الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 272/تاريخ الحياة العلمية

مجلة الرسالة/العدد 272/تاريخ الحياة العلمية

بتاريخ: 19 - 09 - 1938


في جامع النجف الأشرف

للأستاذ ضياء الدين الدخيلي

(تابع)

وتدل الآثار أنه كان في عهد عضد الدولة حول القبر الشريف العلوي مدرسة إسلامية فيها الفقهاء والقراء يتعاهدها بخيراته ذلك الملك العمراني المحب للعلم وأهله

ففي فرحة الغري عن يحيى بن عليان الخازن بالقبر الكريم أنه وجد بخط ابن البرسي المجاور بمشهد الغري على ظهر كتاب بخطه: قال توجه عضد الدولة عام 371هـ إلى المشهد الشريف الغروي وزار الحرم المقدس فكان مما فرقه ألف درهم على الناحية (الذين ينوحون على الحسين) وثلاثة آلاف درهم على الفقراء والفقهاء. وروى ابن مسكويه في تجارب الأمم (ص407ج6) وابن الأثير (ص234ج8) أنه في عام 369 أطلق عضد الدولة الصلات لأهل الشرف والمقيمين بالغري وغيرهم من ذوي الفاقة وأدرت لهم الأقوات

وفي أثناء عهد عمارة عضد الدولة حصل حادث مهم في تاريخ جامع النجف الأشرف كان له الأثر الفعال في تمركز التدريس فيه، فقد هاجر إلى الغرب العلامة شيخ الطائفة محمد أبو جعفر الطوسي فأقام نهضة علمية كبرى ونظم الحركة الفكرية وقواها ورفع منار الثقافة الإسلامية فأم النجف الأشرف من سائر أقطار الشيعة جمع غفير ليرتشفوا أفاويق العلم، وقد صارت في ذلك اليوم مركزاً مهما من مراكز العلوم الإسلامية الكبرى وأنشئت فيها المدارس الكثيرة والمكتبات من قلب سلاطين الشيعة ووزرائهم وأهل الثروة والعلماء أنفسهم

قدم الطوسي عام 408 فدرس على الشيخ المفيد ببغداد مدة حياته وبعد موته على السيد المرتضى صاحب الأمالي، وكان السيد يجري عليه شهرياً اثني عشر ديناراً كما يجري على تلامذته كل سنة. ولقد عظمت منزلته أخيراً وأصبحت له مكانة علمية أقبلت عليه طلاب العلم. حدث في (روضات الجنات) ورجال المامقاني أن فضلاء تلاميذه الذين كانو من المجتهدين يزيدون على ثلاثمائة فاضل من الشيعة، أما من أهل السنة فما لا يحصى، وأن الخلفاء العباسيين في بغداد أعطوه كرسي الكلام، وكان ذلك لمن كان وحيداً في ذلك العصر. وكانوا مبالغين في تعظيم العلماء لا فرق لديهم بين المذاهب الإسلامية، ولكن الوشايات أخذت تدب حول هذا العلم حتى اضطرته أخيراً أن يغادر الزوراء ويشد الرحال إلى جوار ابن عم الرسول وهناك يقيم دعائم مدرسته. حكى القاضي في مجالسه عن ابن كثير الشامي أن الطوسي كان فقيه الشيعة مشتغلا بالإفادة في بغداد إلى أن وقعت الفتنة بين الشيعة والسنة (وهذه الفتن الداخلية هي التي خضدت شوكة الإسلام حتى انهار مجده) سنة 448هـ. واحترقت كتبه وداره في باب الكرخ فانتقل من بغداد إلى النجف وبقي هناك إلى أن توفي سنة 460هـ. وأضاف في الروضات احتراق كرسيه الذي كان يجلس عليه للكلام. وحكى جماعة أنه وشى بالشيخ إلى الخليفة العباسي فاستدعاه؛ غير أن الطوسي استطاع أن يزيل ما علق بخاطره فرفع شأنه وانتقم من الساعي وأهانه. وقال ابن الأثير (ج 9 ص 222) وفي سنة 449 نهبت دار أبي جعفر الطوسي بالكرخ وهو فقيه الأمامية وأخذ ما فيها وكان قد فارقها إلى المشهد الغروي. هاجر الشيخ الطوسي إلى النجف الأشرف وسكنها وبقي يدرس اثنتي عشرة سنة، وألف كتباً قيمة في التشريع الإسلامي لم تزل مراجع؛ للعلماء فمنها (تهذيب الأحكام) و (كتاب الاستبصار فيما اختلف من الأخبار) و (المبسوط) و (الفهرست) و (ما يعلل ومالا يعلل) و (المجالس) الخ. ثم بقي تلامذته بعد وفاته عند مرقد الإمام واستمر التدريس والمهاجرة إلى المعهد العلمي النجفي حتى ظهر في الحلة المحقق الأول صاحب شرائع الإسلام (المتوفى عام 676) فاتجه رواد العلم إليه وقامت حركة فكرية قوية فيها فيما بعد، من أقطابها تلميذه العلامة الحلي صاحب المؤلفات القيمة الكثيرة في الفقه وأصوله والكلام وغير ذلك وفي أثناء ازدهار الحركة العلمية في الحلة لم تضمحل في جارتها النجف، فهذا الشيخ الرضي كما قال السيوطي في بغية الوعاة (ص 24) هو الأمام المشهور صاحب شرح الكافية لابن الحاجب الذي لم يؤلف عليها بل ولا في غالب كتب النحو مثله جمعاً وتحقيقاً وحسن تعليل. وقد أكب الناس عليه وتداولوه واعتمده شيوخ هذا العصر فمن قبلهم في مصنفاتهم ودروسهم، وله فيه أبحاث كثيرة مع النحاة واختبارات جمة ومذاهب، ينفرد بها وله أيضاً شرح الشافية في الصرف. قال في (الروضات) توطن الشيخ الرضي بأرض النجف الأشرف وصنف شرحه المشهور على الكافية في تلك البقعة المباركة، وذكر في خطبته أن كل ما وجد فيه من شيء لطيف وتحقيق شريف فهو من بركات تلك الحضرة المقدسة، توفى عام 686 انتهى. وقد نقل لي بعض الفضلاء أن الرضي ألف شرحه في مكتبة الأمام (ع) التي في الصحن الشريف وأنها كانت مكتبة عظيمة وحتى الآن لا تزال بقاياها تحوي نفائس الكتب، من جملتها قرآن بالخط الكوفي كتب عليه أنه بخط أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، ومن ضمنها كتب علمية وأدبية نادرة قديمة الخطوط جداً، ويوجد فيها شرح الدريدية لأبن خالويه بخطه؛ ولكن لا ينتفع اليوم بنفائس هذا الكنز لأنه مقبور بالإهمال؛ وكان على مديرية الأوقاف العراقية أن تعهد بهذه المكتبة إلى رجل ضليع لينظمها ويعرضها لاستفادة رواد العلم وإلا فإن تبعثرها وضياعها واضمحلالها أقرب النتائج المترقبة وقد احترقت هذه المكتبة عام 755هـ وجددها جماعة من العلماء منهم ابن الآوي الذي كان صدراً للحكومة الأيلخانية وفخر المحققين ابن العلامة الحلي (كما أخبرني الأستاذ السمّاوي)

جدد تسعير بناية القبر عام 760هـ بعد احتراق عمارة عضد الدولة بعمارة رابعة ذكرها مؤلفون القرن الثامن الهجري مجهولا صاحبها يظن أنه من رجال الحكومة الأيلخانية، وقد أصلحها الشاه عباس الأول من أعظم ملوك إيران المتأخرين، وفي عهد هذه العمارة قويت الهجرة إلى جامع النجف الأشرف في عهد المقدس الأردبيلي (المتوفى عام 996هـ) وكان عالماً فاضلا مدققاً جليل القدر له عدة مؤلفات منها آيات الأحكام قد فسرها فيه وأرجح إليها قضايا الفقه، وله شرح الهبات التجريد وتعليقات على شرح المختصر للعضدي وشرح لإرشاد الأذهان في الفقه. وقد تولى الدرس في مدرسة الصحن الشريف، وكانت له حجرة فيه، هاجر إليه طلبة العلم وتخرج على يده جماعة من النوابغ منهم العلامة السيد محمد العاملي صاحب المدارك في الفقه وشرح القصائد العلويات السبع لأبن أبي الحديد في مدح الأمير (ع) وشرح الشواهد المدرجة في شرح بدر الدين لألفية أبيه ابن مالك وهو كتاب جليل مفعم بالفوائد غزير المادة الأدبية، وممن درس على الأردبيلي صاحب المعالم أحد الكتب المقرر تدريسها في جامع النجف الأشرف. ولنعد إلى بناية القبر الفخمة فإنها تضعضعت وحصلت صدوع في القبة المنورة بمرور العصور وتعاقب الأعوام، وأراد الشاه صفي حفيد الشاه عباس الأول توسعة ساحة الصحن الضيقة فأمر بهدم بعض جوانبه وشيدت هذه العمارة الضخمة الباقية إلى اليوم وفي هذه العمارة كانت القبة الكريمة والإيوان والمئذنتان مبنية بالحجر القاشاني إلى عهد ملك إيران نادر شاه

أما هذا فقد نذر إذا فتح الهند أن يذهب قبر الأمام (ع). وكذلك لقد أمر عام 1155هـ بقلع الحجر القاشاني عن القبة المقدسة والمئذنتين والإيوان وتذهيبها، وبذل أموالا عظيمة فقام بالتذهيب أكثر من مائتي صائغ ونحاس قد جمعهم من سائر أقطار الأرض وفيهم الصبي والهندي والتركي والفارسي والعربي وقد طليت كل آجرة بمثقالين من الذهب الخالص على ما ذكر بعض الصاغة الذين تولوا إصلاح القبة أخيراً

وقد وضع في خزانة القبر الشريف تحفا جسيمة مما استلبه من ذخائر ملوك الهند، هذا فضلا عما أهدى إليها غيره من الملوك والأمراء المسلمين، ففيها من المجوهرات والنفائس مالا يثمن، وإن الأحجار الكريمة لا تعد ولا تحصى. أما القناديل الذهبية المرصعة والسجاد الفاخر الموشى بالذهب والستائر المنتظمة فيها الجواهر، الأمور التي تعز على - الملوك فهي أعلاق ونفائس تبهر العقول ولا يصدق اجتماعها في أعظم الكنوز

وإن بداعة الفن في البناية تبهر الأنظار وتخلب الأفكار بزخرفها وطلائها. وقد قال رحالة مصري: (وقبة القبر ومئذنتاه تكسى بالذهب الخالص في بريق خاطف. جزت الباب إلى الفناء السماوي المربع تطل عليه الحجرات المتجاورة ثم دخلت باب الضريح، وأنى لقلمي الكليل أن يصف إبداعه من نقوش وتطعيم بالذهب والفضة وزخرف بالبلور والزجاج والقيشاني ما فاق فيه جميع المساجد الأخرى) وإن هذه الحجرات كانت مساكن لطلبة العلم قبل أن تشاد المدارس العديدة

وعسانا نعود لدراسة النواحي الأخرى المهمة من جامع النجف الأشرف وحياته العلمية والأدبية

(العراق - النجف الأشرف)

ضياء الدين الدخيلي