مجلة الرسالة/العدد 269/حنظل وتفاح!
→ صلاح الدين وموقعة حطين | مجلة الرسالة - العدد 269 حنظل وتفاح! [[مؤلف:|]] |
الطريقة العلمية ← |
بتاريخ: 29 - 08 - 1938 |
للأستاذ عبد المنعم خلاف
سقيتني يا دنيا بكأسيك في يوم واحد! وكنت شاعرة حاذقة حين قدمت إلى هاتين الكأسين في وقت يكاد يكون واحداً؛ حتى امتزجت في مذاقي المرارة بالحلاوة. . . وكنت صديقة مخلصة ناصحة في معاملتي حينذاك
قدَّمت إلى كأس الحنظل حين توجهت معزياً إلى عش ذي أفراخ زغب طارت عنه صاحبته وبانيته: أمهم الحمامة الوديعة التي أتت بهم خمسة متلاحقين، ثم مضت عنهم وخلّت بينهم وبين أبيهم. . .
وجلست أنظر فيهم من الصغير إلى الكبير - وسنه ثلاث عشرة سنة - ثم أحادث أباهم الواجم الباسم الحمول. . . ثم أطير بخيالي فجأة إلى قبر الحمامة الولود. . . ثم أرجع إلى نفسي أختزن فيها قوتها من بيدر الحزن الرفيع الذي أمامي، لأن مادة نفسي في مجاعتها. . .
قال لي الفرخ الأصغر: أمي سافرت إلى بعيد، وسترجع، ومعها حلوى ولعب. . .
فقال الذي يليه: لا، أمي ماتت وبكيت عليها مع النسوان. قال هذا وهو يضحك، فطفرت الدموع إلى عين الأكبر وحَدَرت، فخرج من الحجرة ليخفي البكاء وخرج وراءه أبوه، ووقفت أخته على باب بيننا وبينها، وارتسمت علامات وجوم متدرجة على وجوه الأطفال بحسب أسنانهم وإدراكهم، وبقي الأصغر يضحك وأنا معه أضحك بدموع، وأرشف من الكأس المرة!
ماذا عسى الأب أن يقول لابنه الأكبر الباكي في مثل هذه الحالة ليصرف عنه البكاء؟ أيقول له إن أمك مسافرة وسترجع إليك بحلوى ولعب؟ لا يصدق. . . أيقول له: سلم لله لأن الموت آخر الحياة، وهو منجل يحصد العاهل والباهل. . . وما إلى ذلك من (أجرومية) التعازي؟ لا يفهم ذلك لأنه لم يبلغ مبلغ من تطفئه هذه الأفكار. . . إذاً فالأولى أن يتركه حتى يذهب عنه وجدان الحزن فتجف دموعه وحدها
وشعرت كأن روح الأم حضرت البيت في ذاكرة الأطفال إزاء هذه الأزمة النفسية فبكى قلبي، وتكلفت المبالغة في ملاعبة الأصغر حتى ألهيه عن أخيه وعن نفسي، وجلست برهة ثم نهضت مثقلا. . .
لو أننا نخدع في إدراك المصائب كما خدع الأصغر، أو لو أننا ندركها باردة بسيطة كما أدركها الذي يليه، أو أننا ندركها إدراك ذلك الأب الصبور الحمول العارف بقوانين الحياة، لكان في هذا نجاة من وطأتها على نفوسنا. أما أن ندركها إدراك كبير هؤلاء الأطفال من غير علة ولا تَعِلَّة وعزاء، فذلك أشد الألم، لأنه ألم المصيبة وألم الحيرة في إدراك أسبابها وعلاجها. هذه كأس حنظل. . .
وأما الأخرى فقد تناولتها من يد الدنيا في عشية ذلك اليوم نفسه في عش يبنى لفتى وفتاة. . . والمدعوون جالسون كل منهم باش يرسل نكتة أو يضحك من نكتة، وفرح الحياة يترقرق في الوجوه ترقرق الشراب في كؤوس بلورية
وكان على شفتيّ بقية من كأس الحنظل التي شربتها في الصباح فوجدت طعمها فيما قدم إلي من شراب العرس. وهنا أدركت أن دنياي شاعرة حاذقة، وأنها ابتدأت تصاحبني بصدق. وشربت كأس التفاح وأنا أجمجم بكلمات خفية كما يجمجم المجوس على الطعام. . . وكانت هذه الكلمات قصائد وصلوات تلاها في حلقي ذاك المزيج الذي ذقت فيه خلاصة صنعة الدنيا الشاعرة. . والذي تحولت قطراته إلى كلماتها الآتية:
(اشرب! اشرب! ولا تخش السكر من هذه الكأس التي مزجتها لك بيدي! فإن ما فيها من أضداد تصطرع، كفيل بأن يترك عقلك دائماً في غاية الصحو. . . اشرب ولا يحاول لسانك أن يميز بين عنصري هذا المزيج فيُبَلبَل ولا يستطيع البيان. . . اشرب وإنظرني دائماً في قرارة الكأس متجسدة عارية لعينيك. . .
اشرب واحتفظ بمذاق هذا الشراب دائماً حتى تستطيع تقدير الطعوم الأخرى. . .
اشرب وأحذر أن تحدث من يحيطون بك في مجلس العرس بما تجد في كأسك فيقولوا عنك: (هذا سكران يهذي. . .)
(طالما شربتَ من كأس الحنظل وحدها حتى سكرتَ بالألم فوقعت منك الكأس وتحطمت. . .
وطالما شربت من كأس التفاح وحدها حتى سكرت من اللذة فوقعت منك الكأس وتحطمت. . .
وقد تعودتم أن تضيفوا لفظة (السكر) إلى اللذة وحدها. ألا وإن للألم سكراً لا يقل شناعة وطيشاً وهذياناً وسفهاً عن سكر اللذة!
انظروا إلى أبي العلاء المعري! إنه عندي لا يقل إثماً عن الأعمى الآخر بشار، ولا عن أبي نواس!
لقد غرق المعري في كأس الألم وغرق الآخران في كأس اللذة ففقدتهم جميعاً. . .
لقد أتى المعري بهذيان كثير جعله يخرج عن دائرة الحياة العاملة ويعيش جامداً على هامشي أنا الحركة الدائمة العنيفة المنتظمة، يرصدني من بعد في محبسيه بعينيه المغلقتين، ويلمسني في خشونة وجهه المجدور، ويذوقني في طعامه المحدود، ويستنشق أجوائي في محبسه الضيق الخانق، ويراني عدماً وفقداً لأنه أنهى حبل النسل الذي تناهى إليه آدم. . . فهذى في كثير ولم يميز بين كثير من حقائقي وأباطيلي وحلاوتي ومرارتي وأزهاري وأشواكي، وكان الحرمان المطلق جذوة شعره وباعث سكره. . .
ولقد أتى الآخران بالهذيان المعهود لكم من سكارى اللذة الآثمة، وما زالا كذلك حتى ارتعشت يداهما وعجزتا عن حمل الكأس الفاتنة
رفع أبو العلاء الكأس طافحة بماء الحنظل لا يرى لها لوناً ولا يشم رائحة وليس له نديم. وقد طال وقوف الكأس على يديه حتى ساغت في حلقه على مرارتها، وشعشعها بالظلام الدائم الساكن في عينيه. تمر به مواكب الحياة بجليلها وحقيرها وجميلها وقبيحها فيراها من سكره بآلامه، جنازة موتي وكومات أنقاض. . . برغوثها كشحاذها يستحق الإحسان والإطلاق، وفرّوجها كشبلها يستحق الإجلال والخشية، وحشراتها وبهائمها تستحق الحياة الدائمة كإنسانها. . .
أليس هذا هذياناً كهذيان أبي نؤاس حين يرفع كأسه طافحة بماء العنب مشعشعة بنطاف دجلة وسناء الضحى ونور البدر، يصطبح ويغتبق ويعبث بحرمات الحياة في شغل عن دنيا الآلام الرفيعة والأمجاد والوصاية على مقدرات الأمم حتى (تكشفت له عن عدو في ثياب صديق) كما قال هو!
بلى! إنهما وجهان للسكر في الحياة بإدمان الشراب ذي العنصر الواحد الذي يجعل المدمن ينظرني من جانب واحد) كذلك كانت الدنيا تحدث نفسي في مجلس بناء عش جديد بعد مجلسها في العش المنهدم. ولم أشعر بأن نفسي بلغت من الفقه والحكمة إلى حد أن تأكل التفاح بشفتين عليهما مرارة الحنظل كما شعرت بها في ذلك المجلس!
ولقد صحوت بعد ذلك من السكر المطلق بالألم كما صحوت من السكر المطلق باللذة. وسآخذ بوصية دنياي الصديقة الشاعرة لأظل دائما ًيقظان صاحياً غير مخمور بنشوة ولا لوعة.
عبد المنعم خلاف