مجلة الرسالة/العدد 274/لبنان الشرقي
→ جورجياس أو البيان | مجلة الرسالة - العدد 274 لبنان الشرقي [[مؤلف:|]] |
التاريخ في سير أبطاله ← |
بتاريخ: 03 - 10 - 1938 |
مصطاف الزبداني
للأستاذ عز الدين التنوخي
أنا اليوم مصطاف من لبنان الشرقي في وادي الزبداني الذي لو نزله من قبل لامرتين لوصفه بما لم يصف به وادي حمانا في لبنان الغربي، ولا سيما بجفاف الهواء، وصحة الماء، واعتلال النسيم، واعتدال الإقليم
أجل، إن لبنان الشرقي ليمتاز بجفاف الهواء لبعده عن رطوبة البحر ولقربه من البيداء، ولذلك وصفه مشاهير الأطباء للمصابين بأمراض الرطوبة كالرثية - الرومتيزم - والسل وعرق النسا، ووصفوه لعين (بُقَّين) التي تكاد تكون منقطعة النظير بين عيون بلاد الشام كلها في صفائها وخفة مائها، وما اشتملت عليه من عناصر تذيب الرمل والحصاة، وتزيد في الهضم ما تشاء فتتعب الطهاة. ولقد أشرت إلى عجيب تأثيرها في السنة الماضية حينما وصفت في هذه الرسالة عين الصحة المنبجسة من جبال حمانا في لبنان الغربي
ليس مجال القول ذا سعة فأسهب في وصف وادي الزبداني الجميل، ولذلك اقتضبت الكلام في تحليته اقتضاباً: بذكر ما فيه من الطرق المعبدة والمغاني والمباني، وبيان ما استوفاه من منافع وروائع تبر المصطافين وتسر الناظرين. . .
يمتد وادي الزبداني الجميل من الجنوب إلى الشمال بين طودين أو سلسلتين من الجبال الشرقية والغربية، وعلى سفوح الطود الشرقي تضطجع قريتا مضايا وبُقَّين وقصر الجرجانية الأندلسي، وقرية بلودان أعلى قرى الوادي وفيها الفندق الفخم الذي يعد من أجمل قصور الفنادق الشامية، وفي الجانب الشمالي من بطن الوادي قامت قرية الزبداني أم القرى، ومهوى قلوب الورى
إن شرايين الحياة في هذا الوادي هي طرقه الكثيرة المعبدة المزفتة، والزفت شاع أنه نعت سوء في كل شيء إلا في الطرق، فإنه وصف خير ونعت يمن فيها يلبد غبارها ويقي السالك عثارها، منها الطريق السلطانية التي تصل دمشق بالزبداني، وطريق مزفتة تصعد من الزبداني إلى بلودان، وأخرى مثلها تربط الزبداني بالجرجانية وبقين ومضايا، وطريق مخضرة أخرى تصل قريتي بقين ومضايا بطريق دمشق على مقربة من مفرق طريق منبع نهر بردى: نهر دمشق الذي وصفه حسان بأنه (يصفق بالرحيق السلسل) وذكره شوقينا محيياً دمشق بقوله:
سلام من صَبا بردى أرقُّ ... ودمع لا ينهنه يا دمشقُ
أمام أم قرى هذا الوادي البهيج فهي الزبداني مركز القضاء وعامله القائم بشؤونه رجل من أفاضل الرجال غيور على عمرانه، وتوفير أسباب الهناء والبلهنية على نازليه وسكانه؛ وفي الزبداني محكمة يرأسها قاض ماض في أحكامها، ومستوصف طبي للحكومة تام الأدوات يديره طبيب نشيط يداوي الأغنياء من المصطافين والفقراء على السواء. ولا يتقاعس عن تلبية نداء المرضى في مساكنهم، يعودهم ليضعف من الداء الآلام، وليقوي في الشفاء الآمال، ثم هو يعطي الأدوية مجاناً للبائس والمعتر حتى الغني المضطر إن لم يجد علاجه في صيدلية الزبداني العامة.
وفي قرية بلودان صيدلية كبيرة، وفي مضايا أخرى صغيرة، وبذلك يجد المصطاف الصحيح في وادي الزبداني نعيمه المقيم وهناءه؛ والمريض لا يعدم في مغانيه طبيبه الحاذق وشفاءه
ومما تمتاز به الزبداني على سائر قرى الوادي أنها مركز السيارات، وإن فيها محطة القطارات، فهي ملتقى الحاضر والبادي، ومنتدى الرائح والغادي، كما تمتاز برخص أسعار الثمار وكثرتها، وتنوع الخضراوات الغضة ووفرتها، وبسوقها الكبيرة المشتملة على جميع ما يحتاج إليه الاصطياف والانتجاع، وبمنتزهاتها المستوفية لشرائط الإبداع والإمتاع
بعض مناظرها الساحرة: كل ما في وادي الزبداني بهيج جميل: بهيج لعمري مقهى أبي زاد ومنظره الساحر الجميل، ومقهى بقين وعينها التي يحق أن تسمى السلسبيل، وجميل كل الجمال قصر الجرجانية الأندلسي بشلالاته وفواراته، وفخم كل الفخامة فندق بلودان بمقصوراته وحماماته، ورائعة - شهد الله - قرية مضايا بصفاء سمائها. وصحة هوائها، وماذا عسى أن يقول قائل في محاسن الزبداني ومفاتنها؟ فلعل اصدق ما يقال في جنتها قول الشاعر في وصف دمشق وغوطها:
هذه الغوطة ما أبهجها ... وهي في نيسان قيد المتجلي
قال سبحان الذي دبجها ... من رآها فتنة للمُقّل إنه قد شاء أن يخرجها ... جنة في الأرض للمستعجل
إن بطن هذا الوادي المبارك ينقسم إلى قسمين شمالي وجنوبي:
أما الشمالي منه فعامر يبدو بلون أشجاره أخضر نظراً؛ وأما الجنوبي منه فجله غير مغروس ومختلف ألوانه: هذه بقعة منه محصورة تبدو صفراء فاقعة، وهذه بقعة محروثة تبدو حمراء قانية، وتلك رقعة بائرة لم تحرث ولم تزرع فهي نارنجية غير قرمزية؛ وهنالك رقعة مزروعة يضرب لون خضرتها القاتمة إلى السواد فتجتلي عين الناظر من هذه البقعة وهاتيك الرقاع مجموعة من الطنافس المحروثة والزرابي المبثوثة تستهوي الأفئدة وتقيد النواظر
إن من ينكر السحر من أهل هذا العصر يؤمن به مثلي بعد أن يرى ما رأيت من جمال إشراق الشمس على سلسلة الجبال الغربية، ثم يزداد استيلاء الضياء حتى يغمر ما تحت الشناخيب والذرى فتزداد بهجة النفس، فإذا ما بلغت الشمس أشجار الروابي المغروسة راعك مشهد سواد الأشجار مع بياض الأنوار فتخيلت النقاء الليل بالنهار عندما يتنفس الصبح في الأسحار.
وإن أنس لا أنس تلك العشية التي ذهبت فيها إلى مغارة (النابوع) تلك العين التي لا يكاد يرتوي واردها لشدة برد مائها وفرط عذوبته، وكان رفيقي الوفيق في ارتياد هذه العين العجيبة الشيخ حسن بو عياد المغربي من زعماء الإصلاح في المغرب الأقصى، وهو على رأيي في إصلاح المرأة بإصلاح تربيتها وبيئتها، ثم خرجنا من المغارة والشمس في صفرة وجه العاشق الوامق فانتقلنا من لذة إلى لذة: من نشوة الارتواء إلى نشوة الإصغاء. ماذا رأينا من مشهد فخم، وماذا وجدنا من نعيم روح، وماذا سمعنا من حسن لحن؟ مشهد لعمر الحق رائع، ونعيم روح غامر، ولحن مزمار ساحر. شهدنا فوق مغارة النابوع على سفح الجبل قطيعاً من المعزي يثير من ورائه عجاجه منتشرة، ومن أمامه هاديه وراعيه يطرب قطيعه بألحان مزماره الجبلية، كما يطرب الجيش بألحان موسيقاه الحربية، وقد امتزج أنين المزمار برنين الأجراس، وكأنما كان الداعي يهنئ بسلامة الوصول قطيعه الطروب، ويودع بلسان المزمار ملكة النهار الجانحة إلى الغروب، ولا يزال القطيع الزاحف في هبوطه حتى يبلغ قرارة الوادي فينقع ببرد الماد غليل الأحشاء، ثم يتابع سيره الهادئ إلى حظيرته ونحن نتابعه بأبصارنا، ونشيعه وأجراسه وراعيه وأنفاسه، ولا نزال من خلفه مسحورين حتى يتوارى عن العيون بحجاب الليل. . .
وهل أحدث أخي القارئ عن القمر، وكلنا يهوى القمر، وهيهات أن أنسى لياليه القمراء على شاطئ البحر صغيراً، أو لياليه السواحر والفلك يجري بنا في بحر النيل الجميل. لا، ولا أنسى تلك الليالي البهيجة، والقمر يفضض الطبيعة من حولنا ونحن مضطجعون على هضاب المزه الفيحاء. وما لي ولحديث القمر في الدهر الغابر، وأنا أستطيع التحدث عنه في هذا الشهر الحاضر، ذاكراً للقارئ أن أهل دمشق من أعشق خلق الله للقمر، ولو أن الدمشقي كان نباتاً لكان (عَبَّاد القمر) فلقد أخبرني عامل الزبداني عشية أمس بأن عدد المصطافين في الزبداني وحدها قد بلغ في هذا العام نحو ألف نفس يؤلفون مائتي أسرة، ولكن هذا العدد يبلغ في الليالي القمراء أضعافاً مضاعفة فيعج وادي الزبداني بالمصطافين عجيج الحجيج، ولكنهم من حجيج القمر. وتمتلئ الطريق السلطانية بين دمشق والزبداني بالسيارات الممتلئة بعشاق القمر، وتغص بهم مقصورات القطار، في الليل والنهار، وأقمار النساء تشارك الرجال في عشق قمر السماء، وكأنه لا غنى للجنسين اللطيف والعنيف عن المشاركة التي ازدادت في هذا العصر تشابكاً ووشوجاً. فهنالك التربية المشتركة والسباحة المشتركة، والسباقات المشتركة، وهنا في الوادي النزه المشتركة ليالي القمر على طريق الجرجانية وبقين ومضايا.
إن تطور المرأة من الحجاب إلى السفور فالحسور كان سريعاً جداً في مصر، ولكنه بطئ في ديار الشام، ولا تزال الدمشقية مع تعلمها وولعها بالنهضة الاجتماعية تؤثر التدين الصادق على التمدن الكاذب، والكمال والعفاف، على الابتذال والإسفاف وبعبارة أوجز إنها تفضل السفور الشرعي على الحسور البدعيّ، فلا تخلو المرأة المسلمة ولا تسافر إلا بمحرم يحافظ على عرضها وشرفها ويحول دون ما يؤذيها ويرديها
ويزداد السفور الشرعي في دمشق يوماً بعد يوم، ولا يلبث أن يسود على الحجاب أخيراً. ومن الناس من يقاوم هذا التطور الحيوي الذي لا مناص منه بالسفاه والشتائم لا بالحجة والبرهان، بيد أن من عقلاء رجال الدين من يحب للغانيات سفور الراهبات الذي لا حسور معه، ويسعى لإعادة الحاسرات إلى سفور الشرع المحتشم الذي يكفل للمرأة تعلمها وتقدمها، والتربية الإسلامية في المنزل إذا كانت صحيحة تعد البنات للسفور الشرعي الشريف الذي تصان به الكرامة، وتوقى به الحسرة والندامة. وليت رجال الدين يتعاونون تعاوناً معقولاً يتمكنون به من المحافظة على اعتدال المرأة المسلمة، ويبرهنون به على إمكان تعلم المرأة وتقدمها مع ذلك الاعتدال، وإلا فإنا لا نأمن جانب الفوضى في السفور الحاضر كما نشاهد من نماذجه المشوهة الفاسدة في وادي الزبداني من برانيط البنات وقمطات الأمهات، وارتياد السينما والقهوات، وغدا البالات والحانات، ومما أوحى إلى بالأبيات التاليات:
يا صبايا
يا صبايا الزبداني رأفة ... بهواة الحسن منا يا صبايا
قنّعوا عّمن يراكم أوجهاً ... صُقِلت حتى حسبناها مَرايا
واستروا عنا عيوناً خُلِقت ... لقلوب المستهامين بلايا
فَوَّقت ألحاظهن أسهماً ... مُصمياتٍ نحن قد كنا الرمايا
لست أدري ما الذي قد فعلت ... أسهاماً رشقتنا أم منايا
قد سرى يغزو الورى من فِتن ال ... عين - ما أكثر صرعاها - سَرايا
يا سقي الله المناديل التي ... صنتمُ الأعراضَ فيها والملاياَ!
ولحي الله البرانيط التي ... أخذت الأحسابَ منكم والسجايا!
كم عرقنا خجلاً من شربكم ... عَرقاً يعرقكم ديناً ورايا
في محار الصَّون كنتم دُرراً ... كن للأزواج لا غير هَدايا
لم نكن نأمن منكم فِتناً ... في الزوايا، كيف من بعد الزوايا؟
والفؤادُ الحيُ منا هدَفٌ ... لعيون وخدودٍ وثنايا
مسرح الألالم قد هجت لنا ... من رسيس الوجد والحب بقايا
أنا إن لم أكُ أنسى زمنا ... من حياتي فهو هاتيك العشايا
يا رعاكَ الله لولا سربة ... كنَّ ينثرن على الناس الخطايا
رائحات غاديات ضَلَّةً ... بين (بُقَّين) مساءً و (مضايا)
سافراتٍ حاسراتٍ وغداً ... هنَّ أنصاف عرايا فعَرايا!
الزبداني عز الدين التنوخي