مجلة الرسالة/العدد 267/فتاوى شرعية
→ التاريخ في سير أبطاله | مجلة الرسالة - العدد 267 فتاوى شرعية [[مؤلف:|]] |
رسالة الشعر ← |
بتاريخ: 15 - 08 - 1938 |
معضلات العصر
للأستاذ الجليل محمد بن الحسن الحجوي
وزير معارف الحكومة المغربية
- 2 -
نص الجواب عن الأسئلة الأشفودرية
جواب السؤال الأول:
الحمد لله الفتاح العليم، والصلاة والسلام على النبي الكريم، وآله وصحبه المستحقين لكل تكريم. أما بعد فأما مسألة إلزام الملك أحمد زوغو سدد الله له الخطا، وأبعد عن الخطا، موظفيه وتلاميذ المدارس لبس البرنيطة (القبَّعة) - فاعملوا أنه لم يأت في القرآن العظيم ولا في الأحاديث الصحاح التي وقفت عليها أن النبي ﷺ ألزم من أسلم من أهل الكتاب أو المشركين، ولا الخلفاء الراشدون بعده، تغيير الزي أو جعلوا للمسلم لباساً خاصاً يتميز به. قال الله تعالى: (قُل من حرَّم زينةَ الله التي أخرج لِعباده والطيِّباتِ من الرزق)، وزينة الله ما يتزين به عباده من اللباس على اختلاف أنواعه. وقد استثنت السنة من ذلك الحرير والذهب، فان لبسهما حرام على ذكور الأمة دون نسائها. وقد أسلم عدي بن حاتم الطائي وكان نصرانيِّاً حاملاً لصليب فأمره النبي ﷺ بطرحه ولم يصح أنه أمره بتغيير اللباس ولا أمره غيره بذلك. وفي الصحيح: أن النبي ﷺ لبس جبَّة روميةً ضيقةَ الكمين في السفر. وما جاز لبسه في السفر جاز في الحضر من باب لا فرق. وقال عليه السلام: (كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة) أخرجه البخاري تعليقاً ووصله أبو داود الطيالسي والحارث بن أبي أسامة في مسنديهما ولم يقع الاستثناء في رواية الطيالسي وسقط وتصدقوا من رواية الحارث وزاد في آخره: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عباده. وأخرجه ابن أبي الدنيا بتمامه في كتاب الشكر. وإبيان البخاري بصيغة الجزم وهي قال دليل على قوة إسناده، بل على صحته كما هو مصطلحه في المعلقات من صحيحه. وعلق البخاري من صيغة الجزم أيضاً عن ابن عباس موقوفاً عليه: (كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان سرف أو مخيلة): وقد وصله ابن أبي شيبة في المصنف. نعم استثنت السنة أيضاً ما كان من باب التشبه بالكفار، فقد أخرج الطبراني في الأوسط بسند لا بأس به عن علي كرَّم الله وجهه مرفوعاً: (إياكم ولبوس الرهبان فان من تزيا بهم أو تشبه فليس مني) فاتضح لكم ما استثني من الآية وما بقي فيها على العموم. وأعلم أن التشبه بالكفار في اللباس سواء للبدن أو الرأس أو الرجل فيه نوعان:
النوع الأول أن يَلبس لباساً خاصاً بالرهبان دالا على رتبة من رتب الرهبنة وكان بحيث أن من لبسه يدل حاله على أنه ارتدّ عن الإسلام ودخل في الكفر. هذا هو الذي يترتب عليه الكفر لأنه دليل على تغيير الاعتقاد الديني وتحوله إلى معتقد الرهبان؛ وهذا هو المعنيُّ بحديث عَليٍّ السابق؛ ولذلك قال عليه السلام: فليس منّي. وفي هذا النوع يقول الشيخ خليل المالكي في مختصره: الردة كفر المسلم بصريح أو لفظ يقتضيه أو فعل يتضمنه كإلقاء مصحف بقذر وشد زُنّار قال. بناني في حاشيته: الزنار ثوب ذو خيوط ملونة يشده الكافر في وسطه يتميز به عن المسلم. قال والمراد به ملبوس الكفار الخاص بهم قال ومَحل هذا إن فعل ذلك محبة في ذلك الزيّ وميلاً لأهله؛ وأما إن فعله هزواً ولعباً فهو محرم، إلا أنه لا ينتهي لحد الكفر كما قال ابن مرزوق ا. هـ. ا. فالردة عند المالكية متعلقة بتغيير الاعتقاد الإسلامي بناء على أن الإيمان محله القلب؛ وكذلك الكفر فلا يحكم بالردّة إلا إذا صدر عن المرتد قول يصرح بذلك أو فعل يقتضيه اقتضاء واضحاً كشد الزنار لقوله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله) فالآية واضحة الدلالة على أن الكفر والإيمان مناطهما الاعتقاد بالقلب، فكل ما دل على ترك معتقد المسلمين دلالة صريحة فهو كفر كنبذ أحكام الإرث والزواج والطلاق وكل ما علم من الدين بالضرورة، وكل ما لم يصل إلى ذلك فلا. واعلم أن الحكم على المسلم بالردَّة حكم بإخراجه من جماعة المسلمين وحكم بإراقة دمه، ولا أخطر من هذا الأمر في الإسلام الذي يحرص على تنمية عدد المسلمين وليس من شأنه أن يطردهم لأدنى شبهة وهم يذكرون الله ويعبدونه، فان الله يقول: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) الآية ويقول: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله) الآية وننبه هنا إلى أن متأخري السادة الحنفية حكموا بالكفر في عدة فروع بأدنى شبهة وخالفوا مبدأ إمامهم المبني على التثبت والأخذ بحديث: إدرأوا الحدود بالشبهات. وتوسع في درء الحد بالشبهة إلى أقصى حد؛ ولهذا أنكر عليهم الإمام ابن الهمام منهم، فكان يترك الفتوى بما رأوه ويفتي بغيره. ولنكتف بهذا القدر تجنباً من الدخول في معمعة مذهبية غير مرغوب فيها
النوع الثاني من التشبه كان خفيفاً لم يصل إلى حد الكفر بحيث لا يدل دلالة واضحة على تغير اعتقاد المسلم كحلق اللحا، ولبس لباس غير زنار، وسدل شعر الرأس. وفي هذا ورد حديث البخاري عن ابن عباس: (كان النبي ﷺ يحب موافقة أهل الكتاب مما لم يؤمر فيه؛ وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان المشركون يفرقون، رؤوسهم فسدل النبي ﷺ ناصيته ثم فرق بعد) يدلنا هذا الحديث على أن الأمر العادي إن وقع السكوت عنه في الشريعة ولم ينزل فيه وحي كان يحب موافقة أهل الكتاب تأليفاً لهم وطمعاً في اجتذابهم إلى الإسلام، أم لأنهم أهل شرع سماوي بخلاف كفار العرب الوثنيين، ثم لما أيس منهم صار لا يوافقهم ففرق شعره. وكان الصحابة بعده مخيرين من يفرق منهم ومن يسدل إذ ليس هذا من قبيل التعبد بدليل قوله فيما لم يؤمر فيه، وعلى هذا فلا نسخ في الحديث إذ لا تعبُّد فيما يظهر، وبعيد كل البعد أن تكون الأحكام الإلهية تبعاً للأحوال السياسية، والوحي ينزل: هذا وليس كل ما فعله الكتابي أو المجوسي يجب علينا مخالفته فيه. كلا. فهذا عمر بن الخطاب أحدث التاريخ في الرسائل الرسمية ودون الدواوين وكتبها بلغات أجنبية ونظم البريد وفعل غير ذلك مما يفعله الروم والفرس ولنا فيه فائدة تعم مصلحتها. وعلى هذا فكل ما لنا فيه فائدة ومصلحة عامة كلباس الجند وإحداث الأنظمة المحكمة وتقريب المواصلات وتعجيل الأخبار كالتليفون والبرق وغير ذلك مما لا يحصى من الأمور الصحية والطبية ونظام الجندية واقتناء آخر طرز من الأسلحة والطائرات الجوية وغير ذلك، فكل ذلك لا معنى للطعن على من أخذ به أو الانتقاد بالتشبه عليه أو نسبته لفعل بدعة دينية. فالتشبه الذي نهينا عنه له حدٌ محدود وقرينة الحال تدل على ذلك؛ وهو كل ما كان راجعاً إلى تغيير الأمور التعبدية أو إذهاب الشعائر القومية التي تفني بذهابها ذاتية الأمة في ذاتية أمم أخرى مما يمس جوهر الإسلام وأبهته ويحط من قدره. وإذا نظرنا إلى تغيير الزِّي بلبس البرنيطة الذي هو غير مفيد للإسلام في شيء وعرضناها على المعنى المقصود وجدناها ليست من النوع الأول قطعاً الموجب للردة، إذ ليست خاصة بأهِل الكفر من الرهبان؛ وإنما هي من النوع الثاني لما فيها من محو شعار القومية، فغاية الأمر أن تكون محرمة أو مكروهة. وأما حديث أبي داود والترمذي مرفوعاً: فرق ما بيننا وبين المشركين العمائم على القلانس، فلا تنهض به حجة لقول الترمذي: إن إسناده ليس بالقائم وفيه رجلان مجهولان. ثم إن البرنيطة بالنسبة إلى موظفي ألبانيا قد تكون جائزة في حق من هو فقير منهم بحيث إذا عزل أصبح يتكفف الناس وله عيال، وهذا وإن لم يصل لحد الضرورة المبيحة كأكل الميتة لكنه محتاج إلى ذلك والحاجة في المذهب المالكي ملحقة بالضرورة. وقد أفتى ابن مرزوق: أن من لبس الزُّنار الذي هو موجب للردة مضطراً كأسير عندهم فلا حرمة عليه فضلا عن التكفير؛ نقله بناني في الحاشية وسُلِّم له؛ كما أفتى بأن من لبس الزنار هزلاً ولعباً لا يكفر؛ وإنما يكون فعل حراماً. أما أغنياء الموظفين الذين ألزموا بلبسها وهم غير محتاجين للوَظيفة فهؤلاء قد يقال تكون في حقهم محرمة أو مكروهة، ولا ردة تلزمهم في ذلك ما دام الإيمان ثابتاً في قلوبهم. أما من تورع عنها وزهد في وظيفته لا يكون فيه حرَّاً حتى في لباسه فذلك أحسن
وإني على علم من أن بلدكم هي الدولة الإسلامية الوحيدة في أوربا ويتعادل فيها عدد المسلمين مع غيرهم. فلو أننا كلفناهم بتقديم استقالتهم جميعاً احتجاجاً على عدم رضاهم بتغيير زيهم الذي هو شعار قوميتهم التي تتعين المحافظة عليها، لأخذ وظائفهم غير المسلمين ودال الأمر إلى تمكين غيرهم من التصرف في مصالحهم بما قد يكون مضراً بهم وبدينهم. والقاعدة الشرعية إذا اضطر المسلم إلى أحد الضررين وجب اختيار أخفهما. وعلى هذا فلا تحرم حتى على أغنياء الموظفين ولا على من استعملها في بلد غير إسلامي قصد الستر وأمن المكر. أما المسلم الذي يلبسها اختياراً في بلد إسلامي فلا شك في الحرمة لما فيه من التشبه وإهانة القومية وتفريق جمع الإسلام وإباحة عرضه للطاغين
نعم لو فرضنا أن الموظفين المسلمين لا يستغني عنهم، وأن الملك يضطر عند تقديم استقالتهم جميعاً إلى العدول عن أمره بلبس البرنيطة وجب عليهم جميعاً تقديم استقالتهم، ووجب على غيرهم ألا يقبل أي وظيفة منها إلا بعد الرجوع في الأمر المذكور؛ والوسيلة تعطي حكم مقصدها؛ وأظن أن هذا عندكم غير متيسر، بل إن الأفكار (الكمالية) فعلت فعلها واحتلت كثيراً من الأدمغة الألبانية حتى تخطتها إلى علية القوم وسراتهم
لذلك لا يسعنا إلا أن نفتيكم بامتثال أمر الملك المؤيد، وننصحكم بالعدول عن كل حركة يخاف منها على الأمن في مملكة صغيرة فتية محاطة بالمطامع نرجو لها النمو والنجاح. فإياكم إياكم الخلاف ما أمكن. وعليكم طاعة السلطان إن كانت في المعروف، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. لكن للضرورة أحكام. وطاعة السلطان واجبة كطاعة الوالدين التي جعل لها الحق سبحانه نهاية وآخرة في قوله: (وإن جاهداك على أن تُشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما)
أما تلاميذ المدارس الذين ألزموا ألا يقبلوا في مدارس الحكومة إلا بالقبعة (البرنيطة). فأما من كان منهم دون بلوغ فغير مخاطب بتكفير ولا بتحريم وإنما المخاطب بذلك وليّه. وأما من كان بالغاً عاقلاً فان مصلحة تعليمه مقدمة على مفسدة تغيير زي قوميته في نظري. ولا داء أدوأ من الجهل للبالغ وغير البالغ. يا إخواني إن هذه السياسة العميقة التي تشدَّ إزرها الأحوال والأفكار المحدِّثة تسوَّغ لي أن أتنبأ لكم والأسف ملء جوانحي بأن البرنيطة عما قريب ستصير لكم اللباس القومي والشعار الألباني قبل انقراض الجيل الحاضر. وا أسفاه! إن اللباس العربي الذي كان يلبسه النبي ﷺ وأصحابه الذين فتحوا أكثر العالم في مدة جيل واحد وهذبوا وعلموا ومدنوا ما فتحوا - قد قضت عليه أزياء الفرس والروم، بل حتى أزياء الرهبنة، فأن القنباز عندنا قريب من سترة الرهبان، وهكذا الطربوش النمسوي الذي عممَّ الممالك الإسلامية، والجبدور الذي يوجد في أكثر بلاد الإسلام؛ حتى النعال، كل ذلك نسخ اللباس العربي ولم يبق منه إلا العمامة والقلنسوة. وهذه البقية الباقية من الزي الشرقي والشعار الإسلامي قد أخذت الأفكار الكمالية تكتسحها وتعفي أثرها، ولله في خلقه شؤون. وأرجو أن تكونوا قد أخذتم أيضاً بالتغييرات والإصلاحيات الحقيقية المفيدة التي أدخلها الكماليون على بلادهم لتذهب الحسنات بالسيئات. ذلك كتنظيم الجند على الطراز الحديث، وجعل أسطول جوي عتيد يقاوم كل طمع في بلادكم، وكتنظيم المالية بالضبط الحقيقي، وتوحيد الفكرة الألبانية في كل ميادين الحياة؛ واستخراج كنوز الأرض لكفايتها أهلها عامة، وتوحيد طرق التعليم والتهذيب لتجمع الأمة شملها وتكون على قلب رجل واحد؛ وترقية الشؤون الاقتصادية، إلى غير ذلك
إخواني إن الإسلام ركنه الأعظم فكرة واعتقاد متين مؤسس على أصول الوحي والعقل القطعيين فلا تزعزعه الكوارث ولا يتأثر بالتغيرات
والذي أوصيكم به وأحضكم عليه والذي تبذلون دونه كل غال ورخيص، ونفس ونفيس، هو القرآن الذي هو الحبل المتين، والركن المكين، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والسنة النبوية الصحيحة، مَرّنوا أولادكم على التمسك بهما وحفظهما والاحتفاظ بهما، والعمل بما فيهما، فذلك برنامج الفتح الإلهي، والتقدم الحقيقي. عضُّوا عليهما بالنواجذ ولا يضر المسلم أن يتقمص في أي ثوب كان إذا كان متمسكا بهما؛ ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. عليكم إخواني بالتعليم. . . التعليم. . . التعليم. . . تعليم العلوم القرآنية الخالية من شوائب الشذوذ، والعلوم الحديثة الصحيحة واتباع طريق السلف الصالح وخير القرون في كل أمر ديني. وعليكم بالجد والاجتهاد في اقتناء العلوم الدنيوية على اختلافها كيفما كانت ومن أيِّ جهة جاءت، والبلوغ في الاقتصاديات لأعلى المجد واتباع أحدث الطرق فيها. وروح النجاح في ذلك كله هي الأخلاق الإسلامية المؤسسة على السيرة النبوية وتاريخ الإسلام المجيد الذي هو الإكسير الصحيح الذي يقلب الأمم الخاملة إلى أمم راقية ناهضة؛ والله يؤيد حكومتكم ويجمع عليها كلمتكم ويؤلف بين قلوبكم وبين قلب كل الباقين كيفما كان مذهبه ويبعد عنكم أحقاد التفرقة السياسية بمنه وفضله آمين
(يتبع)
محمد بن الحسن الحجوي