الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 262/الإسلام في فارس

مجلة الرسالة/العدد 262/الإسلام في فارس

بتاريخ: 11 - 07 - 1938


للأديب حسن حبشي

لعل أبلغ معجزة للإسلام هي تلك السرعة التي وسِم بها انتشاره في رحاب المعمورة، حتى لقد خفق لواؤه في مدي قرن من الزمان على كثير من بلدان آسيا وإفريقيَّة، وتغلغلت شريعته وحبه والإيمان به في نفوس قوم درجوا على الشرك، وكانوا لا يألون جهداً - هم وأسلافهم من قبل - في صدِّ كل عادية عنه. ومن مظاهر هذه المعجزة إسلام التتر بعد أن كاد الإسلام أن يحتضر من خطبهم وتدميرهم، فلقد كانوا (المصيبة الكبرى التي عقّتِ الأيام والليالي عن مثلها، فأن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها) فإذا هم - بعد اعتناقهم إياه - من أكبر الذَّابين عن حياضه، المدافعين عن بيضته. ويذهب السير توماس أرنولد في تعليله لهذا الانتشار والسبق الذي اختُص به الإسلام دون غيره إلى ما أتَّسَمَت به العقيدة الإسلامية من بساطة لا تعقيد فيها، وإلى وحدانية الله، وإلى أن محمداً عبده ورسوله

لقد درج الإسلام في بلاد الحجاز، ثم ما لبث أن اتسعت رقعته وامتدت فتوحه شرقاً وغرباً فأصبحت العراق وفارس ومصر والشام وفلسطين وبلاد الخزر وإفريقية والنوبة والهند إمارات إسلامية قد انتقلت من الشرك والاضطهاد والنضوب الفكري إلى وحدانية مشرقة، وعدل أظل الجميع بفيئه، ونهضة اجتماعية وذهنية غيرت معالم الحياة بأسرها. ولا غرو فالإسلام في جوهره دين عقلي بأوسع ما تدل عليه هذه الكلمة من معنى

وتاريخ الإسلام في مبدئه هو تاريخ تلك الأقطار المفتوحة، وحسبنا في هذا البحث الموجز أن نرى مدى انتشاره في إيران وإن ذهب أهلها شيعاً وتباينوا عقائد

ويرتبط تاريخ إيران الإسلامية أيما ارتباط بهذه الجماعات التي كانت تفد عليها متاجرة أو مهاجرة من جهة، ومن جهة أخرى بتاريخ اللملوك والخانات الذين كان لبعضهم فضل الجهاد في سبيل نشر الدين، وإن وجدوا في كثير من الأحيان إقبالاً من الشعب نفسه يرجع في جرثومته إلى أسباب عدة ليس هذا مجال بحثها. كما أن بعض القواد لم يدخر وسعاً في سبيل نشر الإسلام فكان ابن القاسم فاتح بلاد الهند داعيةً من دعاته، وأحد الحريصين على بث مبادئه العاملين على بسط نفوذه، فلقد عرض على أمراء الهنود اعتناقه، ولم يكن الطمع في الغنيمة فحسب هو الدافع للجند العرب المسلمين على الاستبسال ولاستماتة في هذه الفتوح العظيمة؛ تلك الروح التي تتمثل في قول خالد ابن الوليد حين لاقاه أهل الحيرة فقال لهم (أدعوكم إلى الإسلام فإن أنتم فعلتم فلكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم، وإن أبيتم فأعطوا الجزية، فان أبيتم فقد أتيتكم بقوم هم أحرص على الموت منكم على الحياة)

لقد كان فتح العرب لبلاد فارس حادثا جديدا في تاريخ الإسلام من الناحتين الفكرية والاجتماعية، كما كان له أثره القوي فيما بعد - في الناحية السياسية والدينية لِما ظهر عند أهله من هوى عنيف للمذهب الشيعي، وإن أرجع بعض المستشرقين هذا الميل إلى زواج الحسين بن عليّ (بشاه بانو) إحدى بنات يزدجر الثالث آخر ملوك آل ساسان، ومن زعماء هذا الرأي الأستاذ جولد تسيهر.

دخل المسلمون هذه البلاد الغريبة عنهم في حضارتها وتاريخها ونظمها السياسية وتفكيرها، فكان ثمة احتكاك تولدت عنه نزعات جديدة في كل هذه الأمور، ولعبت العصبية القومية دورا خطيراً على مسرح الحياة العامة فكانت دعامة الدعائم في قيام الدولة العباسية التي اتخذت عاصمتها في بلدٍ ينزع أهله إلى تأييدها

كانت بلاد الفرس وقت أن دخلها العرب مللاً متباينة، ونحلا مختلفة متنازعة، فهناك الصابئة والمجوس وأتباع ماني وزرادشت، وهناك أهل الكتاب من يهود ونصارى، فكان القوم بين مشرك ووثني وموحِّد ومثلث، فلم يكن الاضطراب سياسيا فحسب، بل كان دينيا كذلك. فوجد العرب هذه البلاد على حال من الفوضى السياسية والاجتماعية والدينية، فكان العبء عليهم ثقيلا، وكانت التركة بين أيديهم تتطلب منهم سياسة حكيمة ماهرة، حتى يستطيعوا أن يهيئوها لغد يزهو على الأمس، ويجعلوا من أهلها دعاة للحنيفية السمحاء

لقد مرت القرون تنري والقوم مقيمون على الشرك وعبادة النار والنجوم، فما أهل الإسلام عليهم بنوره حتى تسارعوا زمراً لاعتناقه والدفاع عنه، فكان أئمة الدين وجلة علمائه من أهل فارس حتى لقد لاحظ ذلك ابن خلدون فقال: (من الغريب الواقع أن حملَة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم، لا من العلوم الشرعية، ولا من العلوم العقلية إلا في القليل النادر وإن كان منهم العربي في نسبته فهو عجمي في لغته ومرباه ومشيخته مع أن الملة عربية وصاحب شريعتها عربي) وكان أشد المدافعين عن الدين وعن العرب من رجال الفرس حتى في الأوقات التي ظهرت فيها العصبية القومية بأجلى معانيها، وفي الوقت الذي أطلت فيه الشعوبية تزعم ما تزعم من جحود ونكران للواقع، وكأن هذا الميل القوي للإسلام لم يرق في نظر البعض فذهب إلى أن مرجع اعتناق الفرس للإسلام أنهم أَلْفَوا في القرآن الأركان الأساسية لديانتهم القديمة وإن اختلفت قليلاً، فلم يكن من العسير على الفارسي أن يقبل على عبادة اهرمزدا واهريمان إلهي الخير والشر حيث استترا وراء كلمتي الله وإبليس في الديانة الجديدة، كما يقول إن الإسلام اتفق والوثنية الفارسية القديمة في القول بخلق الإنسان ووجود الملائكة والبعث يوم القيامة وعودة الروح والجسم ثانية وفي فكرة الجحيم والجنة، فالتقت العقيدة القديمة والدين الجديد في هذه النواحي. وغرض دوزي من ذلك الطعن في إسلام الجماعة الأولى من أهل فارس، وتجاهل هذه الروح الكريمة التي امتاز الإسلام والتي لا زال يغزو بها القلوب حتى في عصر المادة فلا كبرياء ولا أرستقراطية مستهجنة)

لم يقصر فضل الإسلام على الناحية السياسية وانتشال البلاد من التدهور الاجتماعي، بل تعداها إلى الناحية الدينية بين القوم وغيرهم من أهل الكتاب من النصارى واليهود، فعامل الجميع معاملة حببت الجماعة فيه، ولم يرغمهم على التصديق به والإيمان برسالته وإنما حاجَّهم فإن أبوا فليس إلا الجزية، إذ (هي واجبة على جميع أهل الذمة من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين والسامرة)

ولم تكن هذه الجزية دينية بحتة، وإنما كانت كذلك للقيام بالمحافظة على دافعيها وضمان سلامتهم، في ظل هذا النظام الجديد الذي لم يألفوه من قبل أيام دولة الأكاسرة التي استبدت وبطشت بالمسيحيين وعصفت بهم ولم تحترم شعورهم، بل كانت شديدة الوطأة عليهم فلاقى من عنتها اليعقوبيون والنسطوريون ألواناً من العذاب والتنكيل واضطربت أمورهم في أيامها. أما المجوس فقد اكتفى العرب منهم بالجزية، فلقد قال أبو يوسف إنه (ذكر لعمر بن الخطاب رضى الله عنه قوم يعبدون النار ليسوا يهودا ولا نصارى ولا أهل كتاب (يعني المجوس) فقال عمر ما أدري ما أصنع بهؤلاء؟ فقام عبد الرحمن بن عوف فقال أشهد على رسول الله ﷺ أنه قال (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) وذكر أنه (كتب رسول الله ﷺ إلى المنذر بن ساوي أن من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم، له ذمة الله وذمة رسوله فمن أحب ذلك من المجوس فهو آمن ومن أبى فعليه الجزية)

يقول الأمير كايتاني (لقد كان الاضطراب المعنوي الذي ملأ أذهان المسيحيين يسير جنباً إلى جنب مع الفوضى السياسية في الدولة، وإذ شغلهم توالي نزول هذه الكوارث والتدهور الخلقي الذي حاق بهم من جراء هذا الصراع العنيف بين المذاهب المتنافرة الموجودة بينهم فلقد مالوا إلى هذا النمط الذهبي العجيب الذي يسهل على العقيدة الجديدة أن تتمكن فيه. ولقد كان أهل فارس - وخاصة الأجناس السامية - في نفس هذه الحال الذهنية مما جعلهم يرحَّبون بالثورة الإسلامية التي سرعان ما أزالت من طريقها فساد الماضي، وساعدها على ذلك ما امتازت به العقيدة الجديدة من بساطة خالصة، هيأت النفوس لعهد جديد فائض بالآمال وخلصت القوم من الرق). . . لقد شهد بذلك كيتاني وهو من هو في دراسته للتاريخ الإسلامي والعقلية الإسلامية

وكان دخول الإسلام بلاد فارس مؤذناً بعصر جديد من التحررالفكري، كما رأى فيه المسيحيون مخلصاً لهم - كما يقول أرنولد - من استبداد ملوك آل ساسان، ولم يركن المسلمون إلى الشدة والعنف في سبيل بث مبادئ دينهم هناك، وما كان إسلام القوم - من مجوس وصابئة ومانوية - عن طريق السيف إذ (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) وما كان الإسلام وهو دين العقل ليحاول أن يخرج عما رسمه من حدود النقاش. وحسبه أن يعرض للأمر من جميع نواحيه فلا يزال يدعمه بالحجة والبرهان الصادقين في منطق مستقيم حتى يأخذ به من اتبع العقل ولم يُكابر في الحق. وإذا كانت هناك بعثات تبشيرية فإنها لم تكن تسير على خطة دبرها البعض، وإنما هيأتها الظروف والملابسات وطبيعة الحياة كما كانت مدفوعة بإيمانها الصادق. وكان أغلب هذه الجماعات التي قامت بالتبشير في فارس والهند وبلاد آسيا الوسطى وبلاد ما وراء النهر من التجار الذين كانوا حلقة اتصال بين الوثنيين وبين الإسلام أو بين ماض مشترك ومستقبل لا يقر إلا بالوحدانية (قل هو الله أحد الله الصمد) ترفع عن الماديات (لم يلد ولم يولد) وجلَّ عن كل ما يخاله الذهن البشري القاصر عن إدراك ذاته (ولم يكن له كفواً أحد)؛ فالعامل الأساسي في تاريخ الفتوح الإسلامية كما يقول الأستاذ جب إنما هو هذا التبادل الدائم بين أهلي الأقطار المفتوحة وبين العرب حسن حبشي