الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 267/حول أدب الرافعي

مجلة الرسالة/العدد 267/حول أدب الرافعي

بتاريخ: 15 - 08 - 1938


بين القديم والجديد

للأستاذ محمد أحمد الغمراوي

أستاذ الكيمياء بكلية الطب

- 7 -

لقد آن لنا أن نختم هذه الكلمات بعد أن بلغنا من تزييف مقالات (بين العقاد والرافعي) أكثر ما نريد. لقد كانت حملة جائرة قامت على الإفك والباطل تلك التي قام بها صاحب تلك المقالات على الرافعي رحمة الله عليه. وكان أمامنا لتبيين إفكها وباطلها طريقان: طريق يهملها ويجلو للناس حقيقة أدب الرافعي بدراسة ذلك الأدب ونقده؛ وطريق يدع أدب الرافعي حيث هو، يعرفه من يعرفه، ويجهله من يجهله، ويعمد إلى تلك المقالات فيضرب بعضها ببعض وينسفها بعوامل نسفها المستكنة فيها. وكان الطريق الأول يحتاج إلى زمن وجهد أكثر مما يتيسر لنا فاضطررنا إلى الطريق الثاني. ونظن أن لم يبق بحمد الله من تلك المقالات الآن إلا ما يدع اللغم من البناء المنسوف

غير أننا نحب مع ذلك ألا نختم الموضوع من غير أن نقول كلمة نبين بها ما نعتقد أنه الفارق الحقيقي بين المذهبين اللذين يمثلهما في الأدب كل من الرافعي والعقاد

لقد جرى الناس على رد التفاصيل في الأدب إلى أصلين: اللفظ والمعنى، وابدءوا في ذلك وأعادوا وأسرفوا في الاختلاف بينهم: أي هذين الأصلين يقدمون على الآخر في تقديم أديب على أديب. واختلافهم هذا الشيء عجيب، فان اللفظ والمعنى ركنان متلازمان لا ينبغي التقصير في أيهما للأديب المكتمل. فكأن مثل اختلافهم لك لا تدعو إليه الحاجة إلا عند المفاضلة بين أدباء مقصرين. وإذا كان لا بد من الإعراب في هذا الشأن عن رأي فالتعبير له المقام الأول في الأحوال التي تكون الفكرة المعبر عنها شائعة لا تكلف مجهوداً؛ والتفكير له المقام الأول إذا كان الموضوع يستلزم أعمار الفكر لاستخراج الصواب؛ وعندئذ يكفي من التعبير الصحيح ما يجلي ذلك الصواب، ويكون كل ما يعوق ذلك عيباً ولو كان زيادة تفنن في التعبير. فإن أمكن الجمع بين التفنن في التعبير والجلاء والدقة المعنى المعبر عنه كان الأديب أمكن في الأدب من غير شك وكان أولى بالتقديم

إن امتلاك ناصية اللغة أمر لا بد منه لكل أديب يريد أن يبلغ في الأدب مرتبة الخلود. وليس معنى هذا أن امتلاك ناصية اللغة وحده كاف للخلود، فليس في الأدب مكانة لخلود صاحب المعنى الخسيس في اللفظ الأنيق إلا إذا انحط الأدب. إنما الآداب الرفيعة آداب نبل قبل كل شيء: نبل في المعنى ونبل في التعبير على السواء. ونبل التعبير راجع إلى حد كبير لنبل المعنى عند تمام الأداء. لكن لن يستطيع البلوغ في الآداب حد التمام إلا من امتلك ناصية اللغة فلم يعجزه معنى مهما دق أو اتسع عن أن يجد له من التعبير ما يلبسه ويظهره ويستفرقه، فلا يقصر عنه ولا يزيد عليه. فشرط امتلاك ناصية اللغة شرط أساسي في كل أديب يطمع في ذلك المجد الباقي الذي نسميه الخلود خلود الذكر إذا صار الأديب حديثاً من الأحاديث. هو شرط أساسي لكنه وحده غير كاف، كالماء أو الهواء أو الطعام كل منها ضروري للحياة لا تقوم بدونه، لكنه وحده لا يكفي للحياة

وإذا تسائل متسائل أي الأدبين أدل على امتلاك لناصية اللغة واقتدار على التفنن والتصرف في التعبير بها؟ أدب الرافعي أم أدب العقاد؟ كان الجواب الذي يسرع إلى الإنسان في غير تكلف ولا تحيز: أدب الرافعي كان أملك لناصية اللغة من غير شك وأكثر افتناناً فيها وتصرفاً بها. ولا نظن العقاديين أنفسهم يمارون في هذا، فأكبر ما ادعاه للعقاد مفتونهم به هو أن الأسلوب الفخم والتعبير الجيد غير بعيدين عن شعر العقاد

لكن التفوق من ناحية اللغة لا يبلغ أن يكون فارقاً بين مذهب ومذهب، فأبناء المذهب الواحد في الأدب كثيراً ما يتفاوتون في المقدرة اللغوية تفاوتاً مذكوراً. لو كان العقاد ممن يثبطون عن اللغة أو يدعون إلى اتخاذ العامية لغة كتابة كما هي لغة حديث لكان ذلك فارقاً أساسياً بين الرجلين ينسبهما في اللغة إلى مذهبين مختلفين. لكن العقاد لا يفعل شيئاً من هذا. إنه يرجو أحياناً أن يجد الشعر العربي طريقاً إلى أن يتحلل بعض التحلل من القافية ليتسع مثلاً لشعر الملاحم، لكن هذا وحده، مهما خالفه الرافعي فيه إن كان خالفه، لا يكفي لأن يتعاديا فيه أو ينتسبا به إلى مدرستين أو مذهبين في الأدب مختلفين

بقيت ناحية المعنى. ولم نر أحداً ظلم في معانيه مثل ما ظلم الرافعي. فكلام بعض أنصاره مثل أخينا علي الطنطاوي لا يقدر ناحية المعنى حق قدرها فيظن خصوم الرافعي أن هذا هو مذهب الرافعي، ويتخذونه فيما يتخذون دليلا على تقصير الرافعي من ناحية المعنى. أخونا الطنطاوي يرى المعاني قريبة المتناول يأخذها الإنسان مما يسمع أو يقرأ أو يشاهد، فلا فضل فيها لأحد على أحد، ويكون التعبير عنها هو مظهر التفاضل بين أديب وأديب. لكن هذا إذا صدق على الشائع المألوف من المعاني فليس يصدق على النادر الطريف. ومعاني الرافعي يكثر من بينها الطريف كثرة تدعو إلى العجب؛ كثرة لا نظن أحداً من المحدثين يفضله فيها أو يزحمه. فالرأي الذي ذهب إليه أخونا الطنطاوي من شأنه - عرضاً - أن يهضم الرافعي من هذه الناحية التي تعد من أكبر مفاخره.

وطرافة معاني الرافعي يرجع جزء كبير منها إلى خياله. ومن رأينا أن ناحية الخيال من النواحي التي تفوق فيها الرافعي وامتاز فتم بها تفوقه في التعبير والبيان. هذه الناحية في الرافعي أدعى إلى الإعجاب حتى من مقدرته اللغوية، فالمقدرة اللغوية لا تحتاج بعد الاطلاع والإحاطة إلا إلى حسن الاستعمال؛ لكن الخيال ملكة أخرى لعل قوتها ورقيها أدل الدلائل على الشاعرية. ونحن فيما قرأنا للقدماء أو المحدثين لم نرها بلغت من النمو والقوة والسمو ما بلغته في الرافعي. وليس معنى هذا طبعاً أن أدب الرافعي هو خير أدب وجد، لكن معناه أن ناحية الخيال أظهر في أدب الرافعي وأسمى منها في أدب أي أديب قرأنا له. وسواء أكان من قرأنا لهم في الأدب كثيرين أو قليلين، فليس لدينا شك في أن ناحية الخيال ناحية امتاز فيها الرافعي وتفوق على العقاد.

لكن ليست المعاني كلها تدور حول الخيال، وإن كان الرافعي لقوة حاسة الخيال فيه يكاد يجد للخيال موضعاً في كل معنى. إن روح المعنى بالطبع هو منزلته من الحق ومن الصواب، والحق والصواب لهما معايير ليس الخيال أحدها قد ضلها المتأدبون في هذا العصر حتى كاد الأمر يكون بينهم فوضى. فأما ما اتصل من المعاني بالعلم فمن السهل الرجوع فيه إلى أصل يحسم الخلاف أو يخفف من الخصومة فيه. لكن ما الحيلة فيما اتصل من المعاني بالفن، والفن قد كثرت مذاهبه وتضاربت حتى لم يبق لترجيح رأي على رأي ولا مذهب على مذهب إلا الميل والهوى الذي يسمونه الذوق؟ كيف يمكن تبين الحق والصواب في ميدان الفن الذي منه ميدان الأدب، فيما لم يتصل بعلم وفيما لم يتصل بلغة؟ إن الوصول إلى جواب صائب على هذا السؤال أمر حيوي لا غنى عنه البتة، لا لأنه يعين النقد في الحكم بين أديب وأديب، أو بين مذهب، في الفن ومذهب حكما يبقى على الورق لا يدري من تأثر به، ولكن ليتبين الناس به سبيلهم في فوضى الفنون هذه فيأخذون من الفنون ويدعون طبق ما هو حق وطبق ما هو خير

إن الفن ومنه الأدب له من الأثر في حياة الفرد وفي حياة الجماعات أكثر مما للعلم، لأنه متصل بدخيلة هذه الحياة في حين يتصل العلم عند أكثر الناس بظاهرها؛ وإذا اتصل عند أقلهم بباطن حياتهم النفسية فقد صار باباً من عند ذلك القليل. إن الفن يعمل في نفس الفرد ويكيف حياته الباطنة أن لم يكن كل التكييف فبعض التكييف، لكنه على أي حال تكييف بعيد الأثر في حاضر الإنسان ومستقبله. ولسنا نغالي إذا قلنا إن مستقبل الإنسان فرداً أو جماعة يتوقف الآن على نوع هذا الأثر الذي يحدثه الفن في النفوس

ومن عجيب الأمر أن الناس يكتبون ويتكلمون عن الفن كأنه دائماً يوجه إلى الخير وكأنه دائماً على صواب. إنه ينبغي أن يكون دائماً كذلك من غير شك، لكن هل هو دائماً كذلك؟ بل هل هو دائماً كذلك؟ إنك لا تستطيع أن تجيب جواباً نافعاً حتى يكون لديك معيار صدق تعرف به الخير من الشر في الفنون كما تستطيع أن تعرف الحق من الباطل في العلوم. ولن تجده في هذه الفوضى السائدة بين مذاهب الفلسفة والأخلاق والفنون وإنما تجده من غير شك في الدين

لكن أصحابنا المجددين أنصار ما يسمونه الأدب الحديث يفرقون من ذكر الدين كأنما تلسعهم من اسمه النار. كذلك فزع أحدهم بالعراق، وكذلك يفزع هذا الآخر في مصر وإن زعم أنه أفهم منا في للدين. ليته كان كذلك حقاً فنغتبط له، فان ذلك مما لا ينقصنا من ديننا شيئاً ولكن يزيده في دينه. لكن المسألة في الدين ليست مثلها في الأدب الذي يكتبون كلاماً لا يرجع فيه أصل ثابت ولا معيار. إن كل ما يتصل بالدين ممكن الرجوع فيه إلى الأصل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: القرآن. وما غمض علينا من القرآن يمكن تبين معناه المقصود من السنة سنة الرسول صلوات الله عليه. ونحن معشر المسلمين مأمورون بأن نرد كل ما نختلف فيه إلى الله والرسول إن كنا نؤمن بالله واليوم الآخر: (يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم، فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا) فلعل صاحبنا إن كان أفهم منا للدين لا يعيب كلامنا هذا بأنه من كلام خطباء المساجد ويقبل على تفهم وجه الحجة فيما نلقي عليه فإنما الحق والإصلاح نريد

إن المسلم الذي يفقه دينه ويفقه الحياة أينما نظر لا يجد مفراً من أن يصل هذه الحياة أدبها وفنها وعلمها بالدين كما أنزله الله على رسوله محمد بن عبد الله، أي كما يتبين من القرآن ومن عمل الرسول. إن الإسلام دين يشمل الحياة بحذافيرها ويحيط بها من جميع أطرافها. ومن أخص خصائصه أن يكون الإنسان في خلجات نفسه مع الله، وأن يخلص نوايا قلبه لله، وهذا هو معنى إسلام الوجه لله، ومنه اكتسب الدين اسمه الكريم: الإسلام. والمظهر العملي للإسلام هو طبعاً إتباع ما شرع الله للإنسان في الحياة من نظم وأحكام، لكنه لن يستطيع أن يحقق هذا حتى يكون سره ونجواه ونيته لله. وعن هذا الطريق طريق إسلام الوجه والنفس والقلب لله يكون تمام اتصال الإنسان بربه خالق الكون وفاطر الفطرة الذي إليه المرجع ومنه الهدى وبه الحياة. . .

فإذا كان ذلك كذلك، وإنه لكذلك، فكيف يجوز في غريزة أو عقل أو علم أن يجمع الإنسان بين الحياة الإسلامية والحياة الفنية أو الأدبية أو العلمية إن لم يكن بين الفن والأدب والعلم وبين الإسلام تمام التطابق والاتفاق؟ والاتفاق التام بين العلم والإسلام ثابت لا شك فيه، فليس في الثابت من العلم شيء ينقض شيئاً من الإسلام، وليس في الإسلام أصل ينقض حقيقة ثابتة في العلم. وكل ما يثبته العلم في المستقبل يقبله الإسلام مقدماً بنص القرآن، ويؤول إليه النص إن خالفه في الظاهر. وهذا دليل جديد لا ينقض على أن الإسلام هو حقَّا من عند الله فاطر الفطرة، وأنه حقا دين الفطرة كما وصفه الله في القرآن. أفلا ينبغي أن يثبِّت هذا في الدين هؤلاء المتزلزلين من أهل (التجديد) الذين يريدون أن يَلُفُّوا الدين ويضعوه على الرف ويقطعوا باسم التقديس ما بينه وبين الحياة في مظاهرها خارج المساجد في الأدب والفنون والاجتماع؟

إن الفطرة كلها منشئها واحد هو الله سبحانه وتعالى، والعلم والدين كلاهما قد اجتمعا على استحالة التناقض في الفطرة. فإذا كانت هذه الفنون من روح الفطرة كما يزعم أهلها وجب ألا تخالف أو تناقض دين الفطرة دين الإسلام في شيء. فإذا خالفته في أصوله ودعت صراحة أو ضمناً إلى رذيلة من أمهات الرذائل التي جاء الدين لمحاربتها، وعاقت الإنسان أن يعمل بالفضائل التي جاء الدين لإيجابها على الإنسان حتى يبلغ ما قدر له من الرقي في النفس والروح - إذا خالفت الفنون الدين في شيء من هذا أو في شيء غير هذا فهي بالصورة التي تخالف بها الدين فنون باطلة، فنون جانبت الحق ودابرت الخير وأخطأت الفطرة التي فطر الله عليها الناس والخلق، والتي تريد الفنون أن تكون منها في الصميم، فإذا كان من شأن بعض ما يعمل أو يكتب باسم الفن أو الأدب أن يتجاوز في تأثيره ما سبق على عظمه، فيحول بين الإنسان وبين ربه، ويدخل عليه الشك في دينه بأي صورة من الصور ولأي حد من الحدود، كان ذلك البعض المعمول أو المكتوب باسم الفن أو باسم الأدب زوراً وإفكاً في الفن والأدب والفطرة والدين على سواء

فنحن حين ندعو إلى وجوب نزول الفن والأدب على حكم الدين وروحه، وتحريهما التطابق التام بينهما وبينه، لسنا نبعث ولا نتجنى ولا نتحكم في الأدب والفن بما لا ينبغي التحكم به فيهما

إننا نوجد معياراً للحق والصواب والخير في الفن والأدب حين لا معيار لذلك كله فيهما؛ ونيسر للفن والأدب طريق التثبت من انطباقهما على الفطرة التي فطر الله عليها الناس، ونحقق لهما بذلك اتحادهما مع الفطرة في الصميم. ونحن بذلك الذي ندعو إليه ونقول بوجوبه نحقق بين الفن والأدب وبين الدين تلك الوحدة المتحققة بين الدين والعلم، فتتحقق وحدة حياة الإنسان كلها بذلك وتبرأ حياته من ذلك الداء المستعصي والشر البالغ شر وجود التناقض والتنافر بين ما يعشق من فن ويعتقد من دين. ثم نحن بعد هذا ووراء هذا نترك الفن والأدب بما قلنا ودعونا إليه من وجوب سيرهما مع الدين يداً بيد، وجنباً لجنب، وروحاً مع روح، على الطريق التي يحققان منها رسالتهما في الناس، رسالة الصدق والحق والخير والفضيلة والعزة والسعادة والهدى والنور، لا رسالة الكذب والباطل والشهوة والإثم والمجون والفجور

فالمسألة في الأدب - إذ لا بد من الرجوع إلا ما كنا فيه - ليست مسألة لفظ ومعنى فقط ولكنها في صميمها مسألة روح. فريق يريد أن يجعل روح الأدب روحاً شهوانياً بحتاً يتمتع صاحبه بما حرم الله وما أحل، لا يفرق بين معروف ومنكر، ثم يصف ما لقي في ذلك من لذة أو ألم أو غيرهما من ألوان الشعور ويخرج ذلك للناس على أنه هو الأدب! وفريق يريد أن يحيا الحياة الفاضلة في حدودها الواسعة التي حدها الله، وبمظاهرها المختلفة في الفطرة كما طهرها الله، لا كما دنسها أو يريد أن يدنسها الإنسان، ويصف ما يتمتع به من تلك وما يلقي أو يتجشم في سبيل ذلك غير ناس لحظة أن الوجود كله من الله وأن الدين كله لله، وما يصف ويحلل يخرجه للناس على أنه هو الأدب. فأي الأدبين يا ترى أرحب وأسمى وأطهر، وأيهما أولى بالحياة وأصلح للبقاء؟ إنه لا شك عندي فيما تجيب به بفطرتك على هذا السؤال

إن أدب الفريق الأول هو ما يسمونه بالأدب الجديد ويمثله العقاد، وأدب الفريق الثاني هو ما يسمونه بالأدب القديم ويمثله الرافعي، وقد عرفت الآن فيم يتفقان وفيم يفترقان. الرافعي كما قلنا يتفوق على العقاد في التعبير وفي الخيال؛ وكلاهما يحتفل بالمعنى أكبر احتفال؛ غير أن الرافعي عنده نور يهتدي به ليس عند العقاد فكان لذلك أقل من العقاد عاباً وأكثر صواباً. لكن ذلك كله لا يكفي لأن يفرق بين أدبيهما تفريقاً يجعل منهما ممثلي مذهبين مختلفين في الأدب. إنما الخلاف الأساسي بينهما خلاف في الروح؛ هما من حيث الروح مختلفان كل الاختلاف، وعندك للحكم بين الروحين معيار صدق لا يخطئ هو معيار الدين. وإذا أردت معياراً جزئياً يغنيك عند التقريب فمعيار الخلق الفاضل. وإذا قست الأدبين بأحد هذين المعيارين لم يبق عندك شك في أيهما أولى بالإكبار وأصلح للبقاء لأنه أعون للإنسان على الارتقاء: الأدب الأخلاقي أم الأدب غير الأخلاقي، على ألطف وأخف تعبير

والمقياس الذي نبهنا إليه في الفن والأدب ليس من البعد عن الفن والأدب كما يصور العقاديون، بل هو من روح الفن والأدب في الصميم. أليس روح الفن والأدب والجمال، أليس الجمال النفسي روح الجمال الإنساني؟ ثم أليس روح الجمال النفسي إخباته وإخلاده وإسلامه لله؟ من هذا الإخبات والإخلاد والانقياد لله تأني الفضيلة والسلامة والسعادة في الحياة، ومن محبة الله سبحانه يشيع في النفس الهدى ويشع منها النور. فقل لي بربك كيف يمكن أن يكون لأدبهم المكشوف نصيب من روح الجمال الإنساني يستهوي النفس التي فيها بقية من الفضيلة والخير؟ إنا لا نشك في أن ذلك الأدب المكشوف مثل سارة وما إليها يصدم أول ما يصدم مقر الفضيلة من النفس ويؤذي أول ما يؤذي حاسة الجمال النفسي في الإنسان. فهو في صميمه أدب غير جميل، يلذه ويستمع به من مسخت نفسه فصارت تعاف الطيب وتستمرئ الخبيث. أما غير هذه النفوس مما لا يزال هلا من الخير والفضيلة والدين نصيب فأنها تجد صعوبة في أن تمضي في قراءة مثل ذلك الكتاب إلى تمامه إلا أن تعطل من ذوقها أو تنيم من ضميرها أو تحتال عليه بالإقرار له أن الكتاب من الناحية الخلقية معيب قبيح لكنها تقرأه لتحيط بأدب العصر أو لتدرس من الكتاب أسلوبه أو ما شابه ذلك من معاذير. ويكون جزاؤها على ذلك أن تخرج من القراءة وقلبها أكثر مرضاً، وذوقها الأدبي أقل تمييزاً، وحسها الخلقي أكثر انثلاماً. ولا تلبث إذا تكرر ذلك منها أن تفقد أكبر مميزاتها ومزاياها فتهبط من معارج الرقي النفساني إلى مدارج الانحطاط؛ ويكون الأدب المكشوف بذلك قد فعل فعله وأدى رسالته من مسخ الطباع وإفساد النفوس والصد عن سبيل الله

محمد أحمد الغمراوي