مجلة الرسالة/العدد 271/في الطريق إلى مؤتمر المستشرقين
→ إنهاض اللغة العربية | مجلة الرسالة - العدد 271 في الطريق إلى مؤتمر المستشرقين [[مؤلف:|]] |
في (الحب) ← |
بتاريخ: 12 - 09 - 1938 |
من القاهرة إلى بروكسل
للدكتور عبد الوهاب عزام
بنيتي العزيزة بثينة
أحدثك عن رحلتي راجيا ألا تكلفيني ترتيب الحديث على ترتيب المشاهد. فإنما هي فرص تنتهز. فسأبدأ بالحديث عن سويسرة قبل الحديث عما رأيت في الطريق إليها.
اكتب إليك من قرية في قمم جبال سويسرة الشامخة اسمها برجنشتوك وقد أضحى النهار، والدجن مطبق، والجو بارد، أحس منه مثل ما أحس في شتاء مصر إذا قرس. وأنا أضع قلمي بين الحين والحين لأعرك كفي إحداهما بالأخرى حتى احسن إمساك القلم. فشتان ما بيني وبينكم؛ شتان ما بين حلوان وبرجنشتوك!
لا تقع العين هنا إلا على خضرة أو زرقة، أو بياض: خضرة العشب الأثيث، والشجر الكثيف، وزرقة السماء إذا تصحو، وزرقة البحيرات ترى من قمم الجبال بعيدة بعد السماء، وبياض السحب.
تسالين: ما الذي أحللك هذه القرية الباردة في تلك القمم العالية؟
نزلت أنا وزميلي الأستاذ احمد أمين مدينة لوسرن من سويسرة، وأردنا أن نركب في البحيرة: بحيرة لوسرن إلى مكان قريب. فقيل: كرسيتن. فقصدناها على باخرة صغيرة بين مناظر معجبة بل مدهشة من جبال تخالط قممها السحب، ويزين سفوحها حلل من الأشجار ضافية في الماء وتطل في مرآة البحيرة منازل متفرقة أو قرى صغيرة كأنها أعشاش الطير بين أفنان الدوح
بلغنا كرسيتن بعد أربعين دقيقة، فنزلنا لنجول فيها قليلا فإذا شاطئ ضيق بين الماء والجبل، فيه فندق ومطعم ودور قليلة، وإذا الناس يجتمعون عند السفح، وإذا مركب عجيب مدت أمامه قضبان من الحديد، ولكن إلى أين؟ إلى ذروة الجبل الرفيعة التي يكاد الطرف يعيا دونها. مدت القضبان على السفح، واعد هذا المركب على شكل لا يميل راكبه مع انحدار الطريق بل يجلس مستويا كأنه في قطار عادي. ويجذب هذه (المرقاة) حبل من حديد مفتول فتصعد خمس دقائق في طريق ضيق عن يساره الجبل، وعن يمينه مهو هائل إلى الحضيض. انتهى بنا هذا المرتقى المخيف إلى مكان به فنادق عظيمة وطريق ضيقة معبدة، فسرنا نتأمل جمال الخليقة وجلالها حتى راقنا مكان قصيَّ على سفح اخضر؛ فصعدنا إليه، وأخذنا حظنا من الراحة والتأمل والتعجب. وكان معنا طعامنا فطعمنا
وسرنا إلى مرقب يطل على البحيرة يعلو على البحر ثلاثة آلاف وأربعمائة قدم، فجلسنا قليلا ولحق بنا جماعة من السائحين الأمريكانيين معهم امرأة تدلهم الطريق والتاريخ. وقفت وحفوا حولها فقالت: (هنا منظر من أروع مناظر العالم؛ هنا سبع بحيرات؛ إلى اليسار بحيرة سمباخ. ولها صيت في تاريخ سويسرة: هنا كانت حرب بين النمساويين والسويسريين الذائدين عن بلادهم، وكان الأولون مثلى الآخرين عدداً. فلما أعيت السويسريين بين الحيل تقدم واحد منهم إلى معسكر العدو فجمع من رماحهم ما استطاع وهم بالرجوع لولا أن أدركه العدو فقتله. وتحمس قومه وحاربوا حتى ظفروا. هذا البطل اسمه (وينكل ريد). ومضت في حديثها عن البحيرات. وقد رأيت اسم هذا البطل على إحدى البواخر الماخرات في البحيرة
وقرانا في لوحة هناك إن على مسيرة عشرين دقيقة مصعدا هو أعلى المصاعد وأسرعها في أوربا. يصعد خمسمائة وستا وخمسين قدما. فسرنا في طريق بين الأشجار الباسقة تلوح من خلالها زرقة السماء وزرقة البحيرة، وقد تتابعت الأشجار على السفح هابطة، وإن الواحدة منها ليرى جذعها مستقلا بعيدا على السفح، وتشرف ذروتها معتلية مشرفة فوق الطريق. وهذه الأشجار السامقة ترى من الحضيض كأنها أعشاب على سفح أو شجيرات
وانتهى المسير إلى المصعد، فإذا قضبان محكمة على جانب الجبل يصعد بها هذا المصعد وينزل في دقيقة. يصعد من جوف الجبل حينا ثم يبدو بين جدارين ناتئين من السفح، ثم يظهر معلقا في اللوح كأنه طائر يحاول ذروة شاهقة
بدا لنا أن نترك لوسرن لنقيم في هذه الناحية أياما. فسرنا نرود المكان وفنادقه حتى وقف بنا الاختيار على فندق صغير منفرد هو اقرب مكانا ومنظر إلى الريف منه إلى المدن. فقلنا: هذا منزل حسن. . ماذا نصنع بالمدن وهي متشابهة في العالم كله؟ وماذا نرى في الفنادق الكبيرة وهي لا تختلف بين مدينة وأخرى إلا قليلا؟ هنا نظفر بالهدوء والسكون، ونقرب من الغابات والحقول ونرى من عادات القوم ما لا نرى في لوسرن وجاءت الخادم تكلمنا بلغتها وهي لا تعرف لغة مما نعرف فتفاهمنا بالألفاظ المتقاربة بين الإنكليزية والفرنسية وبين السويسرية، ولمحنا في جانب الحجرة رجلا أشيب فأشرنا أليه ليكلمنا فأشارت الخادم انه أصم فقلت: (كالمستجير من الخرساء بالصمم)
أخذنا بعض متاعنا من لوسرن إلى برجنشتوك. وبلغنا الفندق حين الغذاء (والساعة اثنتا عشرة وربع) دخلنا قاعة الطعام فإذا امرأتان ليس في القاعة غيرهما، وقد اعد لنا الطعام معهما. وليس بيننا لغة إلا الإشارات وكلمات حائرة بين ما نعرف وما تعرفان من اللغات. وقدم اللحم فرابني بياضه. فأشرت: أي لحم هذا؟ قالت إحداهما كلاما وحكت صوت الخنزير - وهذا الخنزير يخيفني حيثما حللت من أوربا - أشرت إننا لا نأكل الخنزير. قالت المرأة الأخرى لصاحبتها: إسرائيليان. قلت: لا، لا، لا، ولكن المصريين لا يطعمون لحم الخنزير. فكانت حركة في الفندق وارتباك. ثم قدم لنا لحم البقر سريعا. وفي العشاء قدم إلينا الكاكاو وكثير من اللبن وعجة البيض وفاكهة مطبوخة ورأينا القوم يأكلون العجة مع الفاكهة فعجبنا من اختلاف العادات والأذواق.
استرحنا ثم نزلنا لنخرج فدعينا إلى شرب القهوة وقدم لكل واحد مع القهوة ملء كوب من اللبن الجيد، اللبن عندهم موفور لكثرة البقر وقرب مراتعها، وأصحاب الفندق أسرة من الفلاحين
وكنا حين قدمنا هذا الصقع لأول مرة، سمعنا جلجلة أجراس مختلفة لا تنقطع فحزرت، وصدق الحزر، أنها أجراس في أعناق البقر أو الغنم. (وكننت رأيت في أصفهان من بلاد الفرس أجراسا في أعناق الإبل والثيران، ورأيت البدو يعلقون جرسا في رقبة الكبش تهتدي به الغنم وتجتمع على صوته؛ ورأيت هذا في مضارب قبيلة شمر في العراق وعلمت انهم يسمون هذا الكبش المرباع) فلما استقر بنا المقام في الفندق أردنا أن نجوس خلال الحقول لنرى البقر في مراتعها. وكانت أجراسها تجلجل في الأرجاء بين هذا الجمال الأخضر والجلال الرائع، بل في هذا المعبد العظيم من الخليقة فكأنها أجراس المعابد!
سرنا بين المروج فرأيناها مقسمة بحواجز. كأن لكل بيت مساحة من المرعى، ورأينا على الطريق أبوابا تمنع البقر إن تجاوز مراعيها. ثم رأينا بقر يرعى وقد جعلت أجراسها على قدر أسنانها: للعجل جرس صغير، وللثنى جرس اكبر منه، وللبقرة الفارض جرس كبير كأنه القدح. ورأينا حظائر للبقر تأوي أليها في الشتاء، وهي بيت من الحجر فيه قنوات لسيل الماء، وعنده حوض لشرب الدواب، وفوقه بيت من الخشب يوضع فيه الحشيش وأدوات الفلاحة. وتجعل الحظائر بجانب مكان عال ليتسنى دخول عربة الفلاح إلى الطبقة العليا. وبيوت الفلاحين جميلة المرأى يتجلى فيها النظافة والترتيب والنعمة. وكم تمنيت أن يكون لفلاحنا بعض ما لهؤلاء
ورأينا على الطريق نصبا عليه صليب، فاقتربنا منه فإذا حجر واحد نحتت في أعلاه طاقة عليها شباك من الحديد. فاطلعنا فيها فإذا صورة قديس وقديسة، ورأينا امرأة مرت بهذا النصب فوقفت قليلا تتعبد، وكان كل من يمر بهذا الطريق يقف هناك وقفة للعبادة. وكذلك رأينا بجانب الفندق بنية صغيرة يعلوها صليب، فاطلعنا فيها فإذا معبد يتسع لبضعة نفر، واحسبناه معبد الأسرة التي تقوم على الفندق. وهكذا يحرص القوم على دينهم ويتوسلون إلى العبادة بكل الوسائل
وأما الفندق فهو مثل من نشاط القوم ونظافتهم ونظامهم. هناك أُم كثيرة الأولاد قد أحسنت تربيتهم، ومنحت من قلبها ويدها ما جعلهم قرة عين الرائي صحة وجملا ونظافة. وهي قائمة على الفندق تعينها خادم واحدة لا ترى إلا ساعية أو عاملة أو متكلمة أو ضاحكة. وقد تبؤات الأسرة بعض الفندق وجعلت للنزال بعضه، ولم تنس حقها ولا حق النزال من رفاهية ومتاع. وأنا اكتب الآن وقد جاء صبي من هذه الأسرة يطرب الحاضرين بموسيقاه. وهكذا يبدو النشاط والمرح والسرور ليل نهار
وحول الفندق أشجار الفاكهة، ومزرعة صغيرة عليها سياج ومن هذه الأشجار وهذه المزرعة فاكهة الفندق وبقوله يجنيها الأولاد كما تأمرهم الأم
أحدثك مرة أخرى عن روعة هذا الصقع فقد بدا لي إن أعود إلى هذا الحديث:
خرجنا عصر اليوم فسرنا إلى المصعد الذي وصفته آنفاً في طريق ضيقة نحتت على سفح الجبل ينيف فوقها جبل شامخ وتبدو تحتها هوة هائلة. فلما جاوزنا المصعد تمادت بنا الطريق صاعدة في السفح تخترق الجبل بين الحين والحين إذا لا تجد على السفح منفذاً. فلما اعجز القوم النحت في مواضع من هذا الطود العاتي الأشم مدد الطريق على دعم من الحديد مثبتة في الجبل، فترين السائر معلقاً بين السماء والأرض على هذه الشقة الضيقة حتى يبلغ الغاية
وقصارى القول أن تسخير الإنسان للخليقة سهلها ووعرها وصعبها وسهلها، شجرها وزرعها، وبرها وبحرها، يبدو للسائر هنا في كل خطوة، بل لست ادري أأقول: هنا جهاد الإنسان والخليقة أو اصطلاحهما على العمل والسعادة؟
ولا أنس جلسة في العشي ونحن عائدون إلى الفندق وقد جلل الضباب الخليقة، وأطبقت السحب وأسف بعضها دون القمم، وتتابعت على العين قمم الجبال تسيل منها النضرة والجمال على السفوح، والمساكن والفنادق منثورة في هذه المرائي المدهشة! منظر لا يمكن وصفه، ولا يدركه إلا من يراه!
لا ينقص هذا الجمال إلا أن تكوني أنت وأخواتك معي فأرى دقائقه بأعينكن، وأسمع بيانه البليغ من أفواهكن. فليت ثم ليت!
(جنتشو)
عبد الوهاب عزام