الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 273/آراء وتحقيقات

مجلة الرسالة/العدد 273/آراء وتحقيقات

بتاريخ: 26 - 09 - 1938


الخير والسعادة

الخلاف عليهما عند أكثر فرق الفلسفة

للأستاذ عباس طه

منذ قرابة عامين عرضنا في بعض المجلات العلمية للبحث عن الفرق بين الخير والسعادة لماما، ثم لمدى الخلاف بين المتقدمين من الفلاسفة وبين المتأخرين منهم في ماهية السعادة وهل هي سعادة بالإضافة إلى غيرها أم هي سعادة مطلقة بغض النظر عما عداها من الاعتبارات، وهل هي من ملابسات النفس الناطقة وحدها، أو أن البدن أيضاً من مقوماتها.

لكن البحث لم يتسق للكشف عن مبلغ آراء فرق الفلاسفة في السعادة والخير يومئذ في تلك المجلة. من أجل ذلك نحب أن نعرض لقراء الرسالة - بقدر - في هذا البحث الراهن للسعادة في رأي فيثاغورث وأفلاطون وبقراط، وهؤلاء من متقدمي الفلاسفة، ثم نعرض بعد ذلك لرأي ارستطاليس، ثم نقارب بين رأي فيثاغورس ومتابعيه، وبين جمهرة من المشائين حتى يتسق البحث على وتيرة واحدة، ويجري على سنن مستساغ.

في الاتجاهات التي اتجه إليها فيثاغورث وأفلاطون وبقراط ومن إليهم تلقاء النفس الناطقة أن الفضائل الأربع التي هي قوام السعادة وعتادها حاصلة كلها في النفس وحدها فليس لها مرد من الخارج ولا قوة تصدر عنها سوى النفس الناطقة؛ ولذلك حينما عرضوا لتقسيم قوى النفس في كتبهم اعتبروا كل هذه القوى منحصرة في الفضائل الأربع وهي: (الحكمة والشجاعة والعفة والعدالة) على ما سيجيء الكلام عنه في بحوثنا المتلاحقة المتعلقة بالنفس الناطقة، ثم رتبوا على ذلك الاتجاه أن تلك الفضائل الأربع وحدها كافية لتكون قواماً للسعادة في فصولها المختلفة، فلا يحتاج معها إلى غيرها من فضائل البدن ومميزاته ضرورة أن ذا النفس الناطقة إذا حصل تلك الفضائل مجتمعة فلا يغض من سعادته أن يكون سقيماً أو فاقداً لبعض أعضائه أو مبتلى ببعض صنوف العلل والأدوار إلا إذا تأثرت تلك النفس بأوصاب البدن وأسقامه فيما يصدر عنها من أفعال كفساد العقل واضطراب التفكير وضعف الروية والخلط بين الآراء، فإن ارتفعت كل هذه الأعراض على إصابة البدن بعلله وأوصابه فليس بضير النفس الناطقة في شيء أن يعرض لها الفقر والخمول وسقوط الحال وخشونة العيش مثلاً وكل ما هو خارج عنها فليس ما كان خارجاً عن النفس الناطقة بقادح في سعادتها. وبدٌ هي أن فيثاغورث ومن لف لفه يذهب إلى أن السعادة لا تعدو النفس الناطقة فلا تتناول الأبدان ومميزاتها، ويرتبون على ذلك الاتجاه أن السعادة والخير في مختلف مناحيهما ليس لهما إلا مصدر واحد وهو قوى النفس الناطقة وبالتالي الفضائل الأربع، وليس للبدن على هذا الاعتبار إلا مظهر آليته، فالنفس مديرة والبدن لها آلة.

أما جمهرة من الرواقيين فتذهب إلى أن السعادة والخير يصدران عن النفس والبدن معاً. فإذا صدر الخير عن النفس دون تقدير لكفة البدن فإنما يصدر ناقصاً بالقياس إلى ما تتعاون النفس والبدن مجتمعين في صونه وإبرازه.

يأتي بعد ذلك أرستطاليس فينحو نحواً آخر وهو أن السعادة والخير متخالفان، ثم إن السعادة بعد ذلك مقولة بالتشكيك فهي معروضة للمقولات العشر

ومعلوم أن المحققين من الفلاسفة يحقرون شأن البخت والاتفاق وكل ما هو منقطع الصلة بترتيب الفكر وأعمال الروية، ولا يؤهلون أصحاب هذه الاتفاقات وحملة تلك المصادفات لاسم السعادة. فالسعادة في أوضاعها أمر قار غير زائل، بل هم فوق ذلك يعتبرون كل ما يصل الإنسان من غير طريق التدبير والروية ومن غير أن يجري على سنن له مقدماته ونتائجه ضرباً من ضروب البخت فهو قابل عندهم للبقاء والزوال والزيادة والنقص والتعديل والتجريح والصحة والفساد والرفعة والخفض وكل الأشياء ونقائضها؛ وتابعهم في ذلك كثير من متأخري الفلاسفة أخذاً بنظرية صادقة عندهم وهي: من قدمه الاتفاق فقد أخره الاستحقاق. وهنا وقع خلاف ذو شأن بين قدماء الفلاسفة ومتأخريهم فيذهب فيثاغورث وأفلاطون وبقراط إلى أن السعادة العظمى لا تتحقق للإنسان إلا بعد أن تخلع البدن وما يلابسه من غاشيات الطبيعة، تطبيقاً لمذهبهم القائل بأن السعادة لا تحصل إلا في قوى النفس الناطقة. من أجل ذلك أطلقوا على الإنسان أنه جوهر النفس الناطقة دون البدن، فحكموا بأن البدن ما دام سياجاً لها وقفصاً لإيوائها، وما دام يخلع عليها غاشيات الطبيعة وأكدارها ولوثاتها وعلائقها فليست تلك النفس بسعيدة السعادة المطلقة الموموقة؛ ومبعث ذلك الرأي عندهم أن النفس الناطقة لا تستوحي الكمال الذاتي والعقل النوراني ما دامت متصلة بتلك الهيولي التي تحجب عنها العلوم والمعارف الكلية، إلا إذا فارقت ظلمة الهيولي ولوثة تلك الكدورة، وحينئذ تفارق الجهالات المتنوعة فتصفو وتخلص من ربقة البدن فتكتب لها الإضاءة ويواجهها النور الإلهي. ويترتب على رأي هؤلاء بادئ ذي بدء أن الإنسان لا يظفر بالفوز الأكبر والسعادة العليا إلا في حياة الجزاء بعد موته.

لكن تأتي بعد ذلك جماعة أخرى من الفلاسفة المتأخرين وأرستطاليس منهم في الطليعة، فتذهب إلى أن من الشناعة والعبث وتجاهل الواقع أن ينعت الإنسان الذي يعمل الأعمال الصالحة ويعتنق الآراء الصحيحة، ويجد في تحصيل الفضائل لنفسه أولاً ثم لأبناء جنسه ثانياً، فينشئ صروحاً من الخير متنوعة، ويقيم أعماله وما يصدر عنه من الآثار على محبة القلوب وكسب ألسنة الناس في سبيل إعلاء معالم الفضيلة والحق والنصفة وتحقيق معنى العدالة في أنبل مثلها - بأنه شقي في حياته الأولى وأنه لا يعتبر سعيداً إلا إذا فارقها وخرج من طبيعتها وملابساتها.

فالسعادة في رأي أرستطاليس ومتابعيه تتحقق في الحياة الأولى تطبيقاً لنظرية اشتهرت بينهم، وهي: أن الإنسان عندهم مركب من بدن ونفس، ولذلك يحدون الإنسان بالناطق المائت أو بالناطق الضاحك أو ما إلى ذلك، وفرعوا على هذه النظرية أن السعادة تحدث للإنسان إذا جد في طلبها وسلك إليها الوسائل المؤدية إليها. غير أن أرستطاليس حين رأى أن السعادة قد أشكل فهمها على الناس واضطربت فيها آراء العلماء والفلاسفة، عقد لها في كتابه المسمى (بفضائل النفس) فصلا طويل الذيل ضافي التفاريع حافلا بالحجج والآراء، فقال في فاتحة هذا الفصل مع تصرف في المبنى واحتفاظ في المعنى: (من البين أن الفقير في هذه الحياة يرى سعادته في الغنى واليسار، وأن المريض يراها في الصحة والسلامة، وأن الذليل يتمثلها في الجاه والعزة والسلطان، وأن الخليع يلمسها في التمكن من الشهوات المختلفة، وأن النبيل الفاضل الكريم ينشدها في تعميم مناحي الخير وإفاضتها على مستحقيها، والحد من طغيان ذلك الخير حتى لا يشمل غير مستحقيه) ويتحققها الفيلسوف المستقصي لحقائق الأشياء والمستتبع لملابسات القواميس الكونية في أنها إذ تكون مرتبة بحسب تقسيط العقل لها على معنى أن يلحظ فيها وقتها الذي يجب أن تقع فيه وكما يجب أن تكون وعند من تجدر فهي سعادات متنوعة، فما كان منها يراد لشيء يناسبه فذلك الشيء أجدر أن يطلق عليه أسم السعادة.

ثم كشف بعد ذلك أرستطاليس عن رأيه في بسط وإبانة، فقال مع تصرف في مبناه والاحتفاظ في معناه: قلما يتاح للإنسان أن يفعل الأفعال الشريفة المرضية دون مادة تقوم عليها كاتساع اليد وكثرة الأعوان وجودة البخت، ويتضح ذلك جلياً في صناعة المُلْك والرياسات المختلفة حيث لا يواتيهم توطيد لأركان هذه الزعامة إلا مقترناً بالشرائط المبنية على أن هناك نوعاً من الأعطية هي عطية الله تعالى جده، فهي السعادة لأنها عطية منه عز اسمه وموهبة في أشرف منازل الخير وأعلى مراتبه، وتلك الموهبة خاصة من خواص الإنسان الكامل فلا يشاركه فيها من ليست إنسانيته تامة كالصبيان وما يجري مجراه

وتلك النظرية تقوم على نظرية أخرى عند أرستطاليس فهو يرى أن السعادة تعتبر كذلك بالإضافة إلى صاحبها فهي كمال له، فالسعادة على هذا الوضع خير ما، وقد تكون سعادة الإنسان غير سعادة الفرس وما إليه، فسعادة كل شيء في تمامه وكماله الذي يلائمه، وهنا يفرق بين الخير والسعادة فيرى أن الخير من حيث أنه مقصود للناس جميعاً بالشوق إليه والعمل على تحصيله طبيعة تقصد، وله مفهوم عام يدل عليه وهو الخير المطلق للناس من حيث أنهم كذلك. فالناس أجمعون محاصون فيه. لكن السعادة شيء آخر غير الخير عنده، فهي خير ما لواحد من الناس، وهي بالإضافة ليست لها ذات معينة، وهي تختلف بالإضافة إلى قاصديها اختلافاً يرجع إلى مؤهلاتهم وما ركب فيهم من فطر ومعدات، ومن أجل ذلك يكون الخير المطلق غير مختلف فيه. وقد يظن بالسعادة أن تقع لغير الناطقين، لكن ليس على نحو من أنحاء الناطقين فإنها إذا وقعت فإنما هي استعدادات فيها بقبول كمالاتها الملائمة لها من غير روية ولا تدبير، وهي بمنزلة الشوق أو ما يجري مجراه من الناطقين بالإرادة

فما يقع للحيوانات في مآكلها واستجمامها لا يمكن أن يسمى سعادة بل الوضع الصحيح له أن يسمى بختاً أو اتفاقاً، وجلى أن العقل بفطرته قد جعل للسعي والحركة والإرادة المكتسبة للإنسان حداً تنتهي إليه، فذلك كان من المعقول أن يوجد خير مطلق لا تأباه طبيعة هذا الوجود ولا يوجد بين الناس خلاف عليه، فالهمم والصناعات والتدابير الاختيارية المجدية مثلاً، كلها يقصد بها خير ما لوجه الإنسانية على الأقل ولا يرتاب أحد في أنها كذلك وأنها تثمر ثمرتها المرجوة لها، فكل تصرف لا يقصد به خير ما كان عبثاً والعقل يحظره ويأباه

فيكون الخير المطلق مقصوداً إليه من الناس أجمعين، لكن بقي بعد ذلك أن يعلم ما هو ذلك الخير المطلق، وما الغاية القصوى منه التي هي غاية أنواعه وأعلى مراتبه؟ وذلك ما سنعالج تبيانه بعد. غير أن أرستطاليس قسم الخير تقسيماً مفصلاً ونوعه تنويعاً يكشف عنه كثيراً من الإبهام الذي وقعت فيه جمهرة من متقدمي الفلاسفة فهي ترى أن الخير أنواع وفصول، فمنه ما هو شريف ومنه ما هو ممدوح ومنه ما هو بالقوة، فالشريف منها ما كان شرفه مشتقاً من ذاته بحيث بقلع الشرف على من قام به وهو الحكمة والعقل، والممدوح منها كالفضائل والأفعال الجميلة الإرادية. أما ما كان بالقوة فكالتهيؤ والاستعداد لقبول الأشياء التي تكون نوعاً من هذه الأنواع، ومن الخير ما هو غاية، ومنه ما ليس كذلك، ومن الغاية ما هو تام، ومنها ما ليس كذلك؛ فما هو تام كالسعادة، لأن من بلغ إليها كان في غناء عن أن يكون له وراءها مطمع في مزيد، وما هو غير تام كالصحة واليسار، فإن من واتته الصحة وواتاه اليسار لم يكن له عن طلب المزيد غناء، بل ربما كانت الصحة أو اليسار من أقوى الحوافز له على طلب المزيد. أما الذي ليس بغاية منه فكالعلاج والتعلم والرياضة والعمارة والزراعة وما إلى ذلك. وجملة القول في الخير على ما حققه أرستطاليس وحكاه عن فرفوريوس أن من أنواع الخير ما هو خير على الإطلاق وما هو خير عند الضرورة. ومنها ما هو خير ولكن ليس من طريق له مقدماته ووسائله كالاتفاقات التي تتفق لبعض المجدودين من الناس، وأيضاً منها ما هو خير لجميع الناس ومن جميع الوجوه وفي جميع الأوقات. ومنها ما ليس بخير لجميع الناس ولا من جميع الوجوه (وبالتالي) منها ما هو في الجوهر ومنها ما هو في الحكم، ومنها ما هو في الكيف، ومنها ما هو في ألاين، ومنها ما هو في الضاف، ومنها ما هو في الخير. وعلى الجملة فالخير يعرض للمقولات العشر التي يعبر عنها الفلاسفة الأقدمون بأنها الأجناس العالية التي ليس فوقها جنس بل هي أعلى الأجناس جميعاً فهي تحمل عليه حملاً اصطلاحياً إخبارياً. وقد أفاض أرستطاليس إفاضة مبسوطة في تبيان هذه الأجناس العالية، وعروض الخير لها دلالة منه على أن مناحي الخير غير محدودة، وأن نعمة الله التي أسبغها على عباده أوسع من أن تضيق بها تلك الرقعة السوداء بل إن آثار الله وآلاءه مبثوثة في كل جزء من أجزاء الكائنات، حتى يبقى البرهان القاطع قائماً على شيوع الآيات الباهرة في سائر مناحي تلك المجموعة الشمسية

وفي كل شيء له آيه ... تدل على أنه الواحد

وقد سلك أرستطاليس في ذلك مسلكاً يخالف مسلك المتقدمين من الفلاسفة كأفلاطون وبقراط ومن إليهما - فالمفهوم من تفاصيل مذهبه في النفس الناطقة وفي الخير والسعادة التي تنفعل بها قوى النفس جلي، بل إن الخير شيء غير السعادة وإنه شائع بأجزائه في كل مناحي الوجود حتى سرى الخير إلى سائر المقولات سريانه إليها دليلاً على ذيوعه وانتفاع الناس به. فالخير في الجوهر وهو ما ليس بعرض يمثل له أرستطاليس بالحق تعالى جده، فهو الخير الأول على حد تعبيره، فإن جميع الأشياء تتحرق بالشوق إليه ولأنه يفيض السرمدية والبقاء على الخير الذي كتب له الخلود وعلى الآلاء اللانهائية، وعلى كل ما لا يطرأ عليه الفناء من أجزاء العالم الثاني الذي يعبر عنه المتقدمون من المتكلمين بعالم الجزاء. وفي الكم يمثل له بالعدد والمقدار المعتدلين، ويمثل للكيف باللذائذ وألوان المتاع، ويمثل لمقولة الإضافة بالصدقات والرياسات التي تنبعث عنها صلاحية تنطوي على خير الإنسانية في أكمل حدودها، ويمثل لمقولة الأين بالمكان المعتدل في أبعاده وأجوائه ومحيطاته وبالزمان الأنيق البهيج المتفتح الأكمام عن المرح والسرور. ويمثل لمقولة الوضع بالقعود والاضطجاع وسائر المشاهدات المؤثرة، ويمثل للعقل برواج الأمر ونفاذ الكلمة وسعة السلطان. وعلى الجملة فأنواع الخير عنده منها ما هو من قبيل المحسات ومنها ما هو من قبيل المعقولات. ولعل الأستاذ أحمد أمين، وقد أذاع على متن الأثير محاضرتين في السعادة والشقاء، يعود فيصحح بعض نظرياته التي طالع بها سامعيه. ولعل الأستاذ الشيخ أمين الخولي، وقد أذاع هو الآخر على متن الهواء محاضرتين أو ثلاثاً لا أدري في الحياة المثالية والحياة البدائية وما يتصل بهما من قوى النفس الناطقة، يعود هو الآخر فيصحح بعض نظرياته ليرضي الحق وهيبة العلم في صميمه من جهة، ثم ليرضي في الأقل سامعيه من جهة أخرى، وموعدنا بالكشف عن ذلك كله سوانح مقبلة.

عباس طه