مجلة الرسالة/العدد 267/البصرة
→ حرمة البيان | مجلة الرسالة - العدد 267 البصرة [[مؤلف:|]] |
حظي بالشيء. . . ← |
بتاريخ: 15 - 08 - 1938 |
للدكتور عبد الوهاب عزام
خرجنا من الناصرية على الفرات جنوبي العراق نريد البصرة يوم الخميس 30 أبريل سنة 1936 والساعة ثلاث وعشر دقائق بعد الظهر، والناصرية حاضرة لواء المنتفق بنيت على نظام حسن منذ ثمانين عاماً، وسميت باسم ناصر باشا السعدون رئيس عشائر المنتفق، وبينها وبين البصرة مائة وخمسة عشر ميلاً.
سارت بنا السيارة ثلاث ساعات على حافة بادية الشام في قسمها الجنوبي المسمى بالسماوة، نجد على البعد ريح نجد ونرى الشيح والقيصوم؛ وبينا نحسب الساعات والأميال، تشوقنا البصرة وذكرياتها. قال أحد الرفاق: انظروا إلى شجرة الأثل - هذا أثل الزبير. قاربنا المدينة
مدينة الزبير مدينة صحراوية على مقربة من البصرة الحديثة بينهما نحو عشر كيلات، وكانت في العصور الخالية قسماً من البصرة القديمة، سميت باسم الزبير بن العوام أحد الصحابة قتل بعد موقعة الجمل في وادي السباع على مقربة من المدينة ودفن بها
وسكان الزبير معظمهم نجديون أهل نشاط وتجارة، وقد جلبت إليها الحكومة العراقية الماء من البصرة منذ سنتين وكان شربهم من الآبار
وبها من المشاهد قبر الزبير رضي الله عنه في مسجد كبير، وفي جانب من هذا المسجد قبر عتبة بن غزوان مؤسس البصرة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. قلت في نفسي: قبر العتبة يذكرني بالفتح والتعمير، وضريح الزبير يذكر بالخلاف والقتال بين المسلمين، وتلك أمة قد خلت. أسأل الله إصلاح النفوس وتأليف القلوب. وخرجنا من مسجد الزبير إلى ظاهر البلد فرأينا قبة صغيرة تحتها قبران: قبر الحسن البصري، وقبر محمد بن يسرين من التابعين، قلت: قد أصطبحا حيين وميتين. وإن الذي يذكر الحسن يملأ نفسه الإجلال والإكبار لهذا الرجل رجل الذكاء والعلم والفصاحة والورع والجرأة في الحق. وقد روي عن ثابت بن قرة أنه قال: ما أحسد هذه الأمة العربية الأعلى ثلاثة أنفس: عمر بن الخطاب والحسن البصري والجاحظ. وقال عن الحسن: كان من دراريّ النجوم علما وتقوى، وزهدا وورعا وعفة ورقة وفقها ومعرفة. . . يجمع مجلسه ضروبا من الناس، هذ يأخذ عنه الحديث، وهذا يلقن منه التأويل، وهذا يسمع منه الحلال والحرام، وهذا يحكي له الفُتيا، وهذا يتعلم الحكم والقضاء، وهذا يسمع الوعظ، وهو في جميع ذلك كالبحر العجاج تدفقا، وكالسراج الوهاج تألقا. ولا تنس مواقفه ومشاهده في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الأمراء وأشباه الأمراء بالكلام الفصل واللفظ الجزل. . . الخ
وأما قبور الصالحية التي ذكرها ابن بطوطة كمالك بن دينار وسهل ابن عبد الله فلم نجد عند القوم خبرا عنها. وأما قبر أنس ابن مالك خادم رسول الله ﷺ فعند وادي السباع بعيد عن المدينة.
فصلنا عن مدينة الزبير فرأينا على بعد قبة منفردة في البرية وعرفنا أن تحتها ضريح طلحة بن عبد الله أحد الصحابة، وقد قتل في واقعة الجمل أيضاً. ثم مررنا بمأذنة مفردة ليس بجانبها بناء فقيل إنها مأذنة مسجد علي رضي الله عنه. وكان هذا المسجد في وسط المدينة. وكان مسجداً عظيماً بقي وحده بعد خراب البصرة القديمة ورآه ابن بطوطة وقال إنه من أحسن المساجد وصحنه متناهي الانفساح، مفروش بالحصباء الحمراء التي يؤتى بها من وادي السباع، وفيه المصحف الكريم الذي كان عثمان رضي الله عنه يقرأ فيه لما قتل
ثم دخلنا مدينة البصرة وهي على ثمانية أميال إلى الشمال والشرق من البصرة القديمة التي تم خرابها في أوائل القرن الثامن الهجري وخراب البصرة يضرب به المثل
ولله ذكر تحيط بالداخل إلى البصرة! إنها ذِكَرُ الفتح والتعمير الإسلامي. إنها ذكر العلوم والآداب العربية. هنا ولد النحو وعلوم اللغة؛ هنا أبو عمرو بن العلاء والخليل بن أحمد وسيبويه والأصمعي ثم الحريري؛ وهنا بشار وأبو نواس؛ وهنا أئمة المعتزلة إبراهيم النظام وأبو الهذيل العلاف؛ وهنا نادرة الزمان أبو عثمان الجاحظ. هنا إخوان الصفاء الذين دونوا خلاصة الفلسفة الإسلامية، وهنا المربد حيث كان يجتمع الشعراء والفصحاء فيستمع الناس ويقضون لمتكلم على آخر. هنا أنشد جرير والفرزدق وغيرهما.
سألت أين المشان قرية الحريري التي كان بها نخله الكثير فقيل لا يزال اسمه معروفاً شمال البصرة فأنشدت ما كتبه سديد الدولة ابن الأنباري إلى الحريري:
سقي زرعي الله المشان فأنها ... محل كريم ظل بالمجد حاليا أسائل من لاقيته كيف حاله ... فهل يسألن عني ويعرف حاليا
البصرة اليوم مدينة عامرة كبيرة، واسعة التجارة قد شمل التنظيم الحديث قسماً كبيراً منها، وقسمها الحديث يسمى العشار يقع على شط العرب، وتشرف على هذا النهر العظيم قصور أغنياء البصرة تتباين فيها الغنى والبذخ والترف، لها مجالس على النهر وسلاليم ترسو عليها الزوارق
وعلى بضعة أميال من المدينة تقع ميناء البصرة الحديثة تدخل إليها البواخر الكبيرة، ولها مستقبل تجاري وحربي عظيم؛ والجهة التي بها الميناء تسمى المعقل ويسميها الأوروبيون مركيل وأحسبها مسماة باسم معقل بن يسار المزني. وكان هناك نهر يسمى نهر معقل. وجاء في الأمثال: إذا جاء نهر الله فقد بطل نهر معقل
والبصرة مدينة البندقية العربية فهي واقعة على شط العرب العظيم تخرج منه أنهار كثيرة تخترق المدينة، فتجد الأنهار في شوارعها الفسيحة تطل عليها الدور والبساتين
وأذكر أني سرت من المدينة إلى أبي الخصيب في طريق معبدة تظلها النخيل والأشجار نحو عشرين ميلاً فاجتزت أربع عشرة قنطرة على الأنهر الآخذة من شط العرب
والبصرة أكثر بقاع العالم نخلاً، بها نحو عشرة ملايين نخلة. ويكاد النخيل يتصل ما بين القرنة حيث يجتمع دجلة والفرات إلى مدخل خليج البصرة وذلك نحو 150 كيلا. وقد روى الأصمعي عن الرشيد أنه قال: نظرنا فإذا ما على وجه الأرض من ذهب وفضة لا يبلغ ثمن نخل البصرة. . . الخ
وهذا الخصب العظيم والعمران الكثيف على مقربة من البادية. فمن شاء تحضر ونعم بألوان الحضارة، ومن شاء تبدّى واستمتع بحرية البداوة وبالصيد وغيره
وقد قال ابن أبي عيينة المهلبي يصف البصرة:
يا جنة فاقت الجنان فما ... يعدلها قيمة ولا ثمن
ألفتها فاتخذتها وطنا ... إن فؤادي لمثلها وطن
زوَج حيثانها الضباب بها ... فهذه كنة وذا ختن
فانظر وفكر لما نطقت به ... إن الأديب المفكر الفطن
من سفن كالنعام مقبلة ... ومن نعام كأنها سفن وقال خالد بن صفوان: يغدو قانصنا فيجيء هذا بالشبوط والشيم، ويجيء هذا بالظبي والظليم. . . والشبّوط والشيم من أنواع السمك
وقال ابن أبي عيينة أيضاً:
ويا حبذا نهر الأبلة منظرا ... إذا مدّ في إبانه الماء أو جزَر
ويا حسن تلك الجاريات إذا غدت ... مع الماء تجري مصْعدات وتنحدر
وسقيا بساتين البصرة ومزارعها من المد. وذلك أن شط العرب يمد ويجزر. وقد وصفه الشعراء والكتاب والرحالون على اختلاف العصور
قال خالد بن صفوان:
وأما نهرنا العجيب فان الماء يُقبل عنقاً فيفيض متدفقاً، يأتينا في أوان عطشنا، ويذهب في زمان رينا، فنأخذ منه حاجتنا ونحن نيام على فُرشُنا. فيقبل الماء وله عباب وازدياد لا يحجبنا منه حجاب، ولا تغلق دونه الأبواب، ولا يتنافس فيه من قِلّة، ولا يحبس عنا من علة
وقال الجاحظ وهو يعدد عجائب البصرة:
منها أن عدد المد والجزر في جميع الدهر شيء واحد، فيقبل عند حاجتهم إليه ويرتد عند استغنائهم عنه؛ ثم لا يبطئ عن الأرض إلا بقدر هضمها واستمرائها وجمامها واستراحتها، لا يقتلها عطشاً ولا غرقاً. يجيء على حساب معلوم، وتدبير منظوم ومدد ثابتة، وعادة قائمة، يزيدها القمر في امتلائه كما يزيدها في نقصانه. فلا يخفى على أهل الغلات متى يتخلفون ومتى يذهبون ويرجعون، بعد أن يعرفوا موضع القمر وكم مضى من الشهر، فهي آية وأعجوبة، ومفخرة وأحدوثة، لا يخافون المحْل ولا يخشون القحط
قال ياقوت الحموي:
كلام الجاحظ هذا لا يفهمه إلا من شاهد المد، وقد شاهدته في ثماني سفرات لي إلى كيش ذاهباً وراجعاً، ويحتاج إلى بيان ليعرفه من لم يشاهده: وهو أن دجلة والفرات يختلطان قرب البصرة ويصيران نهراً عظيماً يجري من ناحية الشمال إلى ناحية الجنوب؛ فهذا يسمونه جزراً، ثم يرجع من الجنوب إلى الشمال ويسمونه مدا، يفعل ذلك كل يوم وليلة مرتين. فإذا جزر نقص نقصاناً كثيراً بينا بحيث لو قيس لكان الذي نقص مقدار ما يبقى أو أكثر. وليست زيادته متناسبة بل يزيد في أول كل شهر ووسطه أكثر من سائره الخ أ. هـ. كلام ياقوت
وهذا النظام لا يزال سارياً اليوم، ولكن حفر مدخل الشط في السنين الأخيرة لتتمكن السفن العظيمة من الدخول فصار المد أقل مما كان قبلا
وأما هواء البصرة فحار رطب. وكان من حسن حظنا أن كنا بها في أوائل أيار (مايو) فلم نصادف إلا هواء معتدلا بالنهار بارداً بالليل. وقد وصف القدماء هواء البصرة بشدة الاختلاف. قال الجاحظ: من عيوب البصرة اختلاف هوائها في يوم واحد، لأنهم يلبسون القمص مرة، والمبطنات مرة لاختلاف جواهر الساعات. ولذلك سميت بالرعناء، قال الفرزدق:
لولا أبو مالك المرجو نائله ... ما كانت البصرة الرعناء لي وطناً
وذلك أن ريح الشمال في البصرة باردة، وريح الجنوب حارة؛ ولذلك قال ابن لنكك الشاعر البصري:
نحن بالبصرة في لو ... نٍ من العيش ظريف
نحن ما هبت شمال ... بين جنات وريف
فإذا هبت جنوب =. . . . . . .
ويكمل الشاعر بيته بشطر لا يحسن إنشاده
وكانت البصرة إلى عهد قريب كثيرة الحميات، ويقول ابن بطوطة بعد ذكر المد والجزر: (وبسبب ذلك كان هواء البصرة غير جيد) وألوان أهلها مصفرةً كاسفة حتى ضرب بها المثل. وقال بعض الشعراء وقد أحضرت بين يدي الصاحب أترّجة
لله أترج غدا بيننا ... معبرا عن حال ذي عبرة
كما كسا الله ثياب الضنى ... أهل الهوى وساكني البصرة
وسمعت في العراق أن أهل البصرة قد ألفوا الحمى حتى أن أحدهم يكون سائرا مع صاحبه فيحس الحمى فيقول له: ائذن لي أن أذهب إلى البيت لأحمّ. هذا كله كان قبل أن تنالها يد العناية - عناية الحكومة العراقية. وأما اليوم فقد أصلحت الحكومة الطرق والأنهار والمستنقعات، وتوسلت بوسائل طبية كثيرة حتى قلت الحمى هناك جدا، ويرجى أن تزول فلا يبقى لها أثر بعد سنين قليلة.
ومن الإنصاف أن أذكر ما عرف به أهل البصرة في الماضي والحاضر من كرم الخلق ورعاية الغريب. قال ابن بطوطة:
(وأهل البصرة لهم مكارم أخلاق، وإيناس للغريب، وقيام بحقه، فلا يستوحش فيما بينهم غريب)
وفي ياقوت: (وقال شاعر يصف أهل البصرة بالبخل وكذب عليهم) وياقوت خبير بالبلد وأهله
وكذلك أهل البصرة اليوم تغلب عليهم الأخلاق العربية على كثرة ما نابهم من محن، ومر بهم من شدائد
وفي البصرة مدارس أولية وابتدائية كثيرة ومدرسة متوسطة وأخرى ثانوية. والتعليم فيها يزداد ويزدهر سريعا. وعسى أن يكون لها بعد قليل ما كان لها من مجد وصيت يوم كانت مهد العلوم العربية والإسلامية.
ويعد للبصرة من موقعها وأرضها ومائها وعناية الحكومة العراقية بها ما يضمن لها مستقبلا زاهرا. وإنا لنرجو أن تعيد سيرتها، ولتعمل لخير العربية والإسلام ما عملت في ماضيها إن شاء الله.
عبد الوهاب عزام