مجلة الرسالة/العدد 268/تفريع على البقية
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 268 تفريع على البقية [[مؤلف:|]] |
مائة صورة من الحياة ← |
بتاريخ: 22 - 08 - 1938 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
في أوربا تقل قيود المرأة وتقل قيود الفنان، ولكننا يندر أن نرى امرأة ممن عاشرن الأدباء ورجال الفنون على شرط الجمال الأوفى عند أولئك الأدباء والفنانين، وهم كما نعلم نقاد الجمال وخلاقو المقاييس والآراء فيه.
وقد رأينا صور النساء اللواتي عاشرن بيرون وجيتي وداننزيو، وهم قبل كل شيء من طبقة النبلاء أو يعيشون في تلك الطبقة ويتنقلون حياتهم بين الأمراء وأميرات، وهم بعد هذا شعراء (عالميون) استفاضت شهرتهم في البلاد الأوربية وغير الأوربية، وهم بعد هذا أرفع أمثالهم ذوقاً وأدباً وقدرة على الانتقاء صنوف الجمال، ومنهم من لعب بالمال لعبا وساح في الأرض وهام بالنساء.
ومع هذا يندر كما قلنا أن تجد بين حبائبهم ومواصفاتهم من هي على شرط الجمال الأوفى عندهم وعند ممن يشابهونهم ويتوسلون بأشباه وسائلهم.
وسبب ذلك معروف لا ينبغي أن نستغربه ولا أن نحار في تعليله، فان الدواعي التي تدعو الرجال إلى المرأة أو تدعو المرأة إلى الرجل كثيرة غير الجمال في صفاته العليا، فمنها الذكاء، فقد تكون المرأة ذكية وهي قليلة الحظ من الجمال، أو غبية وهي أجمل من ترى العيون؛ ومنها العطف، فقد ينجذب الرجل إلى المرأة، العطوف وينفر من المرأة الشموس وهي سيدة النساء في جمال الوجوه والأجسام؛ ومنها المركز الاجتماعي، ومنها الرغبة الجنسية، ومنها الغرابة التي تستهوي الرجال حين لا تستهويهم المحاسن والأخلاق؛ ومنها التنافس على الغلب كما يتنافس الفرسان على قصبة وهي من سقط المتاع.
فإذا وصف الشعراء امرأة أو أحبوها فليس باللازم أن تكون هذه المرأة طرازهم الأعلى في محاسن النساء وشرائط الجمال بله الطراز الذي يتفق عليه جميع الناس، وتتلاقى عنده جميع الآراء، وتتوافى لديه جميع الفلسفات. وإذا قلنا إن الجسم الجميل هو الجسم الذي لا فضول فيه والذي يحمل كل عضو من أعضائه نفسه غير محمول على سواه، ثم رأينا ألف امرأة على غير هذه الصفة ممن أحبهم ملوك الذوق وأساتذة الفنون فليس ذلك بمانع صحة التعريف ولا بناقض صواب الرأي، لان (ملوك الذوق وأساتذة الفنون هنا) كالقاضي خارج الجلسة، أو كالقاضي الذي بينه وبين المدعين قرابة واتصال.
وهذا بين الأوروبيين على ما عندهم من حرية وثقافة ذهنية ورياضة بدنية وعلوم صحية ومعارض يومية وتاريخية، فكيف بأعرابي في البادية يقولها كلمة عائرة ولعله لا يعني ما يقول!!.
قلنا في مقالنا السابق (بقية المذهب):
(لقد وصف بعض الأعراب نساء (محبوبات) فاستملحوا الضخامة ومدحوا الكسل وبطأ الحراك، وافتتن أميرهم بعذارى قال في وصفهن ما يقال في وصف الغيلان:
وظل العذارى يرتمين بلحمها ... وشحم كهداب الدمقس المفتل
نعوذ بالله)
وكتب (القارئ) الفاضل في الرسالة يقول أن امرأ القيس يستحسن في المرأة ما يستحسنه الأستاذ العقاد النقاد ويستقبح ما يستقبحه وهو يقول في معلقته:
مهفهفة بيضاء غير مفاضة ... ترائبها مصقولة كالسجنجل
. . . يعني امرأة دقيقة الخصر ضامرة البطن غير عظيمة البطن ولا مسترخية، وصدرها براق اللون متلألئ الصفاء تلألؤ المرآة.
فأمير الأعراب ونائب الأمة في دار الندوة الأستاذ العقاد في قضيتهما في الحسان سيان. . .)
فأحب أن يذكر (القارئ) الفاضل أن امرأ القيس قال أيضاً:
إذا ما بكى من خلفها انصرفت له ... بشق. . . . . . إلى آخر البيت
وهذا ما ليس يقال في امرأة على ما وصف في البيت الذي استشهد به
وقال أيضاً:
إذا قلت هاتي نوليني تمايلت ... علىَّ هضيم الكشح ريا المخلخل
وامتلاء الساق مع دقة الخصر ليس من الصفات المنتقاة في نماذج الجمال.
ثم نقض قوله حين عاد فقال، إن كان عاد أو إن كان قال:
وكشح لطيف كالجديل مخصّر ... وساق كأنبوب السقي المذلل
ثم قال: وتضحى فتيت المسك فوق فراشها ... تؤم الضحى لم تنتطق عن تفضل
فهو يستحسن الكسل والتراخي، وكثرة النوم، والترامي بالشحم واللحم وليس ذاك مما يستحسن في رشيقات النساء
وقال امرئ القيس في غير هذه القصيدة:
إذا ما الضجيع ابتزها من ثيابها ... تميل عليه هونة غير مجبال
كحقف النقا يمشي الوليدان فوقه ... بما احتسبا من لين مس وتسهال
وأين هذا من الجسم الذي لا فضول فيه؟
فلو أن (القارئ) الفاضل الذكر هذا وما جرى مجراه من الشعر الذي قاله الشاعر أو نسب إليه لعلم أن صاحبنا في عالم غير عالم التعريف بالجمال المثالي أو المذاهب الفنية فيه، بمعزل عن أهواء الفنانين، ولعلم كذلك لماذا وضعنا كلمة (محبوبات) بين قوسين قبل أن نسمع منه مثل هذا الاعتراض، فأن وصف الرجل لامرأة يحبها ويستمتع بها غير وصف الفنان للجمال الخالص أو لصفاته التي تبلغ مبلغ الكمال، والتي تدركها القرائح معنى من المعاني كمعنى البيت والصورة والنشيد والتمثال.
ومصداق ذلك أن كاتب هذه السطور وصف امرأة محبوبة في رواية سارة:
) هي جميلة لا مراء. ليست أجمل من رأى همام في حياته، ولا أجمل من رأى في أيام فتنته وشغفه، ولكنها جميلة جمالاً لا يختلط بغيره في ملامح النساء. فلو عمدت إلى ترتيب ألف امرأة هي منهن لنظمتهن واحدة بعد واحدة في مراتب الجمال المألوف، ونحّيت سارة عن الصف وحدها. . . فمها فم الطفل الرضيع لولا ثنايا تخجل العقد النضيد في تناسق وانتظام، ولها ذقن كطرف الكمثري الصغيرة، واستدارة وجه، وبضاضة جسم لا تفترقان عن سمات الطفولة في لمحة الناظر؛ وبين وجهها النظير وجسمها الغضير جيد كأنه الحلية الفنية سبكت لتنسجم بينهما وفاقاُ لتمام الحسن من كليهما. . . وتكفل بها مدير معهد من معاهد التجميل الحديث لخفف شيئا من قوامها الرواح بين الربعة والطويل قبل أن يبرزها في معرض الرقص والرشاقة. ولو تكفل بها قهرمان القصر عند كسرى أو عبد الحميد لما ضاره أن يزيد فيها حيث ينقص زميله الحديث قبل أن يزفها إلى الشاهنشاه)
فالمرأة المحبوبة شيء والمرأة الموصوفة على مثال الجمال في معانيه المجردة شيء آخر.
وامرئ القيس لم يحبب قط امرأة على مثال الجمال، وإن كان قد وصف من النساء شمائل محمودة عند من ينظرون إلى ذلك المثال. ولعله فطن لهذه الشمائل بذوق الحاضرة وذوق الإمارة، لا بذوق الأعراب في عماية الجاهلية. ولو أنه تعمد أن يرسم للأنوثة مثالا موافقاً لمعاني الجمال بمعزل عن المتعة أو الرغبة الجنسية لأعياه المطلب، لتخلف الأوان وندرة الأسباب.
سألني سائل: أولا تكون المرأة إذن جميلة على شرط الفن والرياضة الحديثة إلا أن يكون وزنها قنطاراً أو دون القنطار؟
وجاوبنا الذي نطمئن به الكثيرين على عجل: كلا! قد تكون ووزنها قنطاران، إذا تهيأ لامرأة أن تبلغ من الطول والجسامة ما تزن به القنطارين في غير فضول واسترخاء.
وستتلو هذا المقال (حاشية على التفريع) نتم فيها ما ينبغي إتمامه من هذا البحث الذي لا فضول فيه!
عباس محمود العقاد