مجلة الرسالة/العدد 270/جورجياس أو البيان
→ بين الفن والنقد | مجلة الرسالة - العدد 270 جورجياس أو البيان [[مؤلف:|]] |
التاريخ في سير أبطال ← |
بتاريخ: 05 - 09 - 1938 |
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 9 -
(تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلا) للفلسفة!)
(رينوفييه)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة وتنتصر لأنها أقوى وأقدر من جميع الهادمين!)
(جورجياس: أفلاطون)
الأشخاص
1 - سقراط: بطل المحاورة: (ط)
2 - جورجياس: السفسطائي: (ج)
3 - شيريفين: صديق سقراط: (س)
4 - بولوس: تلميذ جورجياس: (ب)
5 - كاليكليس: الأثيني: (ك)
ط - (رداً على جورجياس) وإذا فلنر الآن إذا كنت أستطيع أن اشرح لك ما أريد أن أقول بوضوح أكثر. عندنا من الفنون بقدر ما عندنا من الجواهر. وأحد هذه الفنون يختص بالنفس وأدعوه (السياسة) والآخر يختص بالجسد ولست أجد له الآن اسماً مفرداً وإن كنت أميزُ في وحدته قسمين هما (الرياضة البدنية) و (الطب) كما أميز في السياسة بالمثل (التشريع) ويقابل الرياضة البدنية، و (العدالة) وتقابل الطب. ولما كانت فنون هاتين المجموعتين تتصل بموضوع واحد فإنها بالطبع ذات علاقات فيما بينها؛ كما هو الحال في الطب والرياضة البدنية من ناحية، وفي العدالة والتشريع من ناحية أخرى، ولكن توجد بينها مع ذلك بعض الفروق. . .
هناك إذاً تلك الفنون التي ذكرتها، والتي تعمل على تحقيق أعظم الخيرات، والتي يختص بعضها بالجسد، وبعضها الآخر بالنفس. وهناك (أيضاً) (التملق) الذي لا نستطيع أن نتصوره إلا بالظن والتخمين دون العقل المنطقي، والذي ينقسم في نفسه إلى أربعة أقسام تنزلق تحت تلك الفنون الأربعة الآنفة وتتداخل فيها، ويدعى أنه هو نفس الفن الذي انزلق تحته واختفى فيه. . .، وهو (أي التملق) لا يعني بالخير قط، ولكنه يجذب الحماقة دائماً بما يقدمه لها من (طُعم) اللذة فيغشها ويخدعها وينال بذلك تقديراً كبيراً!؛ (فالطهي) مثلاً ينزلق تحت (الطب) ويتخفى فيه ويدعي مفتخراً أنه يعرف أفضل الأغذية الملائمة لصحة الجسم بحيث لو تجادل الطاهي والطبيب أمام الأطفال - أو من هم مثلهم عقلاً وفهماً - في:
أيهما أعرف من صاحبه بالأغذية المفيدة والضارة؟
لا نخذل الطبيب وباء بالخسران المبين
وإذا هو ما أدعوه (بالملق) يا بولوس، وما أدعى أنه شنيع وكريه، لأنه يهتم باللذات (الحسية) ويهمل الخيرات. وأنا أوجه ذلك التأكيد إليك وأضيف أنه ليس بفن؛ ولكنه مجرد تجربة وتمرين؛ لأنه لا يستطيع أن يبين الطبيعة الحقيقة للأشياء التي يشتغل بها، ولا أن يقدم لها تعليلا! ولذلك لا أستطيع أن أطلق (الفن) على شيء لا تفكير فيه. فإذا كنت تنازعني في ذلك فإني مستعد للدفاع عن قولي!. . . (لا ينطق بولوس)
وأستطيع أن أكرر ثانية أن الملق المتعلق بالطهي ينزلق تحت الطب ويختفي فيه، وأن التزين (أو التبهرج) ينزلق بالمثل تحت الرياضة البدنية ويصبح شيئاً مؤذياً خداعاً دنيئاً غير جدير بالإنسان الحر، لأنه يعمل على تمويه الصور والأشكال، والألوان والأثواب، والبريق والصقال، كيما يجلب للمرء جمالا مصطنعاً، ويصرفه بذلك عن الجمال الطبيعي الذي تستطيع أن تقدمه الرياضة البدنية
وجرياً وراء الاختصار سأحدثك بمنطق الهندسة لأنك قد تفهمني إذا خاطبتك بهذا المنطق فهما أدق وأصح. -: إن التزين بالنسبة للرياضة البدنية كالطهي بالنسبة للصحة. وبالأحرى التزين بالنسبة للرياضة كالسفسفطة بالنسبة للتشريع، والطهي بالنسبة للطب كالبيان بالنسبة للعدالة. وتلك هي الفروق الطبيعية بين هذه الأشياء، ولكنها لما كانت متقاربة فيما بينها فان الخطباء والسفسطائيين يختلط فيهم الحابل بالنابل على نفس الأرض؛ وحول نفس الموضوعات؛ ولا يعرفون ماذا عسى أن تكون وظيفتهم الحق؛ كما لا يقل عنهم جهلا بهذه الوظيفة. . .، والحق أن النفس إذا كانت لا تحكم الجسد، وكان هو المتصرف في أمر نفسه بحيث لا تختبر هي الأشياء بذاتها ولا تفرق بين الطهي والطب، وكان هو الذي يحكم وحده تبعا لما يحصل عليه من لذات، أقول: الحق أن لو كان الأمر كذلك لرأينا في الغالب تلك (الفوضى) التي تعرفها يا عزيزي بولوس، والتي ذكرها (أناجساجور) في قوله (كان حابل الأشياء يختلط بنابلها!)، ولَكُنِّا لا نستطيع أن نفرق بين ما يختص بالطب، وما يختص بالصحة أو الطهي!!. .
فها قد سمعت ما أعتقده في البيان وعرفت أني أعتبره للنفس كالطهي للجسم!؛؛ وقد يكون من التناقض أن أحرم عليك الأقوال المسهبة وأضطرك مع ذلك إلى الإنصات إليّ هكذا طويلا؛ ولكني جدير في الواقع بالعذر؛ لأني عندما كنت أتكلم بإيجاز كنت ألاحظ أنك لا تفهمني ولا تستطيع أن تخرج بشيء من أقوالي؛ فوجب لذلك أن أقدم لك الشروح الكافية؛ وإذا رأيتُ بدوري غموضا في إجابتك فتستطيع أن تبسطها مثلي. أما إذا فهمتها فاتركني أقنعُ بها لأن من حقي. ويسرني الآن أن أسمع ما في مقدورك أن تذكره عن حديثي.!
ب - وماذا قلت؟ أتدعي أن البيان مجرد تملق ورياء؟
ط - لقد قلت إنه قسم من الملق فحسب!. أفيحتاج شبابك يا بولوس إلي ذاكرة؟
وماذا يكون شأنك غدا إذا ما تقدمت بك السن؟
ب - أتعتقد أن الخطباء المجيدين يعدون في المدن كالمتملقين وأنهم لذلك أقل احتراما؟؟
ط - أذلك سؤال توجهه إليّ أم هو حديث ستشرع فيه؟
ب - إنه سؤال
ط - حسن. فأنا ممن يعتقدون أنهم غير محترمين على الإطلاق. . .!
ب - وكيف يكونون كذلك وهم أقوياء وجِدَّ أقوياء في الدول؟
ط - ذلك إذا كنت تعد (القوة) خيراً لمن يمتلكها!
ب - أني لأعدها كذلك!
ط - حسن. ولكني أرى أن الخطباء أضعف المواطنين قوة وبأساً! ب - وكيف؟ ألا يستطيعون أن يقتلوا من يشاءون، وأن ينهبوا أموال من يسرهم أن يفعلوا معه ذلك ثم ينفونه إلى الخارج كما يفعل الجبابرة الطغاة؟
ط - إني لأسأل نفسي - وحق الكلب - يا بولوس عند كل كلمة تقولها لا أعرف إذا كنت تتكلم بلسان أستاذك، أم تعبر عن رأيك الشخصي، أم تبغي رأيي فحسب
ب - إني لأبقي رأيك أنت!
ط - ليكن يا صديقي! ولكنك توجه إليّ سؤالين دفعة واحدة. . .!
ب - وكيف ذلك؟
ط - ألم تقل منذ لحظة أنهم يقتلون من يشاءون كما يفعل الجبابرة الطغاة، وينهبون وينفون من يسرهم أن يفعلوا معه ذلك؟
ب - بلى!
ط - حسن! أرى أن هذين سؤالين مختلفين، وسأجيب على أحدهما ثم على الآخر: إني أعتقد يا بولوس أن الخطباء والطغاة لا يملكون في الحكومات إلا قدراً ضئيلاً جداً من القوة كما ذكرتُ منذ لحظة؛ لأنهم لا يعملون تقريباً شيئاً مما يريدون؛ وإن كانوا ينفذن مع ذلك ما يلوح لهم أنه أفضل الأشياء!
ب - حسن. ولكن أليس هذا (قوة)؟
ط - كلا! وعلى الأقل بالنسبة لما يقول بولوس!
ب - وهل قلت (كلا)؟ لقد قلت على النقيض إن ذاك (قوة)!
ط - كلا وحق الإله! أنك لا تقول ذلك ما دمت قد أكدت أن (القوة) العظيمة خير لمن يمتلكها!!
ب - أتعتقد أنه من الخير للمرء أن ينفذها ما يبدو له كأفضل الأفعال إذا ما كان مسلوب العقل؟ وهل تسمى مثل هذه الحال (قوة كبيرة)؟
ب - كلا!!
(يتبع)
محمد حسن ظاظا