الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 27/مشكلات التاريخ

مجلة الرسالة/العدد 27/مشكلات التاريخ

بتاريخ: 08 - 01 - 1934


نكبة البرامكة

للسيد مصطفى جواد

لعل أغرب ما وهم المؤرخون فعمي عليهم سبب تدمير الرشيد للبرامكة

أنهم عدوا بني برمك دعاة للعلويين ومذيعين لمذهب التشيع في البلاد،

والمشكلة التاريخية إذا استبهم جانب منها تشعب فيها الظنون واختلفت

الآراء واضطربت الأحكام. ولو علم المؤرخون أن البرامكة كانوا

يتقربون إلى الرشيد بالسعي على العلويين والسعي بهم وتبغضيهم

لوجدوا إلى سبب تلك الفتكة الهاشمية سبيلا، وعلى الجلية دليلا،

ولعلموا أنهم لما حق عليهم العذاب دمرهم الله تدميرا،

لم يكن استئثارهم بالحكم وحده سبب هلاكهم، ولا غزارة ثرائهم مدعاة إلى النقمة عليهم، ولا الزواج الذي اختلقته الشعوبية موجبا لاستئصالهم، ولا إلحادهم منبها على عقابهم، وإنما الندامة التي ندمها الرشيد بعد أن استدرجوه إلى تشريد بني عمه العلويين واستحلال دمائهم الزكية وتعذيب الأبرياء منهم العذاب الهون؛ لم يكن الرشيد ملحداً حتى لا يندم، ولا بليداً حتى لا ينتبه، ولا شقيا حتى لا يتوب، ولا مقصراً حتى لا يتدارك. من شفيعهم إليه وقد ولغوا في دماء بني علي وطلبوا الزلفى بتعذيبهم، وأعلوا مراتبهم بخفض العصبية الهاشمية واجتثاث الشجرة النبوية؟ ولقد جرؤوا بالحادهم وسوء سيرتهم أن (جعفرهم) حز رأس حبيسه العلوي (عبد الله الشهيد بن الأفطس) في يوم النوروز، وأهداه إلى الرشيد في طبق الهدايا، فلما رفعت المكبة من فوق الطبق ورأى الرشيد في الطبق رأس ابن عمه استعظم ذلك، فقال له جعفر: ما علمت أبلغ سرورك من حمل رأس عدوك وعدو آبائك إليك، وكان الرشيد قد حبسه عند جعفر وأمره بان يوسع عليه. وقال ذات يوم: اللهم اكفنيه على يدي ولي من أوليائي وأوليائك، فلم يجد هذا الشقي الكفاية إلا بقتله صبراً لا سيف معه يذود به عن نفسه، ولا بنو علي حوله يحيطونه ويكلأونه، ولا شفيع يرد عنه لؤم الزنادقة، وهو الذي شهد وقيعة (فخ) متقلداً سيفين ينفح عن حق كان يراه مبزوزاً، ويكافح عن سيد كان يرى نفسه محلاً عن مكانته، فلما أسر أخذه الرشيد وحبسه عند جعفر - على ما قدمنا - فضاق صدره بالحبس وكتب إلى الرشيد رقعة يشتمه فيها شتما قبيحا، فلم يلتفت إلى ذلك لأنه عالم بالعزة العلوية والاستبسال الهاشمي، ولم يأمر إلا بالتوسيع عليه والترفيه عنه، فكان من أمره مع جعفر ما كان.

وقال السيد نعمة الله الجزائري في سبب هلاك البرامكة على يد الرشيد (وقد ذكرنا أن السبب فيه ظاهرة حكاية العباسة أخت الرشيد، وإما السبب الحقيقي فهو دعاء أبي الحسن الرضا - ع - على آل برمك في موقف عرفة لأنهم سعوا بالكاظم - ع - وكانوا أقوى الأسباب في شهادته وهذا التعليل وأن أورده الجزائري على حسب اعتقاده وتربيته الدينية؛ ففيه رد شديد على القائلين بأن هوى البرامكة كان مع العلويين؛ وبلغ الطيش ببعضهم أن جعلوا كل حركة للفرس دعوة للعلويين وطلاباً بحقهم، وانتصاراً لهم، ونشراً لمذهبهم، وأين الزندقة من صريح الإسلام؟

وقال بهاء الدين أبو الحسن علي بن فخر الدين عيسى الأربلي الكردي في ترجمة الإمام موسى بن جعفر الكاظم ما صورته (وكان السبب في قبض الرشيد على أبي الحسن - ع - وقتله ما ذكره أحمد بن عبيد الله بن عمار عن علي بن محمد النوفلي عن أبيه. . عن مشايخهم قالوا: كان السبب في أخذ موسى بن جعفر - ع - أن الرشيد جعل ابنه في حجر جعفر بن محمد بن الأشعث فحسده يحيى بن خالد بن برمك على ذلك وقال: إن أفضت إليه الخلافة زالت دولتي ودولة ولدي، فاحتال على جعفر بن محمد - وكان يقول بالإمامة - حتى داخله وأنس به، فكان يكثر غشيانه في منزله فيقف على أمره ويرفعه إلى الرشيد ويزيد عليه في ذلك بما يقدح في قلبه، ثم قال لبعض ثقاته: أتعرفون لي رجلا من آل أبي طالب ليس بواسع الحال يعرفني ما أحتاج إليه، فدل على علي بن إسماعيل بن جعفر بن محمد، فحمل إليه يحيى بن خالد مالا، وكان موسى - ع - يأنس بعلي بن إسماعيل ويصله ويبره، ثم أنفذ إليه يحيى بن خالد يرغبه في قصد الرشيد ويعده بالإحسان اليه، فعمل على ذلك، فأحس به موسى - ع - فدعا به وقال له (إلى أين يا ابن أخي؟) قال إلى بغداد. قال وما تصنع؟ قال علي دين وأنا مملق، فقال له موسى: أنا أقضي دينك وأفعل لك واصنع.

فلم يلتفت إلى ذلك، وعمل على الخروج، فاستدعاه أبو الحسن - ع - وقال له: أأنت خارج؟ قال: نعم لابد لي من ذلك، فقال له: انظر يا ابن أخي واتق الله ولا توتم أطفالي: وأمر له بثلثمائة دينار وأربعة آلاف درهم. فلما قام من بين يديه، قال لمن حضره: والله ليسعين في دمي ويوتمن أولادي. فقالوا: (جعلنا فداءك، وأنت تعلم هذا من حاله وتعطيه وتصله؟ قال: نعم، حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله - ص - أن الرحم إذا قطعت فوصلت فقطعت قطعها الله، وإنني أردت أن أصله بعد قطعه، حتى إذا قطعني قطعه الله، قالوا فخرج علي بن إسماعيل حتى أتى يحيى ابن خالد فتعرف منه خبر موسى ابن جعفر - ع - فرفعه إلى الرشيد، وسأله الرشيد عن عمه فسعى به إليه وقال له: إن الأموال تحمل إليه من المشرق والمغرب وأنه. . .) حتى قال (ثم خرج يحيى بن خالد على البريد حتى وافى بغداد، ثم دعا السندي بن شاهك فأمره في موسى بن جعفر بأمره فامتثله، وكان الذي تولى به السندي قتله جعله سما في طعام قدم اليه، ويقال إنه جعله في رطب فأكل منه موسى وأحس بالسم ولبث بعده ثلاثاً موعوكا ثم مات في اليوم الثالث. . . واخرج ووضع على الجسر ببغداد. . . فأمر يحيى بن خالد أن ينادي عليه عند موته: هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنه لا يموت فانظروا إليه)

فهذا الدليل الثاني على خطأ من نسب البرامكة إلى التشيع والإمامة، فلقد كانوا حربا على الإمامة وعيونا على التشيع وراءها الفتك والزندقة، ومحاربة الإسلام بلأمته، ونقل علي بن عيسى الأربلي المذكور أن محمد بن الفضل قال: (لما كان في السنة التي بطش هرون فيها بالبرامكة وقتل جعفر بن يحيى وحبس يحيى بن خالد ونزل بهم ما نزل كان أبو الحسن (علي بن موسى الرضا) واقفا بعرفة يدعو ثم طأطأ رأسه فسئل عن ذلك فقال: إني كنت ادعوا الله على البرامكة فقد فعلوا بابي ما فعلوا، فاستجاب الله لي فيهم اليوم فلم يلبث إلا يسيرا حتى بطش هرون بجعفر وحبس يحيى وتغيرت حالهم)

فهذا الخبر كالذي أورده السيد نعمة الله الجزائري مضارة بن برمك لبني علي، ولكنه أقدم منه نقلا - كما نعرف من تاريخ المؤلفين - وكلاهما نظر فيه نظراً دينيا، ومع ذلك يدلان على كره الإمام الثامن من الأئمة الاثنى عشر للبرمكة ودعائه عليهم ريه، وقال محمد تقي التبريزي (من الأغلاط المشهورة ما اشتهر من أن البرامكة كانوا من المتشيعة حتى أن أيدمر بن علي الجلدكي، ذكر في كتاب نهاية الطلب في شرح المكتسب بتقريب: أنه كان سبب بطش هرون الرشيد بهم ما اشتم منهم أنهم يريدون تحويل الدولة من آل العباس إلى آل علي، وذلك كله غلط نشأ من قلة التتبع، فان البرامكة - لعنهم الله - هم الذين سعوا في قتل موسى عليه السلام فان يحيى بن خالد هو الذي بعث علي بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن أخي موسى على السعاية بموسى عند هرون لداع دعاه إلى ذلك مذكور في كتب الأخبار، والفضل بن يحيى هو الذي بعث بالسم إليه فقتله بأمر هرون وبيد السندي بن شاهك، بل روى أن يحيى لم يكتف بذلك حتى أراد أن يغري هرون بقتل الرضا، فقال هرون: أما يغنينا ما صنعنا بأبيه؟ أتريد أن نقتلهم جميعا؟ وقد رواه الصدوق في العيون (عيون اخبار الرضا) عن صفوان بن يحيى وذكر في آخره أن البرامكة كانوا متعصبين على أهل بيت رسول الله - ص - مظهرين العداوة لهم، وبالجملة الذي يظهر من الأخبار المعصومية أن الله لم يغير ما بالبرامكة من النعمة إلا من جهة سعيهم ومباشرتهم قتل موسى، فكيف يجري فيهم هذا الاحتمال؟) عن صحيفة الأبرار (396: 2)

وهذه شهادة من أقوى الشهادات، فان محمد تقي التبريزي هذا شيخي المذهب فارسي الأصل والبرامكة من جنسه، ولكن الحق عزيز على أهله فلا يضيعونه ولا يفارقونه، وحل هذه المشكلة التاريخية (إن البرامكة إذ أدخلوا الرشيد سياسة البغي واستدرجوه إلى قسوة الحكم وقتل السادة الأبرار الأبرياء من بني عمه تلقفهم بالرأي الحازم الحاسم ووضع فيهم السيف وعراهم بالمصادرة والعذاب، فعفى على آثارهم وبئست عاقبة القوم المكذبين بالدين الساعين في قتل السادة العرب وحفظة الإسلام وأهل الهدى والتقوى، ولو لم يكن لهم من المساعي الخبيثة النتائج إلا قتلهم موسى بن جعفر لاستحل خليفة الزمان قتلهم، فكيف وقد ضحوا بكثير من العلويين وغيرهم من بهاليل العرب؟ فالرشيد أذن قد ندم على ما كان من الغفلة وأسف على أرواح أولئك الأبرياء وفطن لما يريد بنو برمك به وبالإسلام وسادات العرب، فانتقم وتدارك واستغفر، وهل من دليل على ذلك أقوى من قوله ليحيى - وقد نقلناه (أما يغنينا ما صنعنا بأبيه؟ أتريد أن نقتلهم جميعا؟) ومن أنه لما أرسل مسروراً الخادم لقتل جعفر بن يحيى قال له جعفر: بم يستحل أمير المؤمنين دمي؟ فقال له مسرور (قال أمير المؤمنين: بقتلك ابن عمه عبد الله بن الحسن بن علي بغير إذنه. فهذا دليل أصرح ما يكون على الندم والتوبة وبه تسقط آراء كثير من المؤرخين في نكبة البرامكة، وحسبنا بهذا أننا كشفنا غمة تاريخية بالأدلة الناطقة والبراهين الصادقة، فاستقام بها مجرى من مجارى التاريخ كان متعرجاً ملتويا لا تطرد فيه الحوادث ولا تسترسل فيه الآراء

مصطفى جواد