مجلة الرسالة/العدد 266/في مصر الإسلامية
→ مائة صورة من الحياة | مجلة الرسالة - العدد 266 في مصر الإسلامية [[مؤلف:|]] |
حظي بالشيء. . . ← |
بتاريخ: 08 - 08 - 1938 |
سياسة العرب المالية في مصر
للدكتور حسن إبراهيم حسن
أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب
كان الوالي يُعَيّن من قبل الخليفة لينوب عنه في حكم البلاد، وهو الرئيس الأعلى للقضاء والصلاة والخراج والجند والشرطة وما إليها من مهام الدولة. وكان يستعين في إدارة البلاد بطائفة من كبار الموظفين وأهمهم ثلاثة: عامل الخراج أو صاحب بيت المال، والقاضي، والقائد أو صاحب الشرطة. وكانت وظيفة الخراج أهم هذه الوظائف الثلاث
وكان الوالي يحتفظ بها لنفسه؛ وربَّما أسندها الخليفة إلى رجل من قبله فيعمل هذا مع الوالي جنباً إلى جنب: هذا يدير دفة السياسة. وذاك يتولى أعمال الدولة المالية. فكان بمثابة الرقيب على أعمال الوالي، فكأنّ مصر إذ ذاك كان يحكمها واليان من قبل الخليفة مما أدى إلى تنازع السلطة والمنافسة بين الرجلين: وذلك مما يعلل قصر عهد الولاة وعمال الخراج، وبهذا خسرت مصر تحت حكمها أكثر مما كانت ترجوه من التقدم في سبيل الإصلاح.
كان القضاء والصلاة من الأمور الجوهرية التي تناولها هذا التغيير في النظم الإدارية في عهد الإسلام لارتباطها ارتباطاً وثيقاً بالدين، وهو مصدر الحكم في الإسلام.
أما عن الخراج فقد سار عمرو بن العاص مع المصريين بمقتضى شروط الصلح من حيث تقسيم الجباية ومراعاة حال النيل في النقصان والزيادة مما أضطره أحياناً إلى تأخير الخراج على الرغم مما اشتهر عن عمر بن الخطاب من التشدد في دفعه. ذلك أن عمرا حين جبى خراج مصر في السنة الأولى من ولايته عشرة ملايين دينار لم يعجب ذلك عُمر، بل ولم يعجبه أيضاً ما كان من نقصان الخراج إلى اثني عشر مليوناً في السنة التالية، وذلك لما بلغ الخليفة من أن الخراج وصل في عهد المقوقس إلى عشرين مليوناً وأكثر، وجعله بعض المؤرخين 24 , 400 , 000 دينار في عهد الفراعنة، وبالغ بعضهم فجعله في زمن الريان بن الوليد (وهو فرعون يوسف) 90 , 000 , 000 دينار، فلا غرابة إذا عجب عمر من أن البلاد لا تؤدي نصف ما كانت تؤديه إن صح أن مصر كانت تؤدي هذا المقدار قبل الإسلام. على أن عُمر إنما أراد بتشدده وتمسكه أن يحلب البلاد حلباً ويقطع درها بخلاف ما كان يتوخاه عمرو بن العاص من مراعاة حال البلاد من شدة ورخاء.
وقد لغط المؤرخون في مقدار الخراج، وقصره بعضهم على جزية الرءوس التي كان مفروضاً أداؤها على أهل الذمة من القبط وغيرهم لأن الخراج في عهد الإسلام كان من ناحيتين (الأولى) الضرائب الشخصية المعروفة بالجزية أو جزية الرءوس (والثانية) ضرائب الأطيان، ومجموع هذين يعرف بالخراج.
على أن قصر بعض المؤرخين الخراج على جزية الرءوس مع خطئه يجعل الاهتداء إلى معرفة عدد سكان مصر وقت الفتح أمراً مستحيلاً، ناهيك ما هنالك من الاختلاف الكبير بين روايتي ابن عبد الحكم (267هـ=781م) وهو أقدم مؤرخي مصر الإسلامية والبلاذري (290هـ=892م) وهو من معاصري ابن عبد الحكم.
وقد ذكر ابن عبد الحكم أن عدد من ضربت عليهم الجزية من المصريين في عهد عمرو ثمانية ملايين عدا الصبيان والنساء والشيوخ، ولو بلغ عدد من ضربت عليهم الجزية رُبع سكان البلاد لكان أهل مصر طبقاً لهذا التقدير اثنين وثلاثين مليوناُ من النفوس. وهذا بعيد التصديق، إذ لو كان هذا العدد صحيحاً لبلغت جزية الرءوس وحدها ستة عشر مليون دينار وهو يخالف ما أجمع عليه المؤرخون من أن خراج مصر بنوعيه لم يزد في السنة الأولى من ولاية عمرو على عشرة ملايين، ولم يزد في السنة التالية على اثني عشر مليوناً. كذلك روى البلاذري أن عمرا فرض على كل مصري عدا النساء والصبيان والشيوخ دينارين فبلغ خراج مصر (بما فيه جزية الرءوس) مليوني دينار، فإذا خصصنا لجزية الرءوس مليوناً اقتضى أن يكون عدد من فرضت عليهم الجزية خمسمائة ألف نسمة، وعلى هذا القياس لا يزيد سكان مصر على مليوني نسمة.
هذا ولم يكن للخراج نظام ثابت، فكانت ضريبة الأطيان تقل وتكثر حسب الاهتمام بالتعمير وإصلاح الجسور والخلجان ونحوها، كما أن جزية الرءوس كانت تتناقص بالتوالي لدخول أهل مصر في الإسلام، إما رغبة في اعتناق هذا الدين، أو فراراً من دفع الجزية. وقد رأى بعض العمال عدم دفع الجزية عمن أسلم. يدلك على ذلك كتاب وإلى مصر إلى الخليفة عمر بن عبد العزيز يشكو إليه من أن الإسلام أضرّ بالجزية ويسأله أن يأمر بفرضها على من أسلم، فما كان من عمر إلا أن كتب إليه كتابه المأثور، وفيه يقول (. . . فضع الجزية عمن أسلم - قبح الله رأيك - فان الله إنما بعث محمداً ﷺ هادياً، ولم يبعثه جابياً. ولعمري لعمر أشقى من أن يدخل الناس كلهم في الإسلام على يديه)، وعلى الجملة فقد كانت سياسة الخلفاء ترمي إلى الإكثار من الخراج حتى أن بعضهم لم يأبه بما حلّ بالأهلين من شراهة العمال الذين عملوا على إرضاء الخليفة، الذي كان رضاؤه متوقفاً على تأدية الخراج، وعلى سدّ جشعهم في جمع الثروة الضخمة حتى لا تعوزهم الحاجة بعد عزلهم، الذي كانوا يترقبونه في كل وقت؛ مما أدى في كثير من الأحيان إلى انتقاض الأمة، وقيام الثورات في عهد بني أمية وبني العباس. وليس أدلّ على عناية الخلفاء بإكثار الخراج من أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح لما جبي خراج مصر وبلغ 14 , 000 , 000 دينار بعد أن جباه عمرو 12 , 000 , 000 دينار، عيّر عثمان بن عفان عمرا بقوله: (إن اللقاح بعدك درّت ألبانها) فأجابه عمرو (. . لأنكم أعجفتموها) مما يدلّ على أن سياسة الخلفاء نحو جباية الخراج كانت تميل إلى الشدّة، وعلى الأخص في عهد بني أمية وبني العباس، على أن خراج هذه البلاد أخذ يقلّ بعد عمرو وابن أبي سرح حتى أنه لم يبلغ زمن الأمويين والعباسيين ثلاثة ملايين إلا مرات معدودات حتى اضطر بعض الولاة إلى وضع الجزية على من أسلم.
حسن إبراهيم حسن