الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 269/الأصل وغيره

مجلة الرسالة/العدد 269/الأصل وغيره

بتاريخ: 29 - 08 - 1938


بقلم إبراهيم عبد القادر المازني

أراني أحد الإخوان رواية لكاتب إنجليزي معاصر اسمها (مذنبون بكرههم) وقال اقرأها. وقد اقتنيت نسخة منها، ولكني ما زلت محجما عن قراءتها وإن كان قد مضى يومان وهي على مكتبي تخايلني كلما جلست إليه. وأحسب أن في اسمها ما يصدني عنها. ولست أعني أني أكره القصص التي تتناول الخطيئات والذنوب والآثام، فقلما تخلو رواية من شيء من ذلك، بل يندر أن تخلو حياة من هذا، فإن العصمة (عليا مراتب الأنبياء) وإنما أكره ما يبدوا لي من النفاق أو المغالطة أو الجهل أو المداجاة في هذا الاسم. ولو قال إنهم أخيار أو أطهار أو طيبون بكرههم لكان أشبه بالحق. فإن رأيي أن الإنسان مطبوع على ما نسميه الشر، وليس بمفطور على ما ألفنا أن نسميه الخير وما إلى هذين من صفات قبيحة وطيبة. والذي نعده خيراً ليس أكثر من عادة أو ضرورة، ولكن الذي نقول إنه الشر أصل. وقد صدق النّواسي في قوله:

أنت يا ابن الربيع ألزمتني النس ... ك وعودتنيه، والخير عاده

وقد سألت نفسي غير مرة لو كنت، ومعي ابني - والأبناء فيما يعرف الناس ويحسون أفلاذ أكبادهم - في صحراء جرداء لا ماء فيها ولا شجر، ولم يبق معنا من الزاد إلا كسرة، ومن الماء إلا قطرة، وبرح بنا الجوع والظمأ، فماذا كنت عسى أن أصنع؟؟ أأوثره على نفسي، أم أوثر نفسي عليه؟

وآثرت الإخلاص وصدق السريرة في الجواب فقلت إن أول ما كان خليقاً أن يدور بنفسي هو أن أوثر نفسي على ابني، ولعلي حقيق إذا ثقلت وطأة الاحتمال عليّ أن أقاتله على اللقمة أو قطرة الماء. ومهما يكن من ذلك فان المحقق عندي - فيما أشعر وأعلم - هو أن الخاطر الأول يكون هكذا، أي أن تحدثني نفسي بالاستئثار دون ابني بما بقي لنا. وقد يتغلب العقل وعادة الكبح ولنظام الذي نجري عليه في حياتنا المتحضرة. فيحدث أحد أمرين مثلاً: أن يكون الباقي مما يحتمل القسمة، فاقترح اقتسامه ومن يدري؟ لعلي وأنا أكسر اللقمة الباقية أجور عليه في القسمة؛ وإذا كان الأمر لا سبيل فيه إلى مشاركة، فقد أقول لنفسي إن من قلة العقل أن أخطف الكسرة والماء فأطيل بذلك عمري ساعات، وم يبدو لنا أمل في نجدة قريبة، وأنا قد عشت أكثر مما عاش، وسيقضى كلانا نحبه فليس بضائري أن يبقى بعدي ساعات؛ وهب ناساً أدركونا وأنقذونا فان الباقي من عمري دون الذي مضى وانقضى، وهو على كل حال شيخوخة وتهدم، وأمراض وعلل، وأوصاب وعجز، فما حرصي على ذاك؟ ولكن هذا صغير ولا يزال أمامه شباب طويل وريف، فهو أولى بالحرص على الحياة والتعلق بها وأحق بذلك مني، وقد أكره أن يرى أثرتي وقبحها وشناعتها، وأخاف أن يعرف ذلك عني بوسيلة ما، فأناوله الماء وأجود عليه بالخبزة الناشفة، وأتظاهر بالرحمة، وأتكلف الإيثار وأقول له: إنك ابني وفلذة كبدي، فبقاؤك استمرار لحياتي وامتداد

وفي الدنيا عشاق مجانين غير قليلين وقد يهم الواحد منهم بالانتحار إذا ضنت عليه حبيبته بابتسامة أو أعرضت عنه في مجلس، أو أبت عليه قبلة وضمة. خذ هذا العاشق الولهان، المدله، المزدهف اللب، المشغوف القلب، وأجلسه إلى جانب حبيبته المعبودة في البرد القارس والمطر المنهمر، وأنظر ماذا يحدث؟ أتظن أنهما يتناجيان في تلك الساعة بحبهما؟؟ أتراه يشتهي حينئذ أن يقبلها أو يضمها، أو يبالي ابتسامها أو إعراضها، أو يحفل ما يكون من ذلك منها؟ بل سل نفسك أيخطر له الحب وهو ينتفض من البرد والمطر ويرعد؟؟ وقد يندفع بحكم العادة فيخلع سترته ويضعها على كتفي المحبوبة المعبودة، ولكنه لا يفعل ذلك إلا وهو كاره له، وساخط عليه، وناقم على الضرورة التي تدفعه إلى ذلك. ويزداد البرد مع طول الجلسة، ويعانيان منه ما لا طاقة لهما به، فلا يبقي لهما هم إلا في هذا وفيما يمكن أن يصنعا لاتقاء عواقبه، أو النجاة منه، ويذهب الحب وتذهب دواعي الانتحار، وتهبط قيمة ذلك كله إلى الصفر. فليت العشاق الذين يسلب الحب عقولهم، يكابدون شيئا من هذه المكاره ليعلموا أن في الوسع أن يقل احتفال المرء بابتسامة حبيبته، وتفتر الرغبة في ضمها وتقبيلها، بل إن في الوسع أن يحيا بغير هذه الحبيبة، ولا يفكر فيها، ودع عنك الانتحار من أجل قبلة أبتها عليه!

وهذه الشجاعة ماذا هي؟ إن الأصل في الإنسان الجبن لا الشجاعة، لأن غريزة المحافظة على الذات تقضي بذلك، ولكنه يتشجع، ويحتمل التعرض للمكاره أو المعاطب، ويلقي بنفسه في التهلكة، مرغما، فقد يكون الذي يفر منه شرا مما يرمي نفسه عليه، أو يكون في الجبن الهلاك فيستوي الأمران، وإذن تكون الشجاعة أولى، وأجلب لحسن السمعة وطيب الأحدوثة، ففيها حتى مع الهلاك عزاء أدبي. أو يكون الموقف من شأنه أن يورط المرء فلا يبقى مفر من الإقدام، والأمر معه. وقد يكون المرء ضعيف الخيال، أو قليل الإدراك فهو لا يحسن أن يقدر الأمور، ولا يبالغ في توهم الأخطار وتجسيدها؛ أو يكون على نقيض ذلك كبير العقل واسع الخيال، فلا يرى بأسا من الجرأة لأن فرص النجاح أو السلامة كفرص الإخفاق والتلف، أو أكثر، إلى آخر ما يمكن أن يكون باعثا للإنسان على مقاومة الحرص الطبيعي على الحياة والضن الفطري بها

ولا أعرف ما شأن غيري، ولكني أعرف نفسي على قدر ما يتيسر لي ذلك، وأعلم أني أشتهي كل ما يُشتهي في الحياة، وإذا كُنت لا أواقع كل لذة أشتهيها، أو أطلبها، أو أحلم بها، فما هذا مني عن عفة فطرية، وزهد في طباعي، فان لكل حالة من حالات الحرمان علة لا تخفي عليّ، ولا أستطيع أن أغالط نفسي فيها، وإن كنت أغالط الناس ولو سألني ربي - كما سيسألني بعد عمر طويل - لأقررت بذنوب لم أقارفها، وخطايا لم أرتكبها، وشهوات تبحث نفسي عنها، أو استعصى عليّ إرضاؤها، ولطال بي الاعتراف، والخلائق ورائي تنتظر دورها تحت الشمس المحرقة في تلك الساعة التي تذهل الأم عن ولدها، فأشفق عليهم، وأوجز وأقول إن ربي أدرى بي وأعرف بالظاهر والباطن، فلا حاجة إلى الإفاضة في الاعتراف. وإني، على الجملة، ومع تفاوت واختلاف قليلين لكما قال السمير رحمه الله:

فتراني طول عمري ... تائبا من غير عفة

فلا نجاة لنا إلا برحمة من الله ومغفرة.

إبراهيم عبد القادر المازني