مجلة الرسالة/العدد 267/ذكريات مدرسية
→ هذه داري وهذا وطني | مجلة الرسالة - العدد 267 ذكريات مدرسية [[مؤلف:|]] |
حرمة البيان ← |
بتاريخ: 15 - 08 - 1938 |
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
سأقتصر في هذا الفصل على طائفة من الذكريات تخيرتها من عهدين - عهد كنت فيه تلميذاً وعهد تال كنت فيه مدرساً وسأكتفي بالمعالم الكبرى والخطوط الرئيسية التي تغنى عن التفاصيل، ولست أرمي إلى غاية من هذا التصوير سوى ما يمكن أن يستفاد من مقابلة عهد بعهد ومواجهة ماض بحاضر. فمثلاً يمكن بسهولة أن تتصوروا حال التعليم الابتدائي إذا قلت إن تلميذاً كان معنا في المدرسة نال الشهادة الابتدائية فعين في السنة التالية مدرساً لنا في السنة الرابعة التي تعد لنيل الشهادة الابتدائية. وأبلغ من هذا في الدلالة أنه كان يدرس لنا ما كان يسمى (الأشياء) وهي عبارة عن معارف عامة وكان تدريسها يومئذ باللغة الإنجليزية. وأرسم خطاً آخر تتم به الصورة فأقول إن ناظرنا كان يقول عن نفسه إنه جاهل جاهل ولكنه إداري إداري، وكان حديث عهد برتبة البيكوية فكانت عبارة (يا سعادة البك) تغفر كل ذنب وتمحو كل خطيئة. وليس أقدر من الصغار على التفطن إلى مواطن الضعف في الكبار، وليس أعرف بالمعلم من تلاميذه. وحسبه كشفاً لستره أن مئات من العيون تفحصه كلما بدا لها، وأن مئات من الألسنة الثرثارة لا تنفك تلغط بما أدركته رؤوس أصحابها الصغيرة. وأذكر أني كنت ألاعب تلاميذاً فشتمني فضربته بسلسلة مفاتيح فقطعت جلد وجهه، فذهب يعدو إلى الناظر والدم يسيل من جرحه وقال له وهو يبكي: (يا أفندي ابن عبد القادر ضربني) فأسرها الناظر وبعث يطلبني وسألني لماذا فعلت ذلك؟ فقلت: (يا سعادة البك إنه شتم أبي) وأنكر المضروب وقال: (لا والله يا أفندي) وتكرر من المضروب نعت الناظر بالأفندي وتلقيبي له بسعادة البك، فضاق صدر الناظر جداً وأهوى على المضروب بخيزرانته وهو يقول: (أفندي في عينك قليل الحيا) ولا أحتاج أن أقول إني نجوت مما كنت أستحقه من العقاب وإن الفضل في نجاتي إنما كان لكوني لم أنس (يا سعادة البك) وأن خصمي نسيها
وأوفدني إليه التلاميذ يوماً لأرجو منه أن يسمح لنا بزيارة حديقة الحيوانات مجاناً فدخلت عليه وسلمت ومهدت بيا سعادة البك ورفعت إليه رجاء الفرقة فدق صدره بكفه وقال: (حوانات حوانات إيه يا ابني. . . أسد فك السلاسل نهش عيل منكم نبقى نقول يا مين؟) فلم نزر حديقة الحيوانات كما لم يزرها ناظرنا الذي كان يتوهم أن الأسود فيها تربط بالسلاسل
ودخل علينا مرة ونحن نتلقى درساً في الحساب فوجد المدرس يملي علينا مسألة خلاصتها أن فلاناً أقرض فلاناً مبلغاً من المال بفائدة كذا في المائة، فاستوقفه الناظر وقال لنا أن المسألة غلط، وطلب منا أن نبين موضع الغلط فيها، ويظهر أن المعلم كان أعرف منا بالناظر فقد اكتفى بالابتسام، ورحنا نجيب بما يخطر لنا والناظر يرفض كل جواب. وأخيراً التفت إلى المدرس وقال له: (يا فلان أفندي المسألة كذب في كذب فأرجو ألا تعلم الأولاد الكذب مرة أخرى) وخرج
وكان في كل مدرسة فرقة للعب الكرة ولكن أعضاء هذه الفرقة لم يكونوا جميعاً من التلاميذ، فأني أذكر أن المدرسة جمعت من كل تلميذ منا خمسة قروش لتدفع للوزارة (المصروفات المدرسية لرجل ضخم عملاق حليق اللحية والشاربين أحمر الوجه ليلعب مع الفرقة في المباريات مع المدارس الحكومية الأخرى، وكان هذا العملاق المخيف يجيء إلى المدرسة وقت الظهر ويخرج منها بعد الغداء، وكانت مائدته تزدان بأنواع من المخلل يؤتى له بها خاصة. وكان إذا أحب أن يبقى في المدرسة نصف ساعة أو ساعة لا يجلس إلا في غرفة المدرسين وهناك تقدم له القهوة والسجاير فيشكر ذلك بهزة من رأسه، والساق على الساق والسيجارة في فمه انتظاراً لمن ينهض إليه ليشعلها له من المدرسين. وكنا نحن نتزاحم على الباب والنوافذ لنفوز برؤية هذا المنظر
أظن هذه الخطوط كافية لرسم صورة واضحة لمدرستنا الابتدائية الحكومية في ذلك العهد. والآن أنتقل إلى طائفة أخرى من الصور للمدارس الثانوية
كان التعليم الثانوي انتقالاً بأدق المعاني فقد صار كل ما في المدرسة إنجليزياً - الناظر والمدرسون والتعليم - ما عدا اللغة العربية. وأنا إلى هذه اللحظة لا أعرف كيف كنت أنجح في الامتحانات، وأكبر ظني أنهم كانوا يترفقون بنا ويعطفون علينا ويتساهلون معنا ويتركوننا ننجح على سبيل الاستثناء. وأدع غير وأقتصر على نفسي فإني أعرف بها، فأقول إني ما استطعت قط أن أفهم علوم الرياضة أو أن أقدر فيها على شيء، ومع ذلك كنت أنتقل من سنة إلى أخرى بلا عائق. وكان الأساتذة يختلفون فمنهم الفظ ومنهم الرقيق، وأذكر أن أحدهم كان يذكرني درسه بالكتاب الذي حفظت فيه القرآن الكريم، فقد كان يملي درس الجغرافية، فإذا كان الدرس التالي طالبنا به محفوظا ً عن ظهر قلب، وكان يقف أمامه التلميذان والثلاثة دفعة واحدة وعلى مكتبه الكراسة والتلاميذ يتلون وهو يسمع، ثم يضع في كل ركن واحداً من الحافظين ليمتحن زملاءه. وكنت لا أستطيع أن أحفظ شيئاً عن ظهر قلب فكنت أحبس بعد كل درس في الجغرافيا حتى كرهتها وكرهت حياتي كلها بسببها. وكان لنا مدرس آخر من أظرف خلق الله وأرقهم حاشية وأعفهم لفظاً، فكان إذا ساءه من أحدنا أمر وأراد أن يوبخه قال له: تهج كلمة بليد مثلاً أو مجنون أو غير ذلك كراهة منه لإسناد الوصف إلى التلميذ مباشرة. ولم يكن تدريس اللغة العربية خيراً من تدريسها في الوقت الحاضر ولكنا كنا أقوى فيها من تلاميذ هذا الزمان - لا أدري لماذا!. وكان المفتش الأول للغة العربية المرحوم الشيخ حمزة فتح الله، وكان من أعلم خلق الله بها وبالصرف على الخصوص، وكان رجلاً طيباً ووقوراً مهبباً، فكان إذا دخل علينا يسرع المدرس إليه فيقبل يده فيدعو له الشيخ، ولا نستغرب نحن شيئاً من ذلك بل نراه أمراً طبيعيَّاً جدَّاً. وأعتقد أن منظر أساتذتنا وهم يقبلون يد الشيخ حمزة كان من أهم ما غرس في نفوسنا حب معلمينا وتوقيرهم، فأني أراني إلى هذه الساعة أشعر بحنين إلى هؤلاء المعلمين ولا يسعني إلا إكبارهم حين ألتقي بواحد منهم وإن كنت لم أستفد منهم شيئاً يستحق الذكر. ومن لطائف الشيخ حمزة أنه كان يقول ملاحظاته على المعلم على مسمع منا، ولكنه كان لا يكتب في تقريره إلى الوزارة إلا خيراً. وقد اتفق لي بعد أن تخرجت في مدرسة المعلمين وعينت مدرساً في المدرسة السعيدية الثانوية أن جاء الشيخ حمزة للتفتيش فاغتنمت هذه الفرصة وقلت: (يا أستاذ، ما هو الاسم العربي الصحيح لهذا الدخان الذي نسميه الدخان تارة والتبغ تارة أخرى) فقال: (أنظرني يا سيدي حتى أنظر في الكناشة). وأخرج مما يلي صدره تحت القفطان كراسة ضخمة لا أدري كيف كانت مختبئة غير بادية وقلب فيها ثم أنشد هذا البيت:
كأنما حثحثوا حصا قوادمه ... أو أم خشف بذي شت وطباق
ومضى عني. وفكرت أنا في كلمة الطباق التي جاءني بها الشيخ. فاستحسنتها ورأيت أنها على العموم خير من كلمة التبغ التي نعرب بها اللفظ الإنجليزي أو الفرنسي (توباك أو توباكو)
ومن حوادث الشيخ حمزة معي أني كنت أؤدي الامتحان الشفوي في الشهادة الثانوية وكان هو رئيسا للجان اللغة العربية فلما جاء دوري اتفق أنه كان موجوداً، فلما انتهت المطالعة وجاء دور المحفوظات وكان لها مقرر مخصوص سألني ماذا أحفظ. وكنت في صباح ذلك اليوم قد قرأت خطبة قصيرة للنبي ﷺ فعلقت بذهني وألهمني الله أن أقول إني أحفظ خطبة للنبي، ففرح الشيخ جداً وخلع حذاءه وصاح (قل يا شاطر قل يا شاطر. قل يا شاطر فتح الله عليك) وسترني الله فلم أخطئ، فاكتفى الشيخ بهذا وأعفاني من النحو والصرف والإعراب
ولكنه في مرة أخرى كاد يضيع علي سنة. وكنت طالبا في مدرسة المعلمين وكانت لجنة الامتحان في اللغة العربية برياسته فقال أحد أخواني بعد خروجه من الامتحان: أن الشيخ حمزة يفتح كتاب النحو والصرف ويطلب من الطالب أن يتلو الفصل الذي يقع عليه الاختيار. ولم نكن ندرس لا نحوا ولا صرفا في المدرسة لأن الدراسة كانت مقصورة على الأدب، فأيقنا بالفشل. وجاء دوري فدخلت وأنا واثق من الرسوب وجلست أمامه فناولني كتاب مقدمة ابن خلدون فقرأت. ولا أزال أذكر فاتحة الكلام وهي (أعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها) الخ. فقال: ضع الكتاب. موضعته، فسألني عن العدوان والفعلين عدا واعتدي وانتقلنا إلى الصيغ المختلفة التي يكون عليها (الفعل) (اعتدى) مثل (اعتديا) للماضي المثنى و (اعتديا) للأمر، فسألني لماذا كان الماضي بالفتح والأمر بالكسر فلم أعرف لهذا سببا وقلت إنه لا سبب هناك سوى أن العرب نطقوا بهما هكذا. فدهش لهذا الجواب وقال: ولكن لهذا سبباً، قلت: إن اللغة سبقت النحو والصرف، وكل هذه القواعد موضوعة بعدها، وما دمت أنطق كما كان العرب يفعلون فان هذا يكفي ولا داعي للبحث عن سبب مختلق. فغضب وظهر هذا على وجهه فلم أبال بغضبه، وحدثت نفسي أنه خير لي وأكرم أن أسقط بخناقة من أن تكون علة سقوطي الجهل. وأصررت على رأيي وكاد يحدث ما لا يحمد، لولا أن المرحوم الشيخ شاويش - وكان عضوا في اللجنة - تدارك الأمر، فقد نظر في ساعته ثم التفت إلى الشيخ حمزة وقال: (العصر وجب يا مولانا) فنهض الشيخ وهو يقول (أي نعم) وذهب للصلاة ونسيني فكان في هذا نجاتي. وقد حفظت هذا الجميل للشيخ شاويش، وكانت هذه الحادثة بداية علاقتي به
ولم تكن المواد كثيرة أو طويلة في مدرسة المعلمين، ويكفي أن أقول إنه كانت لنا في الأسبوع ثماني ساعات لا نتلقى فيها أي درس، فترك هذا التخفيف وقتاً كافيا للمطالعة الخاصة؛ وكان أساتذتنا وناظرنا يشجعوننا عليها بكل وسيلة ولا يفوتهم مع التشجيع والحث أن يوجهونا وينظموا لنا الأمر، وأحسب أن هذا نفعنا جدا
وقد صرت معلما بعد ذلك وظللت أشتغل بالتعليم عشر سنين؛ خمس منها في الوزارة وخمس في المدارس الحرة، وفي هذه السنوات العشر لم أحتج أن أعاقب تلميذا أو أوبخه أو أقول له كلمة نابية. ولم يقصر التلاميذ في محاولة المعاكسة ولكني كنت حديث عهد بالتلمذة وبشقاوة التلاميذ، فكنت أعرف كيف أقمع هذه الرغبة الطبيعية في الشقاوة. وكانت طريقتي أن أتجاوز عن الذي لا ضير منه فلا أشغل به نفسي والتلاميذ، مثال ذلك أن يحتاج التلميذ إلى قلم أو نشافة فيطلبها من جاره ويكلمه في ذلك فلا أعد هذا من الكلام الذي لا يباح، ولا أقيم ضجة من أجله. وقد حدث يوما وأنا مدرس في الخديوية أن دخلت فرقة فألفيت على مكتبي كل أدوات الرياضة مرصوصة على نحو لا شك أنه معتمد، وكان تلاميذي لا يجهلون كرهي للرياضة، وكنت أنا لا أكتمهم أني أعد نفسي جاهلا بها حمارا في علومها؛ وكان غرضهم من رص هذه الأدوات أن يعابثوني عسى أن أثير الضجة التي يشتهونها ولا يفوزون مني بها. ولكني لم أفعل بل اكتفيت بأن دعوت الفراش فحمل هذه الأدوات ووضعها في مكانها ثم بدأ الدرس. وأتفق يوماً آخر أن دخلت الفصل فإذا رائحة كريهة لا تطاق، وكان الوقت صيفاً والجو حاراً جداً فضاعف الحر شعوري بالتنغيص من هذه الرائحة الثقيلة. وأدركت أنها هي المادة التي كنا ونحن تلاميذ نضعها في الدواة مع الحبر فتكون لها هذه الرائحة المزعجة. فقلت لنفسي إنهم ثلاثون أو أربعون وأنا واحد، وإذا كانت الرائحة القبيحة تغثي نفسي فإنها تغثي نفوسهم معي أيضاً. فحالهم ليس خيراً من حالي، والإحساس المتعب الذي أعانيه ليس قاصراً علي ولا أنا منفرد به؛ وإنهم لأغبياء لأنهم أشركوا أنفسهم معي وقد أرادوا أن يفردوني بهذه المحنة. والفوز في هذه الحالة خليق أن يكون لمن هو أقدر على الصبر والاحتمال، فتجاهلت الأمر وصرت أغلق النوافذ واحدة بعد أخرى لأزيد شعورهم بالضيق والكرب فلا يعودوا إلى مثلها بعد ذلك، وقد كان.
تصبرت وتشددت ودعوت الله في سري أن يقويني على الاحتمال، ومضيت في الدرس بنشاط وهمة لأشغل نفسي عما أعاني من كرب هذه الرائحة الملعونة. وكنت أرى في وجوههم إمارات الجهد الذي يكابدونه من التجلد مثلي فأسر وأغتبط وأزداد نشاطاً في الدرس وإغضاء عمن يرفعون أصابعهم ليستأذنوا في الكلام فقد كنت عارفاً أنهم إنما يريدون أن يستأذنوا في فتح النوافذ عسى أن تخف الرائحة ويلطف وقعها. وظللنا على هذا الحال نصف ساعة كادت أرواحنا فيها تزهق، ورأيت أن الطاقة الإنسانية لا يسعها أكثر من ذلك، وأن التلاميذ خليقون أن يتمردوا إذا أصررت على عنادي المكتوم، واغتنمت فرصة إصبع مرفوعة وسألت صاحبها عما يريد، فقال إنه يريد أن يفتح النافذة لأن الحر شديد. قلت افتحها، وفتحت النوافذ كلها. وتشهدنا جميعاً واستأنفنا الدرس ولكن بفتور لشدة ما قاسينا من رياضة النفس على احتمال مالا يطاق. وانتهى الدرس وخرجت فخرج ورائي ثلاثة أو أربعة من التلاميذ ولحقوا بي، وقال لي واحد منهم إنهم يأسفون لما حصل وإن الأمر كان مقصوداً به غيري، وإنهم يطلبون الصفح، فسررت ولكني تجاهلت وسألتهم عما يعنون. وقالوا: الرائحة الكريهة التي كانت في الفصل. وقلت: رائحة. . . أي رائحة؟ إنني مزكوم ولهذا لم أشم شيئاً فلا محل لاعتذاركم. ومضيت عنهم، وكان هذا درساً نافعاً لهم ولو أني عاقبت أحداً لما أثمر العقاب إلا رضاهم عن نفوسهم لأنهم استطاعوا أن ينغصوا علي، وأن ينجح معي عبثهم الطبيعي في مثل سنهم
وفي آخر سنة من اشتغالي بالتدريس توليت أمر مدرسة ثانوية فقلت للأساتذة: إني ألغيت العقوبات جميعاً فلا حبس ولا عيش حاف ولا شيء مما اعتاد المعلمون أن يعاقبوا به التلاميذ. ونظريتي هي أن المدرس الذي يحتاج إلى معاقبة تلميذه لا يصلح لهذه المهنة وخير له أن يشتغل بغيرها، وأن العلاقة بين المعلم وتلميذه ينبغي أن تقوم على المودة والاحترام، وأن يكون أكبر وأقوى عامل فيها هو شعور التلميذ بأن المدرس والد له يبغي له الخير ويخدمه ويفتح له نفسه ويقوي مداركه وينمي استعداده، وأنه لا يلزمه بدرس ولا يفرض عليه شيئاً بل يرغبه في الدرس ويحبب إليه التحصيل. وعلى هذا فليس لأحد من المعلمين أن ينتظر مني أي معونة على ضبط النظام، وقد كان. قضينا في هذه المدرسة سنة كاملة لم يشعر فيها التلاميذ بسلطان أو سطوة، وإنما شعروا أنهم أبناء لنا وأننا إخوان كبار لهم وأصدقاء نافعون ولم أكتف بهذا بل ألغيت (الجرس) الذي يدق إيذاناً بابتداء الدرس أو انتهائه لأني لم أر حاجة إليه بعد أصبح التلاميذ يحرصون على الحضور والمواظبة من تلقاء أنفسهم وبدافع حبهم للمدرسة ورغبتهم في الوجود بها مع إخوانهم المدرسين حتى لقد كان الواحد منهم يمرض فيحضر، وبهذا استغنيت أيضاً عن الدفاتر الكثيرة التي تستعمل في المدارس والتي تحتاج إلى موظفين كثيرين لا داعي لهم. وقد كنت أحب أن أظل في هذه المدرسة لأرى نتيجة التجربة، ولكن الحركة الوطنية بدأت في صيف ذلك العام وجرفنا جميعاً تيارها الزاخر فهجرت التعليم إلى الصحافة. ولو عدت إليه الآن لكان من المحقق أن أخفق فقد اختلف الحال جداً وانقلبت الأوضاع.
إبراهيم عبد القادر المازني