مجلة الرسالة/العدد 265/صحيفة وصف وأخلاق
→ سخرية الأقدار | مجلة الرسالة - العدد 265 صحيفة وصف وأخلاق [[مؤلف:|]] |
حواء ← |
بتاريخ: 01 - 08 - 1938 |
النادي
للأستاذ حسن القاياتي
بكَّرتُ إلى ضاحية نضرة موْنقة ألفت أن أزور نادياً فيها يتألفني بشفوف حسنه الصامت، ويقر بعيني أن أبادله أنفاسي الحرار ببرد نسيمه الذي يأذن له فيتلعب بغلائل زائراته من الغانيات بأرفق من تلعب العيون بالقلوب، ويطيب لي أن أشهد سكونه المعجب لا يحس فيه غير نبض الجوانح بالحب، أو سُرى العيون بنظرة مدلهة
كم خلوت في هذا النادي بنجوى الأمانيَّ الحسان كأنما أتناولها من رقعته النضرة الغضة، وللأمانيَّ في الجو الطلق رفيف كرفيف نسمته يندَى على الكبد
أمانيُّ من ليلى حسان كأنما ... سقتنا بها ليلى على ظمأ بَرْدا
مُنىً إن تكن حقاً تكن أحسن المُنَى ... وإلا فقد عشنا بها زمناً رغداً
المتنزه أو النادي جنة معطار بالنسيم، يتيامن قليلا عن الطريق الشارع حيث المدينة، ويتياسر شيئاً عن المزرعة حيث الريف، فهو بينهما قائم يشرف على رقعة نضرة، كأنه الحد بين مصنوع الحسن ومطبوعه، وتلك من أكبر ما يغريني به فقد طبعت علىَّ خلال من حب الوحدة إلى غاية من التبرُّم
أما النادي في صورته فبناء مؤلف من طبقتيه السفلى والعليا، بيد أن عليا الطبقتين خلاء من كل ناحية، سقف على عمد، هل رأيت مظلة في يد؟
تشافهه ذكاء شارقة غاربة، فتطالعه في مشرقها بوجه وضاح متهلل يعيره في المشتى أنفاساً حِرارا كأنفاس الصبابة، وصفرة في أصائل المصيف كصفرة المحب، فاترة اللمح والحرارة، فناهيك من مصيف ومشتى
الخضرة حول المتنزه سائدة، ربما أربق عليها عسجد الشمس فهي بساط رائع، كأنما التقت عليه الخضرة والصفرة في سدى ولحُمة، تؤلف نقوشه من زهرات ترفات لم أر أملح من الفراش يتنقل عليهن تنقل النظر في خدود الأوانس المتوردات
وقد استدارت حوله شجرات قديمات قامت هنالك عطلاً من الثمر والنَّور، كأنها نصفات من الغيد ودعن عهد الشبيبة والذل، فهن سليبات من الحلي وإن كن لا يعدمن مسحة من الحسن. على أن تلك الشجرات ربما أجنت عصفورا لبِقا بالصفير يخرج رأسه في الفينات من حفافي ورق نضر كما تطل مغنية من شباك فيضرب الفتن مرات بجانبي منقاره كما تمسح القلم مرات يمنة ويسرة، أو كما يصلح المغني عوده، ثم يتكلم العصفور بصوت ساحر
وقد يشرف الجالس فيه على ضروب من الغراس حديثة العهد بماء ضحضاح إذا تمايلت فيه وصفها مترجحة كالراقصات أمام المرآة، ذلك حسن منثور فيه، أينما تلفت رأيته كالمحيا الفاتن تجيل طرفك فيه بين فنون من الروعة، فتنقله من خد إلى جيد، ومن طرف إلى خد
تلك حلية النادي في يومه الساحر الوضاح، أما هو في ليله فذلك الحسن كله والسحر، يقبل عليه الليل بقطعاته الجهمات فتتشابه سماؤه وأرضه: السماء روض زهراته الكواكب، والروض سماء كواكبه الزهرات، وتأخذ لألأة الكواكب بالبصر حتى يحسبها الناظر شقوقاً في ثوب الليل، فيرده عن وهمه أن ثوب الليل تشيب، وأنه بعد في مقتبل. أما القمر في ليالي القمر، فأن له على تلك الساحة طغياناً ساحراً كما تدفق النهر في الحديقة؛ وطالما رف بلبل في جوه فرجع ترجيعات مليحات آنقت الأسماع حتى ما يمارى أحد في أن تغريد الطيور من ألحان الطبيعة، وإن كان لا يحسن أن يقول: من أية نغمة هو، وإن تعرَّف حسنه بما أودعه النفس من حرارة الشغف
إن الناظر ليجيل طرفه فيرى على مدى بصره القطار الأبيض في جيئته وذهوبه يتدفع بين تلك الأنحاء السندسية، فيحسبه قناة ماء مسجور يتدفق بين الرياض، ويخيل إليه أن زمجرته هدير القناة، أو يحسبه وهو يمرق ليلاً في غشاء من ضوئه نيزكاً سابحاً يجرر ذيلاً من النور
أجل؛ إن الحياة المريرة النكداء أبخل من أن تخليَ منظراً طريفاً كمنظر هذا النادي من منظر قاس مرٍّ يشق على النفس والبصر. هذه مقبرة قديمة جثمت على قيد خطوات من النادي البديع إذا تلفت الجالس تعثر بها طرفه وشجته كما يشرق الشارب بالماء العذب، هذه المأساة بذلك الجذل سنة الحياة
ألفت غشيان هذا النادي في الأصايل وليلات القمر أسراب من غانيات الأسر فيهن المصرية والغربية، تغرب الشمس فيشرقن فيه يتفرجن من يوميات البيت الجاهدة، ويستسلمن إلى سمر حار ممتع يرسل نفوسهن على السجية؛ وتارة هو ملتقى صفيين يخلوان إلى نجوى الشوق في غفلة من الوشاة
إن الوجوه لتتقابل هناك متعارفة مؤتلفة لكثرة ما تلتقي لديه، حتى لقد ترعى بين زائريه حدود الآداب فيعرف أحدهم لجليسه كرسيه ومجلسه، وكأنما أجد لهم طول الإِلف ضرباً من التفاهم يلفهم فيه أسرة واحدة يرمون المحدث فيهم بالنظر الشزر. أنا جالس في ندينا الساعة حيث أكتب هذا، والدولة لليل، وقد نبض سلك الثريات بالنور فأضاءت، وحوالي خفرات من الأوانس محجبات وسوافر يبسمن لذويهن فيذبن الأسى، تحلل الظلمة تحت الثريات، ويفاوحن الروض بعرف زكي كأنما يرود لهن القلوب، والعَرف من بَريد الحب
شدَّ ما يسترسل الأوانس هناك في تبذلٍ ومجانة يتجاوزن بهما حد الرشاقة والدل إلى الخلاعة، كأنهن حين شهدن تبرج الطبيعة تشهَّين أن يسايرن حسنها السافر فساقطن عن حر الوجوه براقع شفافة كأنها أغشية البلور، وأخذن في مرح بحت يعملن فيه الرشاقة والدل
تلك التي انتبذت ناحية طفلة ناهدُ في سنِّ البدر وحسنه، أحسبها تفلتت الساعة من المدرسة لما يلوح عليها من غرة بالتلفف
جلست الفتاة تتنظر خديناً لها فهي تتلفت متململة تلفُّت الطائر على الغدير، حتى أقبل طلقاً وضاح الأسارير فسلم ثم عدل بها إلى مكان يجور عن مساقط النور ومواقع النظرات، ألف العشاق أن ينزلوه، يسرهم أن يجمعوا بين كحل ظلمته وبين العيون فما ينيره غير جبين وضاح
جلسا معاً هناك، وجه إلى وجه، وساق على ساق، في أمن من سرى الأبصار والظنون:
أقول وجنح الدجى مُلْبِدُ ... ولليل في كل فج يدُ!!
ونحن ضجيعان في مِجْسَدٍ ... فلَّله ما ضمن المجسَدُ!
أيا ليلة الوصل لا تنفدي ... كما ليلة الهجر لا تنفدُ
ويا غَدُ إن كنت بي راحماً ... فلا تدْن من ليلتي يا غدُ
يتناجيان حينا بحرِّ الصبابة فيضرِّج الحياء خدها الرقيق: راض بحكمك فاعدلي أو جوري ... ولك المكانة فاهجري أو زوري
ناجيت فاتنتي فأشرق خدُّها ... بالحسن وقْعَ النور في البلور!
وربما سكتا عن حديث البشاشة فتكلمت العيون!
متحابان غاب عن يومهما العَذَل فدعهما حيث شاء لهما الحب ونجواه
وتلك عقيلة نَصَف على أنها مستتمة الملاحة لبقة بالغزل والتصبي، ذات وليد مرضع تحمله وصيفة زنجية متلففة. أقبلت العقيلة تمشي إلى رجل رزين الجلسة هو قرينها فيما يخيل إلى ناظره، أفنى هزيعاً من الليل في توقعها، فالآن حيث أقبلت تخطر حتى جلست إليه في غير تحية ولا كلفة. وإني لأشهدها الساعة تتململ حائرة النفس، وتتخبط برجلها تخبط الظبي في حبالته لترى الجلوس ساقها الضخمة الملتفة كأنها لفائف البللور، وتسارق جاراً لهم النظرات تنتحل لها العلات حذراً من يتقظ الريبة في نفس القرين، وتكثر أن تكشف جيب الثوب عن ناهد رخص مستدير تعلل به الوليد، وجل ما تعتمده أن ترى النظارة وبخاصة ذلك الجار أنها تحمل غض الرمان:
بنفسي من لو مرّ برْدُ بنانهِ ... على كبدي كانت شفاء أنامله
ومن هابني في كلّ أمر وِهبته ... فلا هو يعطيني ولا أنا سائله
وهذه فتاة أخرى تتردد بين الصبيحة والدميمة، على نصيب من رشاقة الدل واللباقة، ولكنها طياشة لا يحتويها مكان، تغرق في هذر وضحكات خليعة تستثير بهما هوى الجالسين كما يطارد الصائد الظبي إلى الحبالة فإذا هو أخيذ:
فرقت إني رجلٌ فروق ... من ضحكة آخرها شهيق
تجربات عدة صادقة أفدت منها أن العفاف لون من ألوان المرأة لا جوهر، وأن المرأة لا يسلم لها شرفها الرفيع كائنة من كانت إلا محرزة مكنونة، أو يراق على جوانبه الدم، وإنها إذا استشرفت للريبة استبيحت فلم تعتصم
ذلك رأيي في المرأة جد سديد، وإلا فما هذه النظرات الخائنة التي تخترق الصدور إلى الأفئدة؟ والتفلت من كل عقد اجتماعي أدبي؟
إن المرأة لتحسب أن من وحي الفطرة الزهادة في الأليف الفرد، وذهاب الحسن طلقاً مع الهوى كأنما تخشى عطلة الغزل، وتنفس بالحسن على التملك فيما يقول الإعرابي الغر يقولون: تزويج وأشهد إنما ... هو البيع إلا أنَّ من شاء يكذب
وكأنما تقول:
إن المرأة مخلوقة من جو هذا الكون ونسيمه، فأخلق بها أن تروح في حرية ذلك الجو الطَّلق
يعز علي أن يكون رأيي في المرأة هذا الحكم الجافي، ولو آثرت العاطفة دون العدل لم يكن أحد آثر من المرأة بالترفق
إن اليد التي تصرف القلم بالعاطفة لا تحسن إلا حمل الدف أو العود
هذا كله وأكثر منه في طبقة النادي العليا، أما طبقته السفلى فأن لها شأنا غير تلك نصفه على أنه أعف وأنزه. هذا قس رزين مثر من القساوسة خلفاء المسيح صلوات الله عليه، يحمله إلى النادي مركب سريٌّ، وله ضيعة فخمة، كلٌّ ما يلوح عليه من سمات الدين لحيته وطيلسانه، ومسبحة يديرها آونة، لا يكاد يساجل جليسه إلا حديث الضيعة وقصر يبتنيه؛ ولكنه غر كريم بكل ما يشهده حوله من هذه الحياة الماجنة، يصف الهداية كما تصفك المرآة وكأنه في هذا النادي المستهتر بقية الهدى في فؤاد المفتون!
حبيب إلى نفوسنا أن يتنزل رجال الدين من علياء مجدهم وتدينهم إلى حيث الطبقة المتحضرة اغتباطاً بدنوِّ الدين المصلح الرشيد من المدنية الفاتنة المسترسلة، وأنى يكون ذلك؟
تريدين كيما تجمعيني ومالكاً ... وهل يجمع السيفان ويحك في غمد؟؟
وذلك رومي يجلس على مقربة مني لا ينفك فمه يختلج بهمس تتحرك له شفتاه كأنه ممرور أو موسوس، وكأنما يعد شيئاً يعقد له أنامله. وماذا عسى يعد هذا المنكود إلا أيام عشيق هاجر كأنه يتبرم بالحب؟ وهل لأحد على حبه خيار؟ ذلك طماح شديد
دعي عد الذنوب إذا التقينا ... تعالي لا أعُدُّ ولا تعدَّي
أما تلك الفتاة اللعوب الشرهة النظرات التي تتصدر في حفل لها فيه عشيق، فقد ألبس علينا أمرها، أمستباحة هي أم حَصان مخبأة؟ فإنا لفي هدأة من ليل ساج يكاد أحدنا يحبس فيه نبضه خشية أن يقطع سكونه، ويترفق بالنفس خيفة أن يضرمه بحرقته، إذ خلصت إلينا مع النسيم نغمة فاتنة ساحرة، يحملها حمل النفحة مجهولة المهب، على أنها حلوة الخطرة تمسك الحشاشة:
يا ساقيَّ أخمر في كؤوسكما ... أم في كؤوسكما هم وتسهيد؟
أصخر أنا؟ مالي لا تحركني ... هذي المدام ولا تلك الأغاريد؟
ماذا لقيت من الدنيا وأعجبُهُ ... أني بما أنا باكٍ منه محسود
واطربا لك أيها الشادي! وحر قلبي عليك! لقد أحسنت وأربيت. من أنت جعلت فداك؟ ومن أية النواحي مَسرَى الموت؟
تلفتت العيون بعد أن تلفتت القلوب تطلب مغدي الصوت فإذا فتاتنا اللعوب هي التي ترسله حاراً كزفرة المحب، وإذا هي مطربة نابهة من المعروفات كأنما تناست مجلسها من الحفل وخيل إليها المرح أنها جالسة بين زملائها على (التخت) فانفرجت شفتاها بتلك الأغنية ثم بدا لها أن تقني الحياء فأمسكت ولم تبرح إلا مكرمة مفداة
بينما نصغي بأسماعنا إلى غناء الآنسة الأخاذ دخل إلى النادي رجل عسكري عظيم في (رتبة اللواء) ألف طروقه يتحدث فيه إلى أستاذ مدرس من المعممين فيزأران بالحديث حتى يستحيل النادي بصوتهما كلية للفنون أو معئرك حرب، يزخر مرة بالبحث والتحليل، ويفهق أخرى بالصليل
يلقى المنية في أمثال عدتها ... كالسيل يقذف جلموداً بجلمود!
ولعهدي لهذا الصوت الصاخب ينشد شعراً مرة، فليت شعري من راض ذلك الطبع العصيَّ على رقة الأدب، وتناشد الأشعار؟ أجل، إن الراضة يأخذون الليث الهصور بالرياضة والتأنيس حتى يصبح أنيساً طيعاً. هذا كلب صاحب الناديقد شهدت من يلقي له قطعات السكر فيأكلها التهاماً، فلما سمعت الشعر يمتضغه العسكري العظيم، قلت: ما أشبه الشعر في فم الرجل الجاف الخشن بالسكر في فم الكلب الشره! وإن من الشعر لحكمة:
وهذا الرومي صاحب النادي يأبى كل الأباء أن يعد النرد للاعبين في الطبقة العليا من ناديه إغلاء بهدوء الزائرين، أفلا تكون للضابط العظيم شمائل ذلك الرومي الجافي فيعفينا بل يعفي زائراته الرقيقات من الصخب، كما أعفانا صاحبه من (النرد) بل ليت لنا من يقول له: رفقاً أيها الأسد بالظبيات أو القوارير
ليس فيما يقطع السكوت في الخلوات أشهى إلى المستريض المبعد مسه السغب من نداء الباعة على الطعام الشهي اللذّ، والطعام كله على تلك الحالة لذ شهي، بل هو أهنأ الطعام وأمرؤه، وإن فيمن يضمه نادينا الحفيل رجالاً لهم شارة تشهد بغضارة ونعمة. ذلك السيد السري المتصدر واحد منهم، لا تبرح تحت طاعته سيارة وسائق فاره، وهو إذا عاد إلى مثواه عائد لا محالة إلى قصر مشيد وخدم، وبَدِيه إن له طاهياً محسناً لا يصنع طعامه المعجب فحسب، بل يصنع معه الشهية لآكله. وها هو بحيث أراه مكب على قطعتي جبن وخبز ينحى عليهما بأنيابه إنحاء الجائع المقرور!
لقد سوت المسغبة ونزوح ساعة عن المدينة بين السيد الشريف والبائس الذي يتبلغ بالخبز القفار. وتلك حسنة للخلوات تقرّب بين الطبقات بالتسوية فتتركهم سواسية كما هم في رأي الفطرة، سيان الشريف والدون. معدلة من الطبيعة ونصفة؛ على حين تقضي سنة المجتمع ونظمه بتفرقة جارمة
مخلسنا في النادي تحت كرمة عنب فينانة تظل ناحية منه، وتتدلى علينا بأوعية المدام أو العناقيد كأنها ثريات النور
تحملي أوعية المدام كأنما ... يحملنها بأكارع النغران
أذكرتني الكرمة بالراح، وإن كنت لا أشربها والحمد لله الذي يحمد على المحبوب والمكروه، كما تذكر النتيجة بالمقدمات، فذكرت كذلك أن النادي معطش منها، تعطل فيه الأكواب، وأن صاحبه الخبيث يتحرق لهفة لأنه استجدى الأذن ممن يملكه بأن يديرها فيه فلم ينعم له بحمد الله. وخيل إلي أنني تعرفت من وقوع الطير على العناقيد ونقره حبات العنب، لأية علة كانت عربدة العصافير والتغريد. ولو أتيح للخمار الداهية أن تحتث عنده كؤوس الشراب لروعنا بعربدة العيون الساحرة النشوى، فصرنا إلى ناد طروب تعربد سماؤه وأرضه وتُغرد طيوره وغيده!
لا تسقنيه فأني أيها الساقي ... أخاف يوم التفاف الساق بالساق
إن الشراب تهيج الشر نشوتُه ... فميز الشر منه واسقني الباقي
فضيت من الرياضة كل حاجة، وتزودت لرئتيَّ من النسيم العليل، فتشهيت العودة وأخذت سمتي إلى بيتنا الصغير، فإني لجالس فيه صبيحة تلك الليلة جلسة المتعب المكدود أتمثل ما مر بي بالأمس، إذ دخل علينا آنستان فاتنتان كأنهما صورة الحسن، فلما سمعتهما تسألان عني قلت: لبيكما، أنا ذاك. فأقبلتا فجلستا في تخفر واستحياء متصنعين؛ بيد أنهما تخبآن السحر في العيون ثم تحدثتا إلي بأنهما أقبلتا من مدرسة فلان في طلب المسعدة ليتامى قسمها المجاني ويتيماته - فيما زعمتا - ودفعتا إلي بصحيفة أعدتاها للمتبرعين يثبتون فيها الأعطيات، ثم التوقيعات، فتسمحت نفسي بقليل نذر يتذمم الجواد المفضل منه، ثم وقعت في الصحيفة (صانع خير!) ومن يبخل عند الأوانس؟ فانصرفتا في امتنان وحمد. ويمين لا عاهر ولا حانث، ما أعرف أصانع خير أنا أم صانع شر؟ ولكني أعرف أن هذه أساليب هذا العصر، أو هذا البلد، وطرازه الطريف في الاستجداء الكاذب المخزي لمعونة العلم والبر، وأين العلم والبر؟
في الناس من يقتني نفعاً بمُندِيةٍ ... كما جرت قبلة (في سوق إحسان)
وا حر قلباه! حتى البيوت فيها أوانس المجتمعات العابثات؟
لمحة دالة من صفة نادينا الذي يتألفنا بجماله، وهو على ما فيه من هنات إنما يصف المجتمع ونفسياته، كما تصفه كل منتدياتنا، وخلف ما ذكر ما لم يذكر استحياء من الأدب والفضيلة
إن الأندية مرآة صقيلة للشعب تصفه على ما هو عليه من دمامة في صورته الخلقية أو وسامة
(السكرية - دار القاياتي)
حسن القاياتي