الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 269/إلى وزارة المعارف

مجلة الرسالة/العدد 269/إلى وزارة المعارف

بتاريخ: 29 - 08 - 1938


كلمة حق في كتب

على أثر ما نشرناه في العدد الماضي من جواب الأستاذ أحمد أمين وتعليقنا عليه جاءتنا طائفة من المقالات والرسائل في هذا الموضوع لم نر من المفيد أن نشغل بها صفحات الرسالة فاقتصرنا منها على هذه الكلمة شاكرين لكتابها الأفاضل غيرتهم على الأدب ودفاعهم عن الحق

(المحرر)

كنا في مجلس ضم لفيفاً من الطلبة ورجال التعليم، والكل في مقتبل العمر وعنفوان الشباب، فمنهم من اجتاز مرحلة ثانوية في دراسته، ومنهم من اجتاز مراحل في تعليمه الجامعي. والحديث ذو شجون، (وللراسلة) حظها من الحديث، ولما ينشر فيها نصيبه من التعليق والمناقشة؛ وما يكاد الجمع يندفع حتى ترى القوم يتواعدون في أن للحديث صلة، وإلى الملتقى في أعداد الرسالة المقبلة

جئت بهذه الكلمة لأقول إن السبب (الذي من أجله صرف النظر عن تقرير بعض الكتب للمطالعة في مدارس المعارف المصرية) كان محل نقاش طويل في هذه الساعة القصيرة

ونحن نعيذ أنفسنا من الغرور يذهب بنا إلى الحطِّ من كفاية اللجنة التي عهد إليها اختيار كتب المطالعة. لكننا لم نر بأساً في أن نبعث برأي لفيف من الطلبة والأساتذة لا نعتقد أنهم ارتأوه أو اعتقدوه تزلفاً للزيات. فالصلة التي تصلهم بالأستاذ الزيات هي عين الصلة التي تصلهم بالأستاذ أحمد أمين، وهي صلة الأدب والذوق المشترك، هذه الصلة التي تدفع كل واحد إلى إبداء رأي هو صدى صادق للكيفية التي أدرك بها الإنتاج الأدبي لأي كاتب أو شاعر أو صاحب فَنٌ

ومن الطبيعي أن نتحسس ذلك الضعف الأخلاقي لو كان في كتابين عالميين قُدَّر لهما من سعة الانتشار ما لم يقدر لغيرهما من الكتب. لقد كان الأستاذ الزيات أميناً في نقل هذين الكتابين إلى اللغة العربية، أتراه حور من مضمونهما بحيث ترى الفضيلة في (رفائيل) جريمة، والعاطفة في (آلام فرتر) ضعفاً أخلاقياً؟

لست أدفع عن المترجم تهمة هو أبعد الناس عنها فقد كان أميناً في ترجمته، ولكنني أدفعه عن مؤلفي هذين الكتابين وهما على ما يعلم الناس من أعلام فلاسفة الغرب وفحول شعرائهم. ونحن لا نرى حاجة إلى أن نلجأ للعبارة نصوغها دفاعاً عنهما فالكتابان بين أيدينا ووقائعهما في ذاكرة الكثيرين منا، ولم تستطع أن تلمح الأثر الذي من أجله صرف النظر عن هذه الكتب

كنا وكان غيرنا في سنِّ الصبا يوم صدر (رفائيل)، وأذكر جيداً أن هذا الكتاب ما كان يبقى في يد القارئ أكثر من يومين اثنين لقلة النسخ وكثرة الطلاب المتلهفين على قراءته.

ولو لم يكن رفائيل كتابا فيه عاطفة نبيلة وشعور حي لكفى أن يكون في لغتنا قطعة فنية. وأشهد أن لأسلوب الترجمة الفنية التي ظهر بها هذا الكتاب هذا أكبر الفضل في تحسين أسلوبنا الإنشائي يوم كنا نجيل البصر في الكتب على الرفوف فلا نرى غير ركام من ألفاظ وعبارات يمجها الذوق ولا يلازمها الحسن أو شبهه.

وإلى القارئ آلام فرتر! فهل كان (جوت) الفيلسوف مخادعاً يوم قدَّم كتابه إلى العالم وقال في مقدمته (إنك لن تستطيع وأنت تقرأه أن تحبس نفسك عن الإعجاب بفكره وقوة حسِّه، ولا قلبك عن الولوع بخلقه وشرف نفسه، ولا عينك عن البكاء لمثار جده وبؤسه!)

اللهم إنا لم نجد في الكتاب غير ما قدم المؤلف به كتابه، ففيه الشرف الصميم وفيه الخلق الكريم وفيه الإخلاص والإيثار والصبر والجلد.

وما أرى أن الدكتور طه حسين كان مدفوعاً للثناء يوم قال في مقدمة الكتاب (لقد وفق صديقنا الزيات حين نقل إلى اللغة العربية آلام فرتر للشاعر الفيلسوف (جوت). وفق إلى حسن الاختيار فما كان لشعب يُجل نفسه ويريد أن يعد بين الأمم الحية أن يجهل شاعراً فيلسوفاً كجوت قد أثر نبوغه الفني والفلسفي في الحياة العلمية والنفسية للعالم الحديث أشد تأثير. وما كان لهذا الشعب أن يجهل كتاباً كآلام فرتر قد عرفه الناس جميعاً في أوربا فأحبوه وكلفوا به، حتى أنك لا ترى فتى ولا فتاة في السادسة عشر من العمر إلا قرأه وقرأه وحاول أن يتفهم معانيه ويتأسى بما فيه).

لا نظن الدكتور طه حسين منع هذا الكتاب عن أولاده أو نصح لهم بالحيطة في قراءته ولا نشك في أن رجال المعارف بلا استثناء يزينون مكتباتهم بهذا الكتاب العبقري الخالد ويسرهم أن يروه في أيديهم بنيهم وبناتهم بقيت مسألة هي مدار البحث ويجب ألا تعتبر كلمتي فيها فضولاً. فأن لمصر مكانتها في العالم العربي، ولثقافتها المكان المرموق في نظر طلاب العلم والأدب. فالكتاب الذي يرى أئمة الأدب في مصر أنه صالح للتداول يصبح هذا الرأي كورقة النقد تصرف في أي مكان. فهل من الحق أن كتاب (رفائيل) وكتاب (آلام فرتر) لهما أثرهما في الأخلاق من (ناحية عكسية؟). الطالب يجيبك: لا، والأستاذ لا يمنع أن يكون هذان الكتابان في صدر مكتبه وبين أهله وأولاده

أذكر أن (فرانس بيكون) قال في الكتب: (إن من الكتب ما يذاق، ومنها ما يبلع ويزدرد، ومنها ما يمضغ ويهضم ويتمثل) فكم في مكاتبنا من تلك الكتب التي تذاق وتبلع وتمضغ على درجاتها؛ اللهم إني إذا أجهدت نفسي وبحثت مع غيري عن الكتب التي تضمنتها مكاتب الكثيرين من طلاب المعاهد في العالم العربي لم أعد إلا وفي قلبي طعنة الأسى والأسف لهذه المختارات والمنتخبات يعودون إليها بين الحين والحين

إذا كان رفائيل وفرتر مفسدين للأخلاق فماذا يقال في آلاف الكتب البوليسية والروايات الخليعة والمجلات الساقطة التي تغص بها مئات المكاتب في القاهرة والقدس وبيروت ودمشق وبغداد؟ إذا كان في هذه الكتب انتحار فلماذا لا نمنع الصحف عن أعين الطلاب وفيها عشرات الحوادث من هذا النوع في كل يوم؟

لو لم تقرر اللجان كتاباً من الكتب واكتفت وذلك بأن تفرض رقابة على وسائل الإنتاج الثقافية لكان ذلك خيراً. أما أن تترك الأدب الرخو الخليع المكشوف يطغى على أكبر جزء من تفكير الشباب ثم تمنع أو لا تحبذ تقرير كتابين هما درة الكتب لأعلام الكتاب فهذا ما تؤاخذ عليه

(فلسطين)

علي كمال