الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 271/خواطر ورموز

مجلة الرسالة/العدد 271/خواطر ورموز

بتاريخ: 12 - 09 - 1938


للأستاذ عبد المنعم خلاف

1 - أطماع لا حد لها

تكتب يد بليدة ما رأته عين ضيقة في الدنيا الواسعة ذات الأبواب التي لا عدد لها، كتابة المتعجل الذي يريد أن يرى ويسجل قبل الرحلة التي لا رجعى بعدها هنا. . .

ورحلتنا من هنا قد حملت كثيراً من الركب على أن يتخففوا ما استطاعوا، وأن يمروا على أشياء الدنيا بالنظرة الخاطفة، والخطوة العابرة، إيماناً بأن كل شيء هنا للفناء والعفاء، فلا غناء فيه ولا وراء من أخذه في الحس وتسجيله في النفس والطرس بالتأمل والدرس

بيد أن كل هذه الأضواء الفانية، والألوان الفاصلة، والرؤى المتلاحقة، والدنيا التي تمتلئ وتفرغ كل لحظة. . . هي أحق شيء بالتسجيل وفتح الأعين الخفية عليها من غير إغماض أبداً

فلئن عشنا حياة أخرى، وهو الموقن به في إلهام الروح، والمحكوم به في إثبات العقل، فان أمتع شيء لنا هناك أن نستعرض صورنا هنا يوم تمحي هذه الأرض من الوجود ولا تبقى إلا في النفس الإنسانية كمرحلة من مراحلها في سيرها إلى غايتها المجهولة

ولكن الألفاظ ضيقة والدنيا واسعة والحياة سريعة السير. فلا أدري هل أنا مستطيع أن آخذ في ألفاظي الضيقة ما أريد أخذه حتى أشعر يوم يقبل اليوم النهائي أنني خارج من الدنيا ممتلئ الأوعية (بأفلام) طويلة كاملة الإخراج؟

أنا في إرهاق دائم بمطالب العيش ومشاكل الناس وضرورات الأبدان. . . وإنما أنظر إلى ما أمام الستار وما وراءه، في فترات قصيرة كفترات الأحلام.

فما لي على إدراك هذا يدان ولا قدرة إلا أن يضاعف صاحب الحياة من قوى نفسي فيمدني بعيون كثيرة وآذان كثيرة (وعدسات) كثيرة.

من لي بمن يدمجني في كل شيء حتى أتحدث عنه كأنني هو متحدثاً عن نفسه؟!

فيا أيتها الدنيا البُعْدَى. . .! اكشفي لي القناع واهتكي أستارك لتلك العين الضيقة التي أرمدها السهر على بابك، وولهها الدنو من رحابك، حتى ما وراء الستار.

فإن مبلغ علمي بدنياي أن أولها: أنا. . . وثانيها الأرض. . . وثالثها: السماء. . ورابعها: أنا غير الأولى. . وخامسها: هؤلاء جميعاً!. . .

فهات يا دنيا! املئي يدي وفمي وكل وعاء فيَّ. . . إني واقف أنتظر الكنوز الموعودة. . . يداي مازالتا مبسوطتين منذ أن عرفت. . . وفمي فاغر إلى فوق،. وعيناي كهفا ظلام لم تقنعا بما ينفذ إليهما من هذا الضوء الذي تراه أيضاً كل العيون الضالة فلا يهديها. . .

2 - والمحصول؟

ولكن. . .

هل في الدنيا إلا طريق واحد تذهب فيه الأقدام طولا وعرضاً على الشوك والحصى والغبار، ثم تنتهي إلى الحفرة التي لا تشبع أبداً من الجثث والحطام؟

وهل أنا عالم بذلك علم الذي ينظر الخواتيم دائما في المبادئ؟

وهل لا يزال يزيغ حواسي ذلك البريق الخالب فأجري وراءه وأنا أعلم أني أجري إلى لا شيء؟

أو لم أجرب العناوين وما وراءها ودنيا الألفاظ التي تضع الأسماء ليعيش الناس بها فقط؟

وهل أذهب كما ذهب أكثر الناس غريق الوهم والسعي المكدي إلى الأصفار التي غرنا منها أنها تعد أيضاً كما تعد الأرقام؟

ماذا وراء التراب المزوق يا أولي الألباب؟ املئوا منه أواعيكم ما شئتم. . .!

ماذا وراء التجارة بالألفاظ أيها الحكماء؟ املئوا الصحف بها ما أردتم. . .!

فليس في الدنيا إلا يوم واحد تفرغه الشمس أضواء وظلاماً على أجسادنا فتبينها ثم نبليها به. . .

والأرض دائماً تقرع بالأقدام. . . والصبح دائماً معه صوت الطير. . . والليل دائماً معه نجومه. . . والمحصول عدد لا نهائي من الأصفار!

3 - لابد من جنون أيها العقلاء!

ولكن أيضاً. . .

لابد من جنون أيها العقلاء لندرك!

لابد أن نصر على هذا النداء: أمسكي الماء أيتها الغرابيل. . . اقبضي على الريح أيتها الأصابع. امضغي الهواء أيتها الأضراس. . . أدلي الدلاء إلى السراب أيتها الأيدي. . . اطحني القرون أيتها الطواحين. . .

4 - الأعمى والمرآة

- وهذا الإصرار هو أمانيُّ أعمى ينظر في مرآة! ليرى فيها خيوط ضوء من أفق مجهول يقع على وجهه المجهول لديه الخالد في الظلام بخلود أقفال عينيه!

إنه يتعزى بأن المرآة هي التي تراه. . . فاعذروه واتركوه يقلب وجهه فيها. . .

عبد المنعم خلاف