مجلة الرسالة/العدد 262/الفروسية العربية
→ تيسير قواعد الإعراب | مجلة الرسالة - العدد 262 الفروسية العربية [[مؤلف:|]] |
رسَالَة الشِّعر ← |
بتاريخ: 11 - 07 - 1938 |
للميجر كلوب
ترجمة الأستاذ جميل قبعين
- 2 -
الحرب
لا تتجه نظرة البدوي في الحرب إلى ربح المعركة كما قلت سابقاً. وإنك لا تجد فرقاً بين القرون الوسطى في أسبانيا أو مغامرات ريكاردوس قلب الأسد في حروبه عندما يصطف الفرسان ويتبارز الفارس والفارس وبين حروب البدو، وقد انقرضت هذه العادة منذ عشرين سنة فقط. إن حب المفاخرة وتطلب الشهرة واحترام تقاليد أساليب الحرب مع عدم وجود الكراهية الشخصية بين الفريقين المتحاربين هي الروح التي تسيطر على المعارك. وإن البدوي يجد في الهجوم ليلاً على مخيم العدو نذالة بل جبنا؛ وإن معاونة الجرحى وعدم التعرض للنساء في الحرب أمر عادي لديه. ومن تقاليد البدو وعاداتهم إذا ما التقطوا جريحاً أو أخذوا أسيراً أن يعاملوه باحترام ويقدموا إليه طعاماً وشراباً ومأوى إلى أن يشفى، ومن ثم يزودونه بالمؤونة وببعير ليذهب إلى قبيلته بسلام. إن العقيدة أو الفكرة التي نخرج بها من كل هذه التقاليد والاعتبارات هي أن البدوي يهتم أن يحارب بشرف قبل أن يهتم بربح المعركة
والمرأة هي التي تثير حماسة الرجال في الحرب، وكما قلت تحكم على بطولتهم، وقد جرت العادة أن تحضر النساء الموقعة راكبة فوق الجمال في كتبان مزينة، وكثيراً ما تبرز المرأة من الهودج محلولة الشعر كاشفة الصدر وهي تتغنى بأعمال البطولة راوية أعمال الأبطال السابقين، وكثيراً ما تنادي الفرسان بأسمائهم؛ ولا أرى ضرورة لأن أذكر أن الطرفين كانوا يعفون عن النساء أو لا يقربونهن
ومن جهة أخرى فان الإبل كانت تلعب دوراً هاماً في الحرب. إن الإبل من أهم الضروريات للبدوي، ومن المعتاد أن اغتنام قطيع الإبل دليل على انتصار الفريق الغانم على الآخر، ولما كانت الإبل هي ثمرة الحرب فقد كان شيوخ البدو يحرصون عليه ويتوارثونها جيلاً بعد جيل، وقد جرت العادة أن يسمي الشيخ قطيعه باسم خاص. إن هتاف فرسان البدو في الحرب ينحصر في اسم حبيبة الفارس أو باسم أخته أو باسم قطيع جماله. فيهتف مثلاً (أنا أخو جوزا - فيصل) أو (لعيون حميده) أو (خيال العليا - النوري) والعليا قطيع من الإبل
ومن الحكايات التي تروى عن سلطان بن سويط، وقد كان شيخاً لعشيرة الظفير منذ ثلاثة أو أربعة أجيال، أن جماعة نهبت أموال فتاة على حدود الحجاز؛ ولما كان سلطان مشهوراً بشجاعته وفروسيته فقد هتفت الفتاة: (أين أنت يا سلطان لتدافع عن فتاة) وقد تناقل العرب هذه الحكاية حتى وصلت إلى سلطان فأقسم لينتقمن لها، وكيف لا وقد استغاثت به ولو على بعد مئات الأميال
وسأروي لكم حكاية حقيقية وقعت منذ جيلين فقط: - اشتهرت في الجنوب قبيلتا عتيبة وقحطان بعدائهما الشديد وكثرة غارات بعضهما على بعض، وقد كان لابن هادي شيخ قحطان ابنة صارت مضرب المثل عند العرب في الجمال - وقد رفضت كل الذين تقدموا لخطبتها. وكان ابن حميد اشتهر بشجاعته وفروسيته وكثرة غزواته الموفقة التي شنها على قحطان حتى أقسم شيوخ قحطان يوماً أنهم سينحرون إبلهم في اليوم الذي يأسرون به ابن حميد. وقد حدث أن تقدم رجل لخطبة ابنة هادي، فلما راجعها والدها بهذا الشأن أجابته قائلة: إنني لن أتزوج إلا أشجع فرسان العرب وأكرمهم وأجملهم. وقد كان رجل صليبي يسترق السمع فسمع ما دار من الحديث بين الوالد وابنته، وعندما خرج والدها دخل عليها خدرها وقال إن هذه الصفات لم تجتمع يا مولاتي إلا لابن حميد. فأجابته: ليتني أراه ولو مرة واحدة. فنقل الصليبي هذا الحديث لابن حميد. وقد كانت شهرة بنت هادي وصيت جمالها قد سبقا وصول خبرها إلى ابن حميد فكتم هذا الحديث في نفسه حتى إذا جن الليل غادر منازل عشيرته ذاهبا إلى منازل قحطان وتسلل بين البيوت حتى دخل خيمة الفتاة وأيقظها بلطف وعرفها بنفسه ففرحت به، ولكن لم تكد تهدأ أعصابها بعد فرحها بلقائه حتى جزعت عليه لهذه المغامرة فطمأنها. وظلا يتسامران حتى مطلع الفجر. وكانت العادة أن يجتمع البدو عند شيخ القبيلة صباحا لشرب القهوة وللتداول في شئون العشيرة. فلما اجتمع الشيوخ خرجت الفتاة إلى والدها قائلة: يا أبت أطلب أمنية فهل تعدني بإجابتي إليها؟ فأجابها: إن أمنيتك مستجابة قبل أن تطلبيها. عندئذ قالت اشهدوا يا شيوخ قحطان على قول والدي. فأجابوها: نحن شهود على قوله. فقالت: حينئذ أريد أن تُبقي على بن حميد. فأجابها والدها لا تكوني سخيفة! هذا عدو قبيلتنا؛ وعلى كل حال بيننا وبينه مائتا ميل على الأقل. فأجابته: كلا إنه في هذه الخيمة. فقام والدها يريد الرجل لينتقم منه فاستوقفته منادية شيوخ قحطان الذين تدخلوا في الأمر وذكروه بوعده، فخضع للأمر الواقع، وهنا خرج ابن حميد ليتزوج حبيبته بينما نحر شيوخ قحطان إبلهم لا لأسر ابن حميد بل احتفاء بزواجه من فتاتهم.
هذه الحكاية ترينا بجلاء أن غاية البدوي الفخر والمجد لا النصر، والحرب وسيلة المجد وليست وسيلة الكسب. وأمثال هذه الحكاية كثيرة لا تحصى.
لا يكون حديثنا عن الفروسية تاما دون التحدث عن صلاح الدين. في الحقيقة أن صلاح الدين كردي، وقد قاتل لأجل الدين لا لأجل المجد والشرف، ولكن روح الفروسية ظهرت بجلاء في كثير من أعماله. حينما حاصر صلاح الدين قلعة الكرك لأول مرة كان أميرها همفري أوف تورن يعقد قرانه على اليزابث أخت ملك القدس. ولما علم صلاح الدين بالأمر منع جنوده عن رمي السهام على القلعة، كما أن صاحبها أرسل إلى القائد المسلم الخبز والخمر واللحم من وليمة العرس. ولما خرج ريكاردوس قلب الأسد للدفاع عن يافا بالبركان كان راكبا دابة استعارها من أحد السكان، ولكن صلاح الدين الشهم أرسل إليه فورا جوادين مع خادم ليركبهما البطل العربي في المعركة
ومثل آخر من أمثلة الفروسية ما فعله القائد الفرنسي الباسل في فونتانتوني إذ دعا الحامية الإنكليزية إلى إطلاق النار أولا.
إننا في وقتنا الحاضر قد نزدري مثل هذه الأعمال ولكن يجب علينا ألا ننسى أن عقيدة البدوي في الفروسية هي القيام بالأعمال التي تنيل المجد والفخر لا كسب المعركة.
الكرم
يحمل الكثيرون من الأوربيين - كنتيجة لزيارتهم للشرق - فكرة سيئة عن العرب لكثرة المتسولين، ولكني أصرح بأن الذين يتسولون هم الطبقة الدنيا من العرب؛ أما الطبقات الأخرى حتى التي يكثر فيها الفقراء فهم لا يتدانون لمثل هذا العمل، وإذا ما أخذ البدوي دراهم (بخشيشا) فأنه يأخذها ليكرم بها. لأن البدوي كما قلت لا يهتم لمتاع هذا العالم - وهو لا يتردد أبدا في نحر آخر ما يملكه من الإبل لإطعام ضيف يمر به ولو كان هذا الضيف غريبا.
توجد قبيلة من البدو قاطنة في شمال الحجاز فقيرة معوزة حتى أن أفرادها لا يملكون خيماً يأوون إليها وهم يقطنون الكهوف، ولكنهم إذا ما رأوا ماراً بالطريق ركضوا نحوه وأحضروه ونحروا له ما يملكون من المواشي
(يتبع)
جميل قبعين