الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 260/تطور الحركة الأدبية في فرنسا الحديثة

مجلة الرسالة/العدد 260/تطور الحركة الأدبية في فرنسا الحديثة

مجلة الرسالة - العدد 260
تطور الحركة الأدبية في فرنسا الحديثة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 27 - 06 - 1938


بول فاليري

للأستاذ خليل هنداوي

يمكن القول إن شعر (بول فاليري) لا ينحدر من ينبوع واحد. فهو طوراً رفيق البرناسيين، وطوراً رفيق الرمزيين ولا سيما (ستيفان مالارمي) يغشاه عطف ناعم، وتكتنفه أحلام وتأملات ورموز. وشعر (فاليري) الطافح بالإبهام يبقى محافظاً على إيقاعه الموسيقي ولمعان صوره. وهنا سر عظمة الشاعر! وقد جرب (فاليري) أن يودع شعره (إلهامات) تجدد لغة العاطفة. وهذه الإلهامات قد أغنت عن كل الحريات، من الشعر الرمزي إلى البرناسي فالوجداني. ويرى فاليري أن هذه الحريات لم تنقذ الشعر ولم تعتقه من قيوده، إذ الشعر لا يمكن أن يولد إلا من حالة قهر أو من شدة، من صراع ومن ظفر. وقد يمتزج سهله مع النثر. ومقاطيع المقبرة البحرية - إذاً - قد بنيت وتحدرت كالشعر المدرسي، وفيها وفي حركتها قدرة - لو أنها دقت وانجلت - على أن تحمل الفكرة بوثبة لا تقهر، حتى في الموطن الذي لا تفهم فيه الفكرة، لأنه شعر حمل على الإبهام. وفاليري يعمل ضد المدرسة الرمزية والوجدانية بإعطائه - الشعر - خاصة الترنم لا بالأهواء وإثارة المشاعر ولكن بالأفكار! فالعاطفة يجب أن تقاد بالعقل. ويجب أن يكون محكوماً بصورة منظورة. على أن هذه الفكرة هي مولدة الشعر المدرسي. ولكن الشعر المدرسي لا يقيس من العقل إلا فكرة كبيرة واضحة. والعاطفة - وهي الشعر الصافي - إنما يجب أن تعبر عن العقل الصافي. وهذا العقل الصافي لا يربطه شيء بمنطق نصائحنا، ولا بأي مظهر من المظاهر الواضحة لحياتنا العملية. فهناك - في منطقة منعزلة بعيدة عن أنظمة هذه الحياة أو سطحيات اللغة العامة، هنالك عالم (للأفكار الصافية). فإذا ما استطعنا أن نستنقذ أنفسنا من هذه العبوديات في المظاهر بما أُوتينا من جهد ندخل حالاً عالم الشعر. . . الشعر الذي اكتشفه أفلاطون ووجده مصوغاً من النور ومن هذا الخلود الحي للرؤى العقلية. في هذا العالم لا يفكر بمنطق كما يفكر نثرنا وشعرنا. وإنما هذه الرؤى العقلية تترابط، أو تنحدر بحسب الإيقاع الضروري لها، كالزهرة ثم الثمرة تنشأن من الغرسة، لا كالقدوم يطرق المسمار. القصائد يجب ألا تفهم بالنظر في بنائها الظاهر كأنه مشهد نحن غرباء عنه، ولكن يجب أن تفهم بالتأمل في باطنها، بجهد يجعلنا نحس أننا قادرون على خلقها في أنفسنا!

الشعر خلق لا تأثير ولا حالات إحساس - كما هو عند الرمزيين - ولكنه قوة إحساس عقلي.

إن شعر (فاليري) هو أكثر تعلقاً من شعر (مالارمي) بالعاطفة التي تنحدر إلى ما وراء الطبيعة. هو جهد يضعنا في اتصال - لا بأهواء إنسان ولا بهذا العدم الذي هو إنسان ولكنه يصلنا بنفس الوجود المنظور كلعبة دقيقة من الأفكار السامية. وإن من الصعب التكهن عن مستقبل هذا النزوع المبتدع. فقد يمكن أن يتلاشى غداً ولا يبقى منه شيء. ولكن من المحتم الإيمان بعبقرية فاليري الشعبية. . . ولا ينكرها عليه من لا يرون في هذا النزوع إلا هزيمة متكبرة، وإلا مقاطيع يتلقنها صاحبها من العمل المبهم وقبسات الجمال الخالد، ولا يمكن جحود تأثير الشاعر الراهن، ولكنه ما هو إلا شعر فئة مصطفاة ضئيلة العدد، ولكن الذين يتلون سببنوزا وهيجل قليلون ولم يغض هذا من عظمتهما وعبقريتهما.

المذاهب الأدبية المضادة للمذهب المدرسي

لقد رأيت أن شعر (مالاري وبول فاليري) ومن حذا حذوهما كان كله نزوعاً حاداً للانفصال عن تقاليد العقل والفن، ومنها التقاليد التي تبدو لنا أنها متعلقة بطبيعة عقلنا ومعانينا. هنالك مدارس ترى أن هذه التقاليد ليست إلا اصطلاحات بل أبسط اصطلاحات وأكثرها سطحية.

الموسيقى يجب ألا تكون إلا لذة الألحان، فكل الموسيقيين إذا وضعوا فيها أفكاراً وعواطف هي شكل مسهب لأفكارنا؛ والدهان يجب أن يكون اللذة الوحيدة للأشكال والألوان، فكل الدهانين إذاً وضعوا فيه مواضيع، منها موضوع زهرة أو مرجل والزهرة تلقن فكرة زهرة، والمرجل فكرة مرجل! أما الفن فيجب أن يكون محضاً أو صافياً، أي تنظيم ألحان وألوان وأشكال. يكفي لنفسه ويبدع لنفسه شرائعه الخاصة دون أن ينشأ أي سأم من تشابهه مع الحقيقة العلمية. وهكذا نشأ فن محض في أنواع الفن، ومنه الأدب الذي نشأت فيه مقاطيع وروايات يظهر أن هدفها ليس إلا إذهال نفس القارئ أو الناظر. وما شعر مالارمي أو فاليري إلا مشاهد ذات لون خاص، طليقة من كل تقاليد العقل والفن، ومنها التقاليد القائمة على عقلنا وحواسنا. ونشأ بين الروائيين (برست) صاحب كتاب (وراء الزمن الغابر) وهو الروائي الذي ما عاش إلا ليلاحظ نفسه أو يلاحظ غيره. وقد ذهل عن حياته ومطامعه وانجذب بتفهم نفسه وتفهم غيره. ولقد كان ملاحظاً محللاً تطغى فيه صفة التحليل على صفة الإبداع، ولم يكن ميالاً إلى النظر العقلي أو النظرية الخفية، ليس هنالك في تحليله مواضيع فوق الوضع، ولا منحدرات في ظلمات اللاوعي. . . وأن كان تحليله النفسي تحليلاً ظاهراً دقيقاً. وهو في كل مظهر له يبدو أنه ينطلق عن الأسرار المجهولة في النفس، وجل عمله يميل به إلى إظهار هذه الأسرار المتحركة وتوضيح المنطق الذي يقود حياته وحياة الآخرين. وهي ليست بأسرار خفية أو غير قابلة للتحليل؛ إننا نخفيها عن أنفسنا، و (بروست) يعمل على إظهارها من خفاياها. وقصصه إنما تخرج كحياة نفسه أو كالحياة. وهو لا ينتخب له طريقة معينة في القصة، فقد تأتي قصصه اعترافية، وهو فيها البطل. وقصصه مما لا يمكن تقليدها لما فيها من قوة وتحليق!

خليل هنداوي