مجلة الرسالة/العدد 262/محمد إقبال
→ حول أدب الرافعي | مجلة الرسالة - العدد 262 محمد إقبال [[مؤلف:|]] |
تيسير قواعد الإعراب ← |
بتاريخ: 11 - 07 - 1938 |
للدكتور عبد الوهاب عزام
منذ شهرين خفت صوت كان يقصف في أجواء الشرق ليوقظه، وخبا برق كان يتلألأ في الظُلَم المتراكمة يضيئها، وطفئ مصباح كان نوراً للسالكين في هذه الغياهب، وهدى للحائرين في هذه الفتن، وسكن قلب كان يحاول أن يزلزل الأرض بخفقانه، وينشئ الناس نشأة أخرى بإيمانه، وهمدت نفس حرة كانت تكبر على حدود الأوطان والحدثان، والزمان والمكان
منذ شهرين فقد الناس عامة، والمسلمون خاصة شاعراً مفلقاً، ومفكراً مُبدعاً، وفيلسوفاً حرّاً؛ وافتقد شباب المسلمين في الهند وغيرها حامل اللواء الذي كان يدعو إلى السمَّو فوق كل عقبة، والسير وراء كل غاية، ويناديهم صباح مساء
آه للعشق الذي قد ذهبا ... ملأ الأرض ضياء وخبا
رُزق الميلاد في أرض الحرم ... وأتاه الموت في بيت الصنم
كلا. ما خفت الصوت، ولا خبا البرق، ولا طفئ المصباح، ولا سكن القلب الكبير، ولا همدت النفس الحرة، فكل أولئك خالد في آثار إقبال
- 2 -
كان محمد إقبال عقلا كبيراً، وقلباً عظيما؛ درس ووعى مدنية الإسلام ومدنية أوربا ثم قام ناقداً لا مقلداً، وحرّاً لا عبداً؛ فكان من عظم عقله، ووقدة ذكائه، وكبر نفسه، وسموَّ قلبه، ومن العلم الواسع والإلهام الإلهي هذه الآثار الخالدات
وهب إقبال فكره وقلبه للمسلمين يوقظهم ويعلمهم، ويصف داءهم ودواءهم، ويُشيد بماضيهم، ويبشر بمستقبلهم، ويصوغ وحي عقله وعاطفة فؤاده شعراً يوقظ النفوس الهاجدة، ويشعل الهمم الخامدة بل يكاد يبعث الأموات، ويحيى الموات، تنسم فيه نفحات صوفية، وتنير في جوانبه لمعات الاهية. وقد صدق شاعر الإسلام محمد عاكف بك رحمه الله إذ قال: لو أن جلال الدين الرومي صاحب المثنوي بعث في هذا العصر لكان محمداً إقبالا
- 3 - نظم إقبال عشر منظومات نشرت على هذا النسق:
1 - أسرار خودي (أسرار الذاتية)
2 - رموز بي خودي (رموز اللاذاتية)
3 - بانك درا (صوت الجرس)
4 - بيام مشرق (رسالة المشرق)
5 - زبور عجم (زبور العجم)
6 - جاويد نامه (كتاب جاويد سماه باسم أحد أبنائه)
7 - مسافر
8 - منظومة نظمها أثناء الحرب الحبشية وجعل عنوانها (وبعد فما العمل يا أمم الشرق)
9 - ضرب كليم
10 - بال جبريل (جناح جبريل)
ومات وهو ينظم أهنك حجاز (لحن الحجاز)
ومن هذه المنظومات التسع ثلاث بالأوردية والأخريات بالفارسية
وله مؤلفان باللغة الإنكليزية: الأول (تطور ما وراء الطبيعة في إيران) والثاني محاضرات أراد فيها أن يبني العقائد الإسلامية على أسس جديدة وسماها (إصلاح الأفكار الدينية في الإسلام)
ولا يتسع الوقت للكلام عن هذه المنظومات وما ضمنت من شعر رائع وفلسفة عالية، فحسبي أن أشير إلى كتابيه أسرار خودي ورموز بي خودي، فقد شرح فيهما فلسفة في الذاتية واللاذاتية، وبين أن العالم قائم على الذاتية وأن على الإنسان أن يقويها ما استطاع، ثم بّين كيف تلتئم الذاتيات القوية في الجماعة واتخذ من تاريخ المسلمين رجالهم وجماعتهم مُثُلا لتطبيق هذه الآراء
وكذلك أشيرُ إلى كتابه (بيام مشرق) الذي جعله جواباً للشاعر الألماني جوته صاحب (ديوان الغرب) وفيه صوَر من الشعر والفلسفة يفخر بها الشرق على الغرب، وفيه نقد لكثير من مذاهب أوربا وفلاسفتها
ثم أشير كتابه جاويد نامه الذي قصَّ فيه رحلته في الأفلاك ولقاءه عظماء المسلمين في العصور القريبة والبعيدة. وكان دليله في هذه الرحلة جلال الدين الرومي، ولهذا الرجل العظيم على إقبال تأثير عظيم
- 4 -
منظومات إقبال فيها سعة النفس العظيمة التي لا تحد؛ ولكن يستطيع قارئها أن يتبين أصولا خمسة يدور حولها كثير من شعره:
1 - الحياة هي الجهاد الدائم وتسخير قوى العالَم
(ما الحياة؟ هي أن تأسر نفسُك هذا العالم. فكيف تجعل نفسك لهذا العالم أسيرة؟)
2 - وإنما يصلح الإنسان للجهاد بتقوية نفسه، واستخراج كل ما فيها من قوى. وقد بنى على هذا مذهبه في الذاتية وشرحه في كتاب (أسرار خودي). . .
ومن كلامه في بيام مشرق: (أخرج النغمة التي هي أساس فطرتك. أيها الضالَّ عن نفسه! خل نفسك من نغمات غيرك.) ويقول على لسان البراعة والحباحب: (لست كالفراشة اصطلي بنار غيري. ولكني أشتعل بنفسي ولا أحمل لأحد منَّة؛ إذا صار الليل أحلك من عين الظبي أنرت بنفسي لنفسي الطريق)
وتقتضي هذه الذاتية الحرية، وحرَّية إقبال ألا يحدَّ النفس شيء حتى الزمان والمكان
هو بالأمس خبير بغدِ ... وهو اليوم نجيُّ الأبد
وقد بين في أسرار خودي الفرق بين العبد والحر في قوله:
(العبد ضال في ليله ونهاره، والحر يضل في قلبه زمانه. العبد يخيط الليل والنهار على نفسه، وينسج من الأيام كفنه، والحر ينسج على الزمان عزائمه - العبد طائر في شبكة الصباح والمساء، حرمت روحه السبح في الهواء، وصدر الحر الهمام، قفص لطائر الأيام. فطرة العبد تحصيل الحاصل، وخواطره تكرار قاتل. ومقامه من الجمود واحد؛ وصوته بالليل والنهار راكد. والحرَّ كلَّ حين خلاق يسكب نغمات جديدة في الآفاق، فطرته لا تحتمل التكرار، وليست طريقه حلقة البر كار، العبد في سلاسل من زمانه، والقضاء والقدر ورد لسانه. وهمة الحرَّ مشيرة على القضاء، تصوَّر يده الحادثات كما تشاء)
4 - العلم وحده حجاب دون الحقائق وعقبة في سبيل الحياة - كما يقول ناحت صنم وبائع صنم وعابد صنم لا بد مع العلم من العشق. وهو يذهب في هذا مذهب الصوفية كفريد الدين العطار في الكلام على العلم والعشق، وهم يعنون بالعشق الوجدان اليقظ وهذه الحرقة التي تسمو بالإنسان عن السفاسف إلى العظائم وتدفعه إلى الحق والخير، وتوجهه إلى الله. وقد ضرب في ذلك مثلاً ابن سينا وجلال الدين الرومي؛ قال: ضل أبو عليَّ في غبار الناقة ونالت يد جلال الدين ستر الهودج، هذا دار مع الفتاة على وجه الماء وذاك غاص في اللجة فظفر باللآلئ
5 - هذه الأصول في فلسفة إقبال لها مُثل لا تحصى في مقاصد الإسلام وسننه وتاريخه. وهو يكره النزعات الوطنية الضيقة ويشيد بالأخوة الإسلامية العامة. وقد بدأ نشيده الذائع في الهند والذي يسمى النشيد الملي بقوله: وحين وعرب هماراً هندوستان همارا مسلم هين هم، وطي هم ساراجهان همارا (الصين والعرب لنا والهند لنا، نحن المسلمون وطننا كل هذا العالم)
وقال في بيام مشرق: إن الناس لاموا طارق بن زياد حينما أحرق السفن وقالوا هذا بعيد من الشرع والحزم. فسل سيفه وقال الأرض كلها ملكنا لأنها ملك ربنا)
- 5 -
كان إقبال واثقاً بنفسه، معتداً بآرائه يتدفق في شعره تدفق البحر لا يعرف خوفاً ولا تردداً. وكان يرى أحياناً أنه بشير المستقبل، وأنه صوت شاعر الغد، وأن العصر الحاضر لا يدرك معانيه، والجيل القائم ليس كفء كلامه
يقول:
(أنا شمس حديثة الميلاد، لا تعرف رسوم هذا الفلك، كما يغمر النجوم ضياؤها ويرقص على صفحات البحار شعاعها. . . أنا نغمة لا تبالي بالمضراب، أنا صوت شاعر الغد. . . إن عصري لا يفهم الأسرار. . أنا يائس من الأصحاب القدماء، وإن طوري يشتعل ليظفر بكليم، بحر أصحابي كالقطرة لا تزخر، وقطري كالبحر فيها طوفان مضمر. نغمتي من عالم آخر وجرسي لغير هذه القافلة. . . كم مرت بهذه الصحراء قوافل تمشي الهوينى كما تسير الناقة ولكني عاشق الصياح إيماني وضوضاء الحشر طليعتي أنا نغمة ولكنها أكبر من الوتر، ولست أشفق على هذا العود أن ينكسر
كم شاعر ولد بعد الموت أغمض عينيه ليفتح عيوننا وبدا من وراء الموت كما تنبت الأزهار في تربته.
ذلكم الرجل الذي فقدناه أمس، والذي يدرك عارفوه ماذا فقد المسلمون منه.
كان إقبال يتمنى أن يموت في الحجاز فإن تكن فاتته هذه المُنية فله بعض العزاء في أن يستمع العالم الحديث عنه من البيت المقدس، من المسجد الأقصى من قبلة المسلمين الأولى
عبد الوهاب عزام