حذار! فالسلم العزيز الرهيف النحيف إذن (يتوعَّك والتوازن الدولي الجليل الحسَّاس يختل ويغضب، والدنيا تصبح في خطر، وأصحاب الضمائر والعهود الصادقة لن يرضوا في حال من الأحوال أن ينكثوا بعهد قطعوه، ووعد منحوه على حساب شعب برئ آمن مطمئن!

السلم، والمدنية، وحق تقرير مصير الشعوب؛ كل هذا هو الحسان اللواتي لسواد عيونهن قاموا وقعدوا، وأرغوا وأزبدوا، يوم حطم موسوليني تحت سنابك خيله أعرق تاج في ربوع الحبشة

واليوم لسواد عيون هذه الحسان نفسها، يجلون في فلسطين شعباً كاملاً عن وطن آبائه وأجداده ليحلوا محله حثالات الشعوب فهم يخربون المدن، ويقطعون السبل، ويحاصرون الآمنين، ويروِّعون النساء، ويقتِّلون الأطفال. كل هذا لأجل السلام! ووفاء بالعهود والوعود!

أفتدرون، يا قوم، ما الفرق؟

الفرق هو أن يد موسوليني يد قاسية تؤلم إذ تضرب وتوجع. . وأما يدهم فناعمة رهفة، فهي - إذ تضرب - كأنها تربت وتلاعب وتغازل. . .

إذن اضربونا، اضربونا ما أجمل هذه الأيادي وما أشد نعومتها!. . وما أحلى ضرباتها، يا منصفون!

أيها السلم، أيها التوازن الدولي، أيتها المعاهدات والوعود! أيتها الحسان الزرق العيون، يا معبودات تشمبرلن وديلاديه خذوني، وضموني بين ذراعيكم إلى صدركم الجميل!. .

يا لله، ما أعجب شأنكن! أنتن في أحلام الشعراء، وعلى ألسنة الساسة، وفي كتب القانون، تلك (المروحة) أمام وجه الإنسانية الثائرة المحمومة، تخفف عنها وطأة الحر والحمى!. . أنتن عند هؤلاء رسل الحب والقبل بين الناس. . . وأنتن - في الواقع الملموس - ذئاب تعوي، وأرانب تفر، وثعالب تمكر؛ بل أنتن هذا الثوب الفضاض الجميل الذي يحيكونه في لندن وباريس ليحجبوا به عن الأعين الدم القاطر من أيديهم! أنتن - كما قيل - (القفاز الأبيض في اليد الحمراء)، (أنتن النقاب الخادع يستر الوجه الكاشر، والطرف الغادر)، (أنتن حجة ذئب (لافونتين) يفرضها على الحمل الضعيف)، (أنتن معاني الظلم والعنف واللصوصية والاغتصاب تختبئ في مصطلحات القوانين!. . أنتن. . أنتن كل ما بلغت الإنسانية، بعد جهاد قرونٍ، من قدرة على الكذب والتمويه!

سمعنا، يا حسان؛ أن أباكن ويلسن، هذا السياسي الطيب القلب سياسي الكتب والأحلام، قد أقام لكن هناك على ضفاف بحيرة (جنيف) الساحرة مقراً منيفاً ترسلون منه إلى العالم أجمع قبلات الحب والأخوة، ورسائل السلام والوئام، وتبعثون منه، وإلى السماء صلوات المثل العليا!. .

أيها الطيب القلب، الغافي في هدوء الضمير،

اسمعنا من هنا، أسمع أنات عانينا، ونشجات باكينا، وضجات جناحنا المهيض.

اسمعنا: أن هذا القصر الذي شدته بيديك الطاهرتين المشبوبتين ليكون هيكلاً مقدساً لصلوات نسَّاك الحب والمساواة والسلام، أصبح اليوم حانة من حانات الليل، تدار فيها خمور الشهوات، وتدفع بالثملين معربدين في أجواء العالم، وبقاع الأرض، عائثين فيها كاشرة أنيابهم، محمارة عيونهم، مفتحة خياشيمهم، معكرين على الإنسانية صفوها، منغصِّين عليها أحلامها!. .

أصبح اليوم داراً من دور الميسر تلهو به الأمم الكبيرة لا الأفراد، و (الروليت) هناك تدور وتدور، و (القبيش) يرتفع ويهبط، وهي في هذا الدوران والارتفاع والهبوط تدور معهما وترتفع وتهبط لا أموال الأفراد، ولكن - واحر قلباه - مصائر الشعوب، ومقدرات الأمم والضعفاء!. .

أصبح اليوم: سوقاً يأوي إليها تجار الرقيق (بالجملة) (ليتساوموا) فيه، ويتبادلوا، ويتهادوا!. .

أصبح اليوم مأوى للذئاب الخائفين من شرور أنفسهم! والآن، أيها المؤتمرون، إن فلسطين تناديكم.

تنادي المتربعين على عروش الذين كانت تصهل خيولهم، وتلمع أسنتهم، ويرتفع غبارهم، تحت أسوار أورشليم!. .

فمن يكون اليوم منهم صلاح الدين؟

من يكون اليوم منهم (المعتصم) لينقذ اليوم ألف عربية بين أيدي الجنود تنادي من وراء قضبان الحديد، في غلس الليل (وا معتصماه!)؟

أيها المؤتمرون، أيها الملوك، أيها الأطفال، أيها الشيوخ، أيتها العجائز، أيها العرب، أيها المسلمون: صلوا حين تأوون إلى فراشكم وحين تصبحون، لأجل فلسطين!

صلوا حين تجلسون إلى موائدكم لأجل المتضورين جوعاً في فلسطين!

صلوا حين تجلسون إلى أولادكم لأجل اليتامى المشردين في فلسطين!

صلوا حين تجلسون إلى نسائكم لأجل الأرامل المروَّعات في فلسطين!

صلوا: لأجل الشهيد العربي المجهول الهاجع بين وكور النسور في جبل النار.

صلوا لأجله: فهناك من تراب النبي حفنة، ومن البقيع الأطهر قطعة، ومن الفراديس روضة، ومن رضى الله بسمة ومن البركان نفحة.

صلوا، صلُّوا لأجل الشهيد العربي في فلسطين.

(حمص - سوريا)

ماجد الأتاسي