الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 272/غزل العقاد

مجلة الرسالة/العدد 272/غزل العقاد

بتاريخ: 19 - 09 - 1938


للأستاذ سيد قطب

(بقية المقال الثامن عشر)

والآن نستعرض حالة دامية وجيعة، عميقة الألم والفجيعة، يزيدها جرحا وإيلاماً ما يبدو به قائلها من تماسك وتجلد وتجمل.

إنه (يوم الظنون): يوم يقف الإنسان تتجاذبه الدوافع والانفعالات، ويتقاذفه الإقدام والإحجام، وتتراءى له المسارب والطرقات، وهو لا يدري أيها أولى بالاتباع، بل هو لا يملك أن يدري، لأنه مسلوب اللب والإرادة

فإذا وضعت إلى جانب هذه الصورة شخصية العقاد الجبارة، أمكن أن تدرك مدى الألم العاصف، ومبلغ الفاجعة القاصمة:

يومَ الظنون صدعتُ فيك تجلدي ... وحملت فيك الضيم مغلول اليد

وبكيت كالطفل الذليل أنا الذي ... ما لان في صعب الحوادث مِقودي

وغصصت بالماء الذي أعددته ... للري في قفر الحياة المجهد

لاقيت أهوال الشدائد كلها ... حتى طغت فلقيت ما لم أعهد

نارَ الجحيم إليَّ غير ذميمة ... وخذي إليك مصارعي في مرقدي

حيران أنظر في السماء وفي الثرى ... وأذوق طعم الموت غير مُصرَّد

أروَى وأظمأ: عذبُ ما أنا شارب ... في حالتيَّ نقيع سُم الأسود

وأجيل في الليل البهيم خواطري ... لا شارق فيه ولا من مسعد

وتعيدُ لي الذكرات سالف صبوتي ... شوهاء كاشرة كما لم أشهد

مسخت شمائلها وبُدِّل سمتها ... وبدت بوسم في السعير مخلد

يا صبوة الأمس التي سعدت بها ... روحي، وليت شقيها لم يسعد

وعرفت منها وجه أصبحَ ناضرٍ ... ورشفت منها ثغر العس أغيد

سومحتِ بل جوزيتِ كيف وعيت لي ... بالأمس فيك ضراوة الذئب الصدى؟

سومحت بل جوزيت كيف طويت لي ... زرق الأسنة في الإهاب الأملد

أمسيت حربي في الظلام وطالما ... جلّيت لي وجه الظلام المرب ورجعت أهرب من لقاك وطالما ... ألفيت عندك في الشدائد مقصدي

ما كان من شيء يزيد تنعمي ... إلا يزيد اليوم فيك تلددي

أواه من أمسي ومن يومي معاً ... والويل من طول التردد في غدي

أهب الخلود كرامة لمبشري ... أن ليس يومي في العذاب بسرمد

وأبيع حظي في الحياة بساعة ... أنسى بها عمري كأن لم أولد

وأسوم مرعى العيش غير مزود ... وأرود روض الحسن غير مقيد

يا للهول! لكلما قرأت هذه القطعة سرت رعدة في مفاصلي، وقشعريرة في كياني، وأحسست أمامي بإنسان يعتصر نفسه قطرة قطرة في ألم مبرح كظيم. وهو مع هذا يقظ متنبه لكل وخزة لا ينسى أن صبوة الأمس كانت تخفي في طياتها ضراوة الذئب الصدى، وأنها كانت تفعمه متعة، لتفعمه بعد ذلك ألماً منشؤه هذه المتعة ذاتها لا سواها

وفي يقيني أن هذا أفجع موقف مر بالشاعر، وقد لقي أياماً كثيرة من أيام الظنون، ولكنها ليست من هذا النوع المسموم؛ وما كان ليستطيع بعده أن يفارقه، وما كان قلبه ليصلح أن يوغل في الحب هذا الإيغال، وأن يأخذه بهذا الجد الصارم الذي يجعل الشك فيه دامياً تنضح منه النفس قطرات

وقد عاد إلى الحديث عن هذه (الظنون) في قطعة (الحب المريب) من الوزن والقافية والشعور! فكشف عن حالة نفسية فريدة، صور فيها كيف يحيل الشك متعة اللقاء إلى جحيم لا يعد له جحيم الفقدان، وكيف يقيم الحواجز والأبعاد بين أقرب قريبين في الوجود:

إني لفي ألمي بقربك كالذي ... يحنو على ولد مريب المولد

أبدا يغص بقربه ويبعده ... ما بين عطف أب وجفوة مبعد

وأراك طوع يدي وألبث حائرا ... بين المحاذر منك والمتودد

أرضى وأغضب، لا الرضا ببالغ ... أمن اليقين ولا الغضاب بمهتد

وأظل أسخر من رضاي وغبطتي ... وأظل أسخر من عذابي الأنكد

وأشد من برح اللقاء بلية ... تأبى الشقاء عليك غير مفند

يا هذه الدنيا أيندم باذل ... يعطي القنوط ندامة المتردد؟

جودي علي بشقوة لم ترجعي ... فيها على ندم إذا لم تسعدي! ونستعير هنا من حديث العقاد عن (همام) في (سارة) ما نستعين به على شرح هذه الحالة التي صورها في نفس صاحبه أبدع تصوير:

(كانت شكوكا مريرة لا تغسل مرارتها كل أنهار الأرض، وكل حلاوات الحياة. كانت كأنها جدران سجن مظلم ينطبق رويدا رويدا؛ ولا يزال ينطبق وينطبق، حتى لا منفس ولا مهرب ولا قرار؛ وكثيراً ما ينتزع ذلك السجن المظلم طبيعة الهرة اللئيمة، في مداعبة الفريسة قبل التهامها؛ فينفرج وينفرج وينفرج، حتى يتسع اتساع الفضاء بين الأرض والسماء، ثم ينطبق دفعة واحدة، حتى لا يمتد فيه طول ولا عرض، ولا مكان للتحول والانحراف: بطل المكان فلا مكان ولا أمل في المكان، ووجب البقاء حيث أنت في ذلك الضيق والظلام، فلا انتقال ولا رجاء في الانتقال.

(وكان صاحبنا كالمشدود بين حبلين يجذبه كلاهما جذباً عنيفاً بمقدار واحد وقوة واحدة، فلا إلى اليمين ولا إلى اليسار، ولا إلى البراءة ولا إلى الاتهام. . . بل يتساوى جانب البراءة وجانب الاتهام، فلا تنهض الحجة هنا حتى تنهض الحجة هناك، ولا تبطل التهمة في هذا الجانب حتى تبطل التبرئة من ذلك الجانب؛ وهكذا إلى غير نهاية، والى غير راحة ولا استقرار)

حتى إذا انتهى من الظن إلى (اليقين) كان يقيناً قاتلاً دامياً كالظنون!. وهي كذلك حالة فريدة من الحالات النفسية التي تجيش بها نفس العقاد الخاصة:

مضى الشك مذموماً وما كان ماضيا ... فليتك تمسي عن يقينك راضيا

وجل عن التصديق أنك هاجر ... وأنك مهجور وأن لا تلاقيا

فلله ماذا حل بالقلب فارغوي ... وآمنت بالحق الذي كنت آبيا

وأمسيت تدري أن للود غاية ... وأن زماناً سوف يلقاك خاليا

وعشت ترى حبا كحبك ينقض ... وما خلته إلا يد الدهر باقيا

مضى غير مردود كأنك لم تكن ... بعينيك ترعاه وبالنفس فاديا

ألا لا تذكرني بصدق وددته ... على جنبات الغيب ما زال خافيا

ألا لا تذكرني يقيناً شريته ... بأنفس ما يغلو به الشك شاربا

لكذبتُ صدق الهجر لو أن موطناً ... من الشك يوماً لم أثب منه خاويا سل الصبح كم ماريتهُ كلما بدا ... ولم يبد فيه ذلك الوجه حاليا

سل الليل كم جافيتهُ كلما سجا ... ولم أرتقب فيه الحبيب الموافيا

سل النيل كم أنكرته كلما جرى ... ولم ألق فيه ذلك الحسن جاريا

سل الدار كم ناشدتها القرب راجيا ... وأرهفت في أنحائها السمع صاغيا

ويخدعني ما اعتدت من طول قربه ... فأحسبه عندي وقد بات نائيا

يريب فمي صمتي لياليَ لا يرى ... على خده منه نجيا مناغيا

وتنكرني كفي ليالي لا ترى ... على خصره منها نطاقا مدانيا

وتطلبه مني جفون تعودت ... على البعد أن تلقاه في الحي آتيا

ويسألنيه كل يوم وليلة ... فؤاد يراه حيثما كان رائيا

وأين؟ ولو أني قدرتُ لما غدا ... به القلب ملتاعاً ولا الجفن شاكيا

وكيف بالنسيان الأليف الذي به ... تذكره الدنيا إذا راح ناسيا

تفقده في كل شيء فما انثنى ... فآمن بعد اليأس بالبين عانيا

سل الروض مطلولا. سل القفر صاديا ... سل النجم لماعا. سل البدر ساريا

فإنك تدري كيف صدقت باسما ... إذا بت تدري كيف كذبت باكيا

وإنك لا تخشى ردى الموت بعض ما ... خشيت ردى الحق الذي لاح هاديا

وهكذا سار إلى اليقين، بعد ما طرق كل باب من أبواب الشك، فعاد منه خاويا، ولم يصر إليه مع هذا في سهولة ويسر، ولكنه أنكر الدنيا ومعالمها، وأنكرته نفسه وجوارحه. ولولا إرادة من حديد، ما ثاب إلى هذا اليقين الأليم.

علام تدل هذه الصورة النفسية الفريدة؟

إنها دليل الثروة في الأحاسيس، والانفساح في الشعور، ومظهر الحياة النفسية المهيأة للتأثر، القابلة للصوغ والإنشاء.

وهذا وذلك من ميزات المدرسة الحديثة، التي تخلص للحياة والإحساس بها، لا للأوراق وما حفظته منها

وفي ماضي الأدب العربي كله وحاضرة كذلك، لا تجد نظيرا لهذه الصور النفسية، مع شيوع الأحاسيس التي تستدعيها في كل حب قديم أو حديث إنما هي النفس المهيأة، والطبيعة الخصبة، لا الحادثة التي تخلق القول أو الإحساس

(حلوان)

سيد قطب