الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 274/غزل العقاد

مجلة الرسالة/العدد 274/غزل العقاد

بتاريخ: 03 - 10 - 1938


للأستاذ سيد قطب

- 19 -

الحب دنيا خاصة طليقة

في الاستعراض السريع الذي قمت به في أوائل الحديث عن (غزل العقاد) عرضت رأيه في (الحب) بالعدد 266 من الرسالة؛ وقلت: إنه يراه (رفعة للنفس ونقلة إلى عالم النجوم، وأنه قدرة قادرة تهب أصحابها مشابه من الألوهة ومقابس من النبوة)

فمن كمال هذا الرأي أن أذكر اليوم أن من خصائص غزل العقاد، شعوره بأن الحب يطلقه من قيود الزمان والمكان وضرورات الفناء، ويمنحه دنيا خاصة طليقة من كل قيد معهود.

ولا يكون الشعور بالحب هكذا، حتى يكون صاحبه ذا نفس محقة، وذا طبيعة ناضجة، وذا إحساس مترف. فأما النفس المحقة فهي لازمة له ليتخلص من قيود الزمان والمكان والضرورات عامة؛ وأما الطبيعة الناضجة، فهي ضرورية له ليخلص من اللهفة والوله إلى التأمل والترفع، وأما الإحساس المترف، فليغني به عن المتع الرخيصة إلى الانتقاء والاختيار

وفي هذا المجال أذكر مقطوعتين: الأولى بعنوان (عهد بين عامين) يقول منها:

(سعاد) ويا حسن هذا النداء ... إذا ما وجدتك لي صاغية

نسيت التواريخ إلا التي ... تعود بذكرك لي رواية

فأنت الزمان وأنت المكان ... وأنت غنى النفس يا غانية

ولست أعد حساب السنين ... بالشمس طالعة غافية

ولكن بوجهك لي مقبلاً ... ونظرتك الحلوة الساجية

فيوم الرضا عالم حافل ... من الحب والذكرة الباقية

ويوم النوى عالم مظلم ... تضل الشموس به هاوية

والثانية بعنوان (سنة جديدة) وفيها يقول:

أدركنا موكب السنين ... في موكب الحب سائرين والحب من يغش ركبه ... يساير النجم كل حين

راجع حساب السنين يا ... نجم، فما نحن حاسبين

أبا لألوف احتسبتها؟ ... أم لم تزل تجمع المئين؟

يا سنة أقبلت لنا ... أقبلت ميمونة الجبين

وداعنا فليكن غداً ... كما التقينا. . . أتسمعين

في موكب الحب نلتقي ... وفيه نمضي مودعين

وفي هذه القطعة يتضح المعنى الذي نحن بصدده، فهو يفرض أن الدنيا كلها تسير في موكب السنين العادية، وهما يسيران في موكب وحدهما، وقد تقابل الموكبان صدفة، ثم يدع للنجم أن يعدّ سنيه ويراجع حسابه لنفسه، فما هما بحاجة لهذا الحساب، ولكنه يطلب فقط من هذه السنة التي صادفتهما سائرين في موكب الحب أن تودعهما وهما في هذا الموكب نفسه، وهي كناية طريفة عن الرغبة في دوام الحب واستمراره

وغير هاتين القطعتين كثير متفرق مما يطرق هذا المعنى ويعبر عن هذا الإحساس الذي هو إحدى خصائص غزل العقاد

الحب مطلوب لشوكه كزهره

والحب عند الكثيرين متعة ولذة أو جوى وحرقة، أما هو عند العقاد فقوة من قوى الطبيعة، والشوك فيه كالزهر، والشر كالخير، كلاهما مطلوب لذاته، والألم فيه مقبول لأنه كاللذة عنصر فيه أصيل

ولن ينظر إنسان إلى الحب هذه النظرة حتى يخلص به إلى مرتبة (التجريد) بعد أن يسمو به عن الإحساس القريب المحدود ففي قصيدة (القربان الضائع) يقول:

إله عرش الجمال ما بي ... يقصر عن وصفه خطابي

ما لضحاياي لا أراها ... لديك بالموضع المجاب

ألوم؟ أم لا يلام رب ... يكافئ الحب بالعذاب؟

وكم تجافي إله قوم ... عن سنة العدل في الحساب

يأبى القرابين غاليات ... ويرفع البخس غير آب

فانبذ كثيري فكل حب ... فيه عطاء بلا ثواب وكن كما كان كل رب ... جلَّ عن الصغو والجواب

إني أشبَّ الهيامَ عمري ... في قبلة القلب كالشهاب

فارمقه أو غض عنه لكن ... دعه على الدهر في التهاب

ولا تخل برده سلاماً ... فالنار خير من التراب

حبك أن أخلو منه يوماً ... خلوت في عالم الخراب

فهنا محب لا تقبل ضحاياه، ولكنه يريد هذا الحب مشبوباً، ولا يريده برداً ولا سلاماً إذا كان هذا السلام يطفئ شعلته ويخبئ أواره فيتركه في عالم الخراب

وهو في قطعة عنوانها (في البعد والقرب) يبدأ بالتشكي من اختلاف حال البعد والقرب من حبيبه، فيريد ألا يكون في البعد ناراً. ثم يستدرك فيطلب إليه أن يكون عذاباً كما كان نعيماً لأن الحب لا يكمل إلا حين يكون هذا وذاك:

لن يطيب البعد يوماً لن يطيبا ... هن عليٌّ اليوم إن كنت حبيباً

لا تكن ناراً من الشوق ولا ... دمعة حري ولا قلباً كئيبا

لا تكن صحراء في البعد وقد ... كنت لي في القرب بستاناً رطيبا

إن تغب شمسنا فأوص النوم بي ... قبل أن تعرض عني أو تغيبا

يا حبيبي بل فكن ما كنت لي ... صانك الله بعيداً وقريبا

وأجعل الأنس نصيبي فإذا ... غبت عني فاجعل السهد نصيبا

كن نعيماً وعذاباً، ومنى ... تملا النفس، وحرماناً مذيبا

هكذا الحب دواليك فمن ... لم يكنه لم يكن قط حبيبا

ولن يقول الإنسان هكذا إلا وهو مؤمن بالحب أشد الإيمان متقبل منه كل ما يأتي به كما يتقبل المؤمن الصوفي كل ما يأتي به الإله في خشوع ورضا واطمئنان

ولا يقف هذا الإحساس في العقاد عند هذا الحد، فقد يكون بعض الشعراء جاش في نفسه مثله، فإنما هو في قطعة ثالثة يتلهف على شوك الحب لهفته على زهره، لأن هذا الشوك دليل عنده على قوة الحب ونمائه وفورته، فحبذا هذا الشوك إذن في دلالته، ولا حبذا العشب المريع من عتيد الحب، ولو استنام له الآخرون واستروحوه واستلانوه؛ وذلك في قصيدة فريدة بعنوان (يومنا) وفيها يقول: سنة كانت ربيعا كلها ... بين روض يتغنى ويضوع

زهر ناهيك من زهر فأن ... أنبت شوكاً يكن شوك ربيع

حبذا الشوك من الحب ولا ... حبذا من غير العشب المريع

فإذا وجدنا من المحبين من يقول: سأقبل الشوك من الحب تضحية واحتمالاً، فلن تجد فيهم من يجد في طلبه ويمدحه لأنه شوك ربيع، فهو دليل حياة ونماء في هذا الحب المطلوب المرقوب وهذه - كتلك - إحدى خصائص غزل العقاد

التمتع الفني بالحب في كل حالة

وإذا كانت هذه نظرة العقاد إلى الحب، فكل حالة من حالاته إذن مقبولة ما دامت حية نامية، وهو إنما يرتقي به عن المتاع الحسي إلى المتاع الفني، في رفاهية وترف وطرافة. . . اسمعه يحدثك عن (شوق إلى ظمأٌ) والعنوان نفسه يوحي بما وراءه:

ضِني بيومك إن بدا لك، واتركي ... لي من رضاك غدا علالة طامع

ليس ابتعادك عن هواي بمبعد ... عني هواك، وليس منعك مانعي

إني لألتذ الصدى وأطيله ... شوقاً إلى برد الشراب الناقع

وقد نعرف شاعراً يصبر على البعد، ويستعيض بالذكرى والحنين، عن اللقاء والاجتماع؛ أما أن يطلب الشاعر أن تضن عليه حبيبته بيومها حين يبدو لها، لأنه يلتذ الصدى ويطيله ليلتذ برد الشراب، فهذا هو الطريف، وهو وليد الطلاقة الفنية، والثقة الهانئة!

وكذلك هو في قطعة (سحر السراب):

هذا سرابك جنة تغري ... يا فاتني بالقرب والذكر

صحراء بعدك ما خلت أبدا ... من كوثر في أفقها يجري

لكنه يغري وليس به ... ري، وعندك لجة النهر

وإذا الشراب خلت كواثره ... من مائها لم تخل من سحر

فافتن بذاك وذاك يصف لنا ... أمن المقيم ولهفة السفر

فهو مستمتع بكل حالة، وإذا فاته ري النهر، فلن يفوته سحر السراب، وهذا إنما هو فتنة الشاعر، إذا كان ذلك فتنة الإنسان، والعقاد إنسان وشاعر وكلاهما فيه متفتح يقظ ممتاز و (قبلة بغير تقبيل) ومن يستطيعها حتى يكون من دقة الحس وقوة التشخيص ما كان العقاد، وهو يقول:

بعد شهر: أنلتقي بعد شهر ... بين جيش من النواظر مَجْر!

لم يحولوا - وحقهم - بين روحينا ... وأن ألزموهما طول صبر

تمت القبلة التي تشتهيها ... كلها غير ضم ثغر لثغر

ثم منها شوق، ورفُّ شفاه ... وهوى نية، وخفقة صدر

وهكذا يحلل القبلة الواحدة إلى عناصر وأحاسيس، كل منها وحدة تكون جزءاً، ثم ينظر ما تحقق من (وحدات) القبلة، فإذا هو كل عنصر روحي فيها، فلم يبق إلا مظهرها الحسي وهو (ضم ثغر لثغر) وهذا غير ذي غناء لدى محب فنان!

ومن آثر ما يروى في هذا المجال، أبياته في (عابر سبيل) بعنوان متاع جديد، وهي فن وحدها، ولكنه ذو علاقة بمبحثنا هذا. وإنما هي امرأة في الأربعين في محياها ثنايا وغضون كما يكون في بنت الأربعين، ولكن بث الغرام أحيا قلبها، ففاض بالجمال على وجهها، وسوى غضونه وثناياه، فكانت بذلك خريفاً أحاله الغرام ربيعاً، وكانت بذلك متاعاً طريفاً لما فيه من معنى عودة الماضي، وهو المستحيل في دورة الأيام:

من جديد المتاع خريف ... تحت وهج السماء عاد ربيعا

ومحيَّا في الأربعين وديع ... تحت بث الغرام شب سريعا

نضح القلبُ بالجمال فسوَّي ... من ثنايا الغضون وجهاً بديعا

ذاك أحلى من الشباب شبابا ... ومن النفس ما يعز رجوعا

يعجبني في هذه الأبيات - أولاً - صدق ملاحظة الواقع، فالمرأة في هذه السن أشد ما تكون استجابة لوهج الغرام، وهذا أسرع ما يكون في إفاضة الحيوية عليها، حتى لتصنع المعجزات في سيماها، وكأنما تخلق خلقاً جديداً. و - ثانياً - تعبيره: (نضح القلب بالجمال) فالقلب هنا هو الذي نضح بهذه الحيوية، فتسوي ما شوهته الأيام. و - ثالثاً - استطرافه لهذا الجمال العائد المفلت من قيود الزمان بقدرة الحب الفنان. و - رابعاً - حسن استمتاعه بهذه الحالة، وهو ما سقنا لأجله هنا هذا المثال وهذه الثالثة من خصائص غزل العقاد

نضوج وفهم للأنوثة

ولقد كنت تحدثت عن مظاهر النضوج النفسي والفني في غزل العقاد، وفي (سارة) بوجه خاص. فالآن أكمل هذا الحديث، حينما يطلع الناقد على فهم العقاد الكامل للمرأة، وخبرته بمسارب الأنوثة فيها ومطالبها لديها. وهذه لا تكون إلا حيث يكون نضوج الشخصية، وكمال التجربة، ووفرة الملاحظة

فيبدو لمن يقنعون بظواهر الأشياء أن المرأة حينما تحب تريد أن (تأخذ) من حبيبها، وتنتظر هداياه ومواهبه ومنحه، وإنما هي في الواقع - حينذاك - تتأهب لأن (تعطي) كل شيء، بل هي تتأهب لأن (تؤخذ) أخذ المشتهي المنتهب، فتحس حينذاك أنها ذات قيمة تستحق من أجلها الأخذ والحيازة!

(قال الشاعر الفرنسي (دوجيرل) لحبيبته: (لو كنت إلها لأعطيتك الأرض والهواء، وما على الأرض من بحار، ولأعطيتك الملائكة والشياطين الحانية بين يدي قدرتي وقضائي، ولأعطيتك الهيولي وما في أحشائها من رحم خصيب، بل لأعطيتك الأبد والفضاء والسماوات والعالمين - ابتغاء قبلة - واحدة)

وسئل العقاد: (وماذا تعطيني أنت لو كنت إلها؟) فقال:

أعطيك؟! كيف وما العطاء بخير ما ... تبدي القلوب من الغرام الصادق!

بل لو غدوت كما اشتهيت وأشتهي ... ربَّا وأخذتك أنت أخذ الواثق

فترين أنك حين فزت بحظوتي ... أحلى وأكمل من جميع خلائقي

وتسيطرين على الصروف وفوقها ... نبضات قلبي المستهام الوامق

إن كان رب الكون عندك قلبه ... أهون لديك بأنجم وصواعق!

وبكل شمس في السماء وضيئة ... وبكل بحر في البسيطة دافق!

ويبدو هذا الفهم في كل غزل العقاد، ولكن هذه القطعة أوضح مثال على هذا المذهب فيما بين الرجال والنساء، في الحب الناضج الطبيعي الصحيح

عنيت أن اطرق هذه النواحي في غزل العقاد، وأختار هذه الأمثلة بالذات، لأوسع الأفق أمام من يهمهم مذاهب الإحساس والتعبير، ولا سيما في الغزل الذي هو أرحب مجال للأدب النفسي الإنساني، وما من شك أن هذه آفاق جديدة لم يطرقها الشعر العربي إلا لماما، فهي ثروة تضيفها المدرسة الحديثة، لا للأدب العربي وحده، ولكن للأدب الإنساني كله. وما بقليل أن يكون لنا شاعر مصري يضيف إلى آداب الإنسانية نماذج في الذروة من هذه الآداب

وقد بقيت لي كلمة أخيرة في (غزل العقاد)

فإلى اللقاء

سيد قطب