مجلة الرسالة/العدد 271/تاريخ الحياة العلمية
→ غزل العقاد | مجلة الرسالة - العدد 271 تاريخ الحياة العلمية [[مؤلف:|]] |
رسالة الشعر ← |
بتاريخ: 12 - 09 - 1938 |
في جامع النجف الأشرف
للأستاذ ضياء الدين الدخيلي
- 1 -
هاهي ذي مجلة الأستاذ الزيات تحمل على أجنحتها رسالة الإخاء الإسلامي العربي! أما ترى كيف أصبحت رابطة التعارف بين أستاذ في جامع النجف الأشرف وبين أخ له وراء الصحارى والقفار؟
أي وكرامة العروبة والإسلام هو أخ لي تضمني إليه ربقة الجامعة المقدسة وإن لم تسبق لي معرفة بذاته الكريمة. هلم بي يا قلمي لتلبية الدعوة وإن أثقلتك المشاغل. هذا أخي الأكرم يناديني من (طنجة) لأبادله المعرفة وأسهب له في حديثي عن سير المعهد العلمي الذي أنتمي إلى قدسيته. . . فهيا إلى (الرسالة) مجلة الأدب العالي
أيها الأخ، إن تاريخ الدراسة في هذا المعهد الجليل يتوغل إلى أعماق العصور الإسلامية إلى أمد بعيد. وبما أن نواته هي البناية التي أقيمت على مرقد الإمام علي بن أبي طالب (ع) فلابد للراغب في معرفة حياته العلمية والأدبية في أدوارها من طفولتها إلى شيخوختها - أن يلم إلمامة قصيرة بنشأة هذه البنية وتطورها في مراقي العمران. فقد كان حب الشخصية الإسلامية القوية الدفينة هنا، هو الذي جذب العلماء إلى مجاورة المرقد الطاهر ليشيدوا قواعد هذه المدرسة ويكونوا الحلقات لرفع منار الثقافة الإسلامية من الحديث والفقه وأصوله والفلسفة وما تستلزم من مقدمات تمهيدية وأسس أصبحت بعد حين مباني مستقلة بنفسها كفنون الأدب والرياضيات من هندسة وحساب وهيئة. لقد أستمر التدريس في بناية القبر العلوي حتى الآن، فقد درست فيها النحو والمنطق والمعاني والبيان وعلم الفقه وأصوله والفلسفة الإسلامية على أساتذة عرب وفرس في حلقات كبرى وصغرى ولقد نظمنا فيها الجماعات للتذاكر وحل عوائص تلك الأفانين من الثقافة وقضيت فيها ردحاً من الزمن قيماً. أما كيف قامت أركان هذه المدرسة العالية فذلك حديث جذاب ممتع
هناك أسطورة تقص (في إرشاد الديلمي وعمدة الطالب) تقول إن القبر كان مخفيا عن عبث أعداء الدعوة العلوية إلى أن أظهره الرشيد وبنى عليه قبة ذات أربعة أبواب من طين أحمر وعلى رأسها جرة خضراء وتحتها الضريح من حجارة بيضاء. وحكى في فرحة الغري في قصة طويلة أنه قبل الرشيد وضع داود بن علي المتوفى سنة 133هـ صندوقا دُرس بإهماله خوف سطوة العباسيين الذين تبدلت سياستهم تجاه العلويين حتى بطشوا بهم واضطهدوا شيعتهم وقعدوا لهم كل مرصد. وسبب آخر في اندراسه هو عامل طبيعي غير هذا الأدبي، فقد ساعد على ضياعه وقوعه في منخفض الوادي معرضاً لجري السيول ومهب الرياح
قال في نزهة القلوب: وعقيب بناء الرشيد بعد سنة 180هـ جاوره الناس. ويمكنك أن تعتبر هذه المجاورة بذرة الحياة العلمية الأدبية الحاضرة، فمن مستلزمات مجاورة هذا المعبد الإسلامي الذي كان ولا يزال منتجع الزوار من قاصي الأرض ودانيها - تدبر الشريعة الإسلامية وتداول أحكامها. وقد وجدت إجازات برواية أحاديث قال راووها إنهم تلقوها في رواق قبر الإمام (ع) وكان عهد هذا التلقي للعلم الإسلامي سحيقاً في القدم. وقرأت في (فرحة الغري) أنه في أيام المعتضد العباسي بني محمد بن زيد العلوي الداعي الصغير (صاحب طبرستان الذي ملكها عام 270 بعد أخيه الحسن ثم قتل عام 287 كما في كامل أبن الأثير وقد تنسب العمارة لأخيه الحسن) - قبة وحائطاً وحصناً فيه سبعون طاقا. وقد لوح أبن أبي الحديد إلى هذه العمارة إذ قال (زار القبر جعفر الصادق وأبوه محمد ولم يكن إذ ذاك قبراً معروفاً ظاهراً وإنما كان به سرح عضاه حتى جاء محمد بن زيد الداعي صاحب الديلم فأظهر القبة) وقال أبن الأثير (وفي سنة 282 هـ وجه محمد بن زيد العلوي سراً من طبرستان إلى محمد بن ورد العطار باثنين وثلاثين ألف دينار ليفرقها على أهل بيته ببغداد والكوفة والمدينة فسعى به إلى المعتضد فأمره أن يكتب إلى صاحبه بطبرستان أن يوجه ما يريد ظاهراً وأن يفرق ما يأتيه ظاهراً وتقدم بمعونته على ذلك) وهذا يؤيد ما رواه ابن أبي الحديد. وقد طرأ على ما بناه الداعي بناء الرئيس الجليل عمر بن يحيى القائم بالكوفة فقد عمر قبر جده (ع) من خالص ماله ثم قتل عام 250هـ وحمل رأسه في قوصرة إلى المستعين العباسي
وبعد هذا تقوم بناية ضخمة يشيدها رجل السطوة والعمران عضد الدولة البويهي، فحين تولى السلطة في العراق شاد عمارة القبر الثالثة (أقام بعسكره في ذلك الطرف قريباً من السنة وبعث فأتى بالصناع والأساتذة من الأطراف وخرب تلك العمارة وصرف أموالا كثيرة جزيلة وعمر القبر عمارة جليلة حسنة)
وقرأت في عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب. . . إلى أن كان زمن عضد الدولة فناخسرو ابن بويه الديلمي فعمره عمارة عظيمة واخرج على ذلك أموالا جزيلة وعين له أوقافا، ولم تزل عمارته باقية إلى سنة 753 وكان قد ستر الحيطان بخشب الساج المنقوش فاحترقت تلك العمارة وجددت عمارة المشهد على ما هي عليه الآن (توفى المؤلف سنة 828) وقد بقي من عمارة عضد الدولة قليل)
وقال آخر إن عمارة عضد الدولة من أجل العمارات ومن أحسن ما وصلت إليه يد الإنسان في ذلك الوقت بذل عليها الأموال الطائلة وجلب إليها الرازة والنجارين والعملة من سائر الأقطار. قالوا إن هذه العمارة وإن كان لعضد الدولة يرجع تأسيسها فقد عرضت عليها إصلاحات جمة وتحسينات قيمة من البويهيين ووزرائهم والحمدانيين ومن المستنصر العباسي الذي عمر الضريح المقدس وبالغ فيه وزاره مراراً (كما في فرحة الغري) وكذلك لقد عمر من قبل: بني جنكزخان وغيرهم حتى وصلت العمارة إلى ما شاهده ابن بطوطة الرحالة الذي وردها بعد أن قضى حجه عام 725هـ وقال في رحلته: (نزلنا مدينة مشهد علي بن أبى طالب (رضه) بالنجف وهي مدينة حسنة نظيفة في أرض فسيحة صلبة من أحسن مدن العراق وأكثرها ناساً وأتقنها بناء. . . ودخلنا باب الحضرة حيث القبر الذي يزعمون أنه قبر علي (ع) وبازائه المدارس والزوايا والخوانق معمورة أحسن عمارة وحيطانها بالقاشاني وهو شبه الزليج عندنا لكن لونه أشرق ونقشه أحسن. ويدخل من باب الحضرة إلى مدرسة عظيمة يسكنها الطلبة والصوفية من الشيعة؛ ومن تلك المدرسة يدخل إلى باب القبة عليه الحجاب والنقباء والطواشية يأمرون الزائر بتقبيل العتبة وهي من الفضة وكذلك العضادتان؛ ثم يدخل القبة وهي مفروشة بأنواع البسط من الحرير وبها قناديل الذهب والفضة منها الكبار والصغار، وفي وسط القبة مسطبة مربعة مكسوة بالخشب عليه صفائح الذهب المنقوشة المحكمة العمل مسمرة بمسامير الفضة قد غلبت على الخشب بحيث لا يظهر منه شيء، وارتفاعها دون القامة وفوقها ثلاثة قبور يزعمون أن أحدها قبر آدم (ع) والثاني قبر نوح (ع) والثالث قبر علي (رض)، وبين القبور طسوت من ذهب وفضة فيها ماء الورد والمسك وأنواع الطيب يغمس الزائر يده في ذلك ويدهن وجهه تبركا. وللقبة باب آخر عتبته أيضاً من الفضة وعليه ستور من الحرير الملون يفضي إلى مسجد مفروش بالبسط الحسان مستورة حيطانه وسقفه بستور الحرير وله أربعة أبواب عتباتها فضة وعليها ستور الحرير. وخزانة الروضة عظيمة فيها من الأموال ما لا يضبط لكثرته)
(العراق. النجف الأشرف)
(يتبع)
ضياء الدين الدخيلي