مجلة الرسالة/العدد 260/بين العقاد والرافعي
→ يبن الغرب والشرق | مجلة الرسالة - العدد 260 بين العقاد والرافعي [[مؤلف:|]] |
كلمة ثالثة على الهامش ← |
بتاريخ: 27 - 06 - 1938 |
الرافعي ومظهر و (على السفود)
للأستاذ سيد قطب
- 9 -
أجملت الحديث في الكلمة الماضية عن طابع وناشر ومروج (على السفود) الذي يعيب (الشذوذ في نصرة أديب على أديب) ليعرف الناس من أين تصدر الآراء، وكيف تصدر؛ وكم من الأعاجيب يكمن في تقلب هذه الآراء وطريقة عرضها، كلما دعا الغرض إلى عرض جديد
وأغلب الناس ممن يقرؤون الرسالة قد يكونون من غير المطلعين على هذا الكتاب، الذي قدمت له (العصور) وطبعته ونشرته. وليس من المستطاع نقل عبارات منه اليوم إليهم في الرسالة، مما يصور شناعة التعبير، ويكشف مقدار التبعة في النشر، لأن (الذوق. والأدب. والخلق) لا تسمح باستعراض تلك الأساليب ولكني سأتلطف لقراء الرسالة في نقل بعض فصوله (البريئة) مع تقديم العذر، في شنعة هذه البراءة!
وسيعرف الناس كيف يكون الإنسان، سيئ الفهم، قاصر الإطلاع، ثم يناقش العلماء النيري البصيرة المطلعين؛ ولا يكلف نفسه الإطلاع على أصل المسائل التي يناقش فيها، ويجد من الجرأة في نفسه أن يقول: إنه لم يطلع على هذا الموضوع، ولكنه يجزم بأنه كيت وكيت. أما الذي أطلع فهو جاهل و. . . و. . . الخ.
لشوبنهور رأي في الجمال يلخصه العقاد، في أن هذا الفيلسوف يقسم الدنيا إلى (فكرة) و (إرادة) ويقول: أن الدنيا في (الفكرة) هي الدنيا المكنونة قبل أن تظهر في حيز الأسباب والقوانين، وعلاقات الأشياء بعضها ببعض. وإن (الإرادة) هي هذه الدنيا التي نكابد أوصابها وقوانينها، ولا نذوق السرور فيها إلا لسبب من الأسباب التي تدور عليها أغراضنا وشهواتنا؛ ولما كان سرورنا (بالجمال) سروراً بلا سبب ولا منفعة فهو من قبيل الفكرة المجردة ننظر إليها كما هي في عالمها المنزه عن الأسباب والعلاقات)
ثم يقول العقاد ما ملخصه: إن رأيه هو أن (الجمال) هو (الحرية) وأنه يلتقي في رأيه هذ مع رأي شوبنهور في نقطة ويختلف معه عند أخرى. فهما يلتقيان حين يقول شوبنهور: إن الفكرة لابد أن تكون بعيدة عن عالم الأسباب والضرورات، ومن ثم لابد أن تكون (مطلقة) من أسر الأسباب والضرورات؛ ويختلفان حين نذكر أن الحرية لا تكون بغير إرادة، وأن شوبنهور يخرج الجمال كله من عالم (الإرادة المسببة) إلى عالم (الفكرة المجردة).
ثم يرجح رأيه على رأي شوبنهور بأن الجمال يتفاوت في نفوسنا ويتفاضل في مقاييس أفكارنا، ولو كان المعول على إدراك (الفكرة) وحدها في تقدير الجمال، لوجب أن تكون الأشياء كلها جميلة على حد السواء.
ثم يوضح هذا بأن الشجرة كفكرة تستوي مع الإنسان كفكرة كذلك، ولكن جمال الأولى أقل من جمال الثاني - مع تساويهما لو أخذنا برأي شوبنهور - وذلك لأن الثاني أكثر حرية و (الحرية هي المعنى الجميل في الفكرة أو هي التي تهب الفكرة ما فيها من جمال)
وهذا - كما ترى - كلام واضح وهو كذلك دقيق. ولكن الرافعي لا يفهمه. وهو في عدم الفهم على درجات: بعضها يتعلق بالقصور النفسي عن تصور حالة من الحالات النفسية، وهو ما نعذره فيه، ولا نطلبه بفهمه. وبعضها يتعلق بالقصور في فهم الأسلوب والكلمات وهو ما لا ندري كيف نسميه.
والنوع الأول يبدو في تعليقه بالهوامش على إن السرور بالجمال سرور بلا سبب ولا منفعة، فهو يقول: (وهل في الدنيا من يسر من الجمال (بلا سبب)
ونحن نقول له: نعم يا سيدي في الدنيا من يسر من الجمال بلا سبب، لأن بداهته وفطرته تتصل مباشرة بالجمال في (عالم الفكرة) كما يشرحه شوبنهور فيحس بالسرور. وفي هذا العالم لا توجد (أسباب) فهذه إنما تتعلق (بعالم الإرادة) أي العالم الموجود في الخارج. وهي على كل حال مسألة تتطلب (نفساً) فلا على الرافعي منها.
وهو يعلق على شرح العقاد (للفكرة) في رأي الفيلسوف الألماني بأنها بعيدة عن عالم الأسباب والضرورات، ومن ثم لابد أن تكون مطلقة من أسر الأسباب والضرورات. فيقول: (ففكرة من تكون هذه الفكرة البعيدة عن عالم الأسباب والضرورات؟ وكيف تسمى فكرة؟)
وهذا القول غريب من رجل يدعى أنه يفهم الثقافة الإسلامية ويدافع عن علوم الإسلام.
وفي الفلسفة الإسلامية كثير من هذه المباحث، وقد ورد فيها ذكر (الهيولي) و (الصورة) وهي تقابل مع تعديل (الفكرة) و (الإرادة). وفي مباحث (علم الكلام) كثير من مثل هذه التعبيرات عند الكلام على صفتي (القدرة. والإرادة) فمن العجب ألا يفهم إذن أن (الفكرة) بعيدة عن عالم الأسباب والضرورات. وهي على ضوء الفلسفة - ونمثل بها وحدها لما يدعيه الرافعي عنها - تمثل فكرة الخالق التي لا تتعلق بالأسباب والضرورات، لأنه منزه عن الضرورات وهي في كلام شوبنهور تمثل فكرة القوة الخالقة - أياً كان اسمها - فدارس الفلسفة الإسلامية لا يعسر عليه فهمها، ولا يسأل هكذا: (ففكرة من تكون؟)
وهذا أيضاً مسألة (ذهنية) تتطلب ذهناً مشرقاً. فلا على الرافعي منها كذلك!
إنما الطامة الكبرى أن يخطئ في فهم الكلمات المفردة. وهنا فليأخذ القراء حذرهم، فإنني سأنقل لهم بعض كلام الرافعي بنصه في هذا الموضوع - مع ما يتضمنه من شتائم (بريئة) إذا قيست إلى سواها، ونحن نكتبه بنصه وبعلامات ترقيمه:
إنه يقول:
(بيد أن العقاد يقول بعد ذلك: (أين نتفق في هذا الرأي وأين نفترق؟ (ما شاء الله أين يتفق العقاد وشوبنهور وأين يفترقان) وأين يتساوى القول بأن الجمال فكرة، والقول بأن الجمال حرية؟ يتساويان حين نذكر أن الفكرة في رأي شوبنهور لا بد أن تكون بعيدة عن عالم الأسباب والضرورات. ومن ثم لا بد أن تكون مطلقة من أسر الأسباب والضرورات).
(ثم أين يتعارضان. (المراحيضي! وشوبنهور)؟ يقول العقاد: يتعارضان حين نذكر أن الحرية لا تكون بغير إرادة، وأن شوبنهور يخرج الجمال كله من عالم الإرادة المسببة إلى عالم الفكرة المجردة).
(وما الذي يرجح رأي فيلسوفنا! المراحيضي! بأن الجمال هو الحرية، على رأي شوبنهور بأن الجمال فكرة؟ يقول العقاد:
(يرجحه أن الجمال يتفاوت في نفوسنا ويتفاضل في مقاييس أفكارنا؛ ولو كان المعول على إدراك الفكرة وحدها في تقدير الجمال لوجب أن تكون الأشياء كلها جميلة على حد سواء).
(ونوضح ذلك فنقول: لو كانت الشجرة جميلة لأنها فكرة فقط، لما كان هناك داع لتفضيل فكرة الإنسان على فكرة الشجرة (افهموا يا ناس) ولصح لنا أن نزعم أن الناس أجمل من الأشجار (برافو مراحيضي) ولكننا نعلم أن فكرة الإنسان غير فكرة الشجرة (تمام تمام!!!) وأن الفكرتين تتفاضلان في تقرير الجمال (صحيح لأن الشجرة تقدر جمال الناس كما يقدر الناس جمالها!) ولا بد أن يكون تفاضلها بمزية أخرى فما هي تلك المزية؟
(قال المراحيضي. هي الحرية: فالإنسان أوفر من الشجرة نصيباً من الحرية (برافو. برافو!) ولذلك هو أجمل منها
(يا سلام يا سلام على هذا المنطق. في رأي من هو أجمل منها؟ في رأي الجبل بالطبع لأنه لا بد من حكم بينهما يحكم أيها أجمل. وإلا فما الذي يمنع الشجرة أن تحكم لنفسها كما حكم الإنسان لنفسه؟)
والتعليقات التي بين أقواس كبيرة هي كلام الرافعي. وهي كلها قد نشأت من عدم فهمه للفظة واحدة في جملة العقاد:
(لو كانت الشجرة جميلة لأنها فكرة فقط، لما كان هناك داع لتفضيل فكرة الإنسان على فكرة الشجرة) فالعقاد يريد بقوله (فكرة الإنسان) الفكرة التي صورت إنسانا. وبقوله (فكرة الشجرة) الفكرة التي صورت شجرة. فيفهم صاحبنا (فكرة الإنسان) بأن الإنسان يفكر، و (فكرة الشجرة) بأن الشجرة لها فكرة في رأسها! ولما كانت الأشجار لا تفكر، فقد راح يقول: (افهموا يا ناس) وراح يقول: (صحيح لأن الشجرة تقدر جمال الناس كما يقدر الناس جمالها). وراح يقول: (في رأي من هو أفضل منها؟ في رأي الجبل بالطبع) لأن الجبل كذلك يفكر وله فكرة!
والمسألة هنا مسألة قصو في فهم ألفاظ ثم تعالم بعد ذلك وتهكم حيث يجب الخجل والانزواء
ثم ماذا؟ ثم أخذ يجمل هو رأي شوبنهور (الذي لم يطلع عليه باعترافه في هامش الكتاب حين يقول: (نحن لا نثق أن ترجمة العقاد عن شوبنهور هي نص معاني شوبنهور. . . إنما نذهب إلى (ما نظنه) الأصل في غرض الفيلسوف)!
فماذا قال؟
(فان محصل كلام هذا الفيلسوف أن ما تراه بسبب من إرادتك وغرضك وشهواتك فجماله فيك أنت لا فيه، لأنه في هذه الحالة صورة الاستجابة إلى ما فيك، فلو لم يكن معك أنت هذا الغرض لم يكن معه هو ما خيل لك من الجمال، فهو على الحقيقة (باعتبار الفكرة المجردة لا جمال فيه) (لاحظ هذا) إنما أنت صبغته وأنت أوقعته ذلك الموقع من نفسك فالنتيجة من ذلك أن الأشياء تحزننا (أي لا نراها جميلة) كلما ابتعدت من عالم الفكرة واقتربت من عالم الإرادة، وأنها تفرحنا كلما ابتعدت من عالم الإرادة واقتربت من عالم الفكرة.
(وهذا الرأي هو الرأي الصحيح في معنى الجمال وبه يوؤل اختلاف الناس في تقدير جمال الأشياء، لأن الجمال في أهوائهم وأذواقهم ومعاني نظرهم)
وإن الإنسان ليفغر فاه عجباً من هذا التلخيص الرافعي لنظرية شوبنهور بل هذا المسخ الذي يمسخه للفيلسوف المسكين. ويحار في السؤال من أين وكيف يلتقي هذا الملخص بأصل الرأي، وما بينهما شبه ولا اقتراب في أي لمحة من اللمحات
ثم هذا الخلط بين الرأي الذي جاء به الرافعي وبين رأي شوبنهور، ونسبة كلام إلى الرجل هو يقول ضده تماماً. الفيلسوف يقول: إن الأشياء (تسرنا) كلما قربت من عالم الفكرة وابتعدت عن عالم الإرادة. فيقول الرافعي عنه: إن الأشياء (تحزننا) كلما ابتعدت من عالم الفكرة واقتربت من عالم الإرادة. وهو عكس قول شوبنهور. ثم يعود فيقول:
(وأنها تفرحنا كلما ابتعت من عالم الإرادة واقتربت من عالم الفكرة) وهو عكس كلام الرافعي الأول!! فأيهما يريد؟ أغيثونا بالله يا أصحاب الفهم وقولوا لنا: متى تفرحنا الأشياء ومتى تحزننا؟ وأي القولين ينسبه الرافعي لشوبنهور وأيهما ينفيه عنه؟
ولا يقنع الرافعي بهذا ولكن اسمعه يقول: (على مثل تلك الطريقة من الغباوة. وسوء الفهم وقبح الاجتراء والغرور والحماقة، تجد كل ما يولده العقاد، أو أكثره، ثم يزين له لؤم نفسه وعمى بصيرته أنه هو وحده الذي يهدي إلى سرائر الأشياء ويلهم حقائق المعاني. . . الخ)
ولو أننا نسمو بآدابنا وآداب المجتمع، لرددنا هذه الكلمات إلى من يستحقها - بعد هذا البيان - من الرجلين!
وبعد فقد نشر صاحب (العصور) هذا الكلام في مجلته، ثم جمعه وطبعه وقدم له معجباً مستحسناً. فهل كان يا ترى يعلم هذا الخطأ في الفهم وذلك التخليط، أم لم يكن يعلم؟ وأن كانت الأولى فكيف لم ينبه صاحبه إليه؟ وإن كانت الثانية، فكيف يتفق هذا مع علمه واطلاعه؟
ثم ألم يجد جملة نابية، ولا لفظة خسيسة، في هذا النقد؟ بل ألم يجد فيه (شذوذا) ولم يلمح أن ليس وراءه انتصار لمذهب بين في الأدب، وإنما وراءه ارواء حفيظة شخصية بحتة؟
أفتونا أيها المنصفون، المتعالون عن الشخصيات!
(حلوان)
سيد قطب