الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 260/المعرفة سيادة

مجلة الرسالة/العدد 260/المعرفة سيادة

بتاريخ: 27 - 06 - 1938


للأستاذ عباس محمود العقاد

المسافة بين منشية الإسكندرية ومحطة الرمل قصيرة، ولكنها على قصرها تريك من أي طريق سلكتها عظم المسافة بين الأمم التي تسود والأمم التي تساد

عشرون أو ثلاثون مكتبة في هذه الطريق بين فرنسية وإنجليزية وإيطالية ويونانية، وفيها من الكتب الأدبي والقصصي والفلسفي والعلمي وكل ما يبحث فيه الباحثون ويصنف فيه المصنفون

والبلاد عربية، فأين هي المكتبة العربية بين جميع هذه المكتبات؟

لا ترى هناك مكتبة واحد؛ وإن رأيت بعض الكتب العربية فقد تراها معروضة في إحدى الوجهات الإفرنجية فرعاً من الفروع الصغيرة، لا أصلا من الأصول الكبيرة التي تتشعب عليها الفروع

لم هذا؟

ألأن السكندرية مدينة تجارية كما يقولون فلا شغل فيها للمصريين غير التجارة والسوق، وغير البضاعة والأسعار؟

إن كانت التجارة صارفاً عن الثقافة فالأجانب في الإسكندرية تجار أو عاملون في التجارة، ولعلهم هم القابضون على أزمة السوق وهم الظافرون منها بحصة الأسد، وما من أجنبي في الإسكندرية إلا وهو طالب مال ومشتغل بحرفة من حرف الاتجار والصناعة. فلم كثرت الكتب الإفرنجية وقلت الكتب العربية في المدينة؟؟

أم هي كثرة الصحف والمجلات كما يقولون قد صرفت المصريين عن دراسة الكتب إلى لهو القراءة وتزجية الفراغ؟

ليس هذا أيضاً بصالح لمعذرة ولا لتفسير، فأن الصحف والمجلات الأجنبية التي تظهر في القاهرة والإسكندرية، أو ترد إليها من لندن وباريس وروما أكبر عدداً وأوسع انتشاراً من صحفنا ومجلاتنا العربية، وهي مع هذا لا تصرف القراء عن مطالعة الآداب ومتابعة العلوم والأخذ بالنصيب المطلوب من الثقافات والفنون.

لا هذا ولا (الأمية) سبب معقول لشيوع الكتب الإفرنجية وندور الكتب العربية في عاص القطر الثانية، أو في عاصمة الثقافة الشرقية على عهد من عهود مصر الغابرة، فان العارفين بالقراءة من المصريين في الإسكندرية لا يقلون عدداً عن العارفين بالقراءة فيها من النزلاء والغرباء، وإن كان فرق بينهما في العدد فليس هو الفرق الذي يكون بين صفر وثلاثين

إنما الفرق الصحيح هو فرق بين أمم تسود وأمم تساد

أو هو فرق بين من يطلبون المعرفة شوقاً واستطلاعاً، ومن يطلبونها تكليفاً واتباعاً، لأن التكليف فرض على المسودين حتى حين يعرفون

بل هو فرق بين النفس التي يبقى فيها جانب يطلب الغذاء بعد أن تشبع المعدة بالخبز والماء، وبين النفس التي يشبع منها كل جانب حين تمتلئ الأحشاء بالطعام والشراب

وذلك هو الفرق الصحيح لا مراء

وفي الطريق من مصر إلى الإسكندرية على جانب الصحراء أديرة قديمة نعلم عنها من كتب الأجانب ما لسنا نعلم من الكتب العربية جمعاء.

ذهبت إلى الإسكندرية ومعي كتاب ضخم بالإنجليزية عن هذه الأديرة يقع في نيف وخمسمائة صفحة كبيرة بين كتابة ونقوش

لمن كتبه الكاتب؟

وماذا يعني القراء مما كتب؟

كتبه للمعرفة، ويقرأه القراء للمعرفة؛ وليس من سبب غير المعرفة يساوي الجهد المبذول فيه والثمن المقدور له والوقت الذي انقضى في تحضيره وتأليفه وضبط نقوشه ورموزه وتواريخه

أما هذا السبب فلعله آخر الأسباب التي تدفع الجمهرة عندنا إلى فتح كتاب، فضلاً عن تأليف كتاب

من يطلب المعرفة لفائدة يحصرها في المأكل والملبس والمسكن وما هو في حكم الطعام واللباس والبيوت، فإنما هو مسوق إلى ما يطلب، وإنما هو عبد في جهله وعبد في معرفته على السواء

ومن يطلب المعرفة لأنها المعرفة، فذلك هو السيد وتلك هي السيادة؛ وحسبه أنه هو يريد أن يعرف ثم تأتى الفائدة في الطريق، وليس؛ يراد على معرفة شيء كما يراد على جهله، لأنه مسوق بسلطان الضرورة القاهرة إلى ما يريد

ولست أعني بسيادة العارف أن المعرفة سلاح في يديه يصل به إلى السيادة كما يصل المرء إلى السلطان بالسيف والمال والحيلة

كلا. فلو كان كل في ما المعرفة من سيادة أنها كالسلاح في هذا المطلب لكانت أداة تؤدي إلى غيرها ولم تكن غاية تتأدى إليها المقاصد وتنتهي إليها اللبانات.

ولكنما عنيت أن طلب المعرفة للمعرفة هو هو السيادة، وهو هو العلامة على أن الإنسان (سيد)، يفهم ما يفهمه لأنه طبيعة فيه ووظيفة من وظائف عقله وتكوينه، لا لأنه مغرى به إغراء الطمع، ولا لأنه مسوق إليه سوق الإجبار والإكراه

لم تعرف النفس؟

ألا تسأل: لم تنظر العين؟ ولم تسمع الأذن! ولم يشم الأنف؟ ولم تدرك الحواس؟

إن العين لا تنظر لسبب غير أنها حاسة فيها قوة النظر، والأذن لا تسمع لسبب غير أنها حاسة فيها قوة السماع، وكذلك الأنف وكذلك كل حاسة في الإنسان أو الحيوان. فما بالنا نبتغي سبباً للعقل أو للبصيرة حين يدركان ويعرفان؟ لماذا تنظر العين لغير علة ولا مطمع ولا فائدة، ثم نأبى على العقل أن يدرك ما يدرك إلا للعلل والمطامع والفوائد، وإلا لهذه العلل والمطامع والفوائد التي نحصرها في أضيق الحدود وأقرب الحاجات.

لأحرى بنا أن نسأل: لماذا يحجم العقل عن المعرفة، وأن نسأل لماذا تحجم العين عن النظرة، وأن نسأل لماذا تعجز الحواس عن الإدراك

عندئذ نفهم الجواب ولا يطول بنا العناء في فهمه، فذاك أن الحواس عاجزة مكفوفة، وأن العين عمياء، وأن العقل معدوم أو ضعيف.

أما أن نسأل لماذا يعنى العقل بالمعرفة فذاك هو اللغو والفضول، وذاك هو السؤال الذي يشبه سؤالنا: ما بال العين تقع على ما تراه ولا تنحرف عنه ولا تأبى النظر إليه

حسب الشيء أنه يرى ليكون ذلك حقاً له في رؤية العيون

وحسب الشيء أنه يعرف ليكون ذلك حقاً له في معرفة البصائر والعقول

فأن جعلنا للمعرفة ثمناً من الحطام أو ثمناً مما يشبه الحطام فهي أذن معرفة اضطراراً أو معرفة عبيد وأتباع؛ وهي إذن شيء وطبيعة السيادة شيء، ولو نجح صاحبها في السيطرة على الآخرين كما ينجح الجبان في يده المدفع وخصمه أعزل من السلاح

قال الأستاذ طمسون عن آراء أرسطو في علم الأحياء ما معناه: إن الفضل كل الفضل للفيلسوف الإغريقي العظيم أنه شعر بالحاجة إلى مراقبة الحشرات والأسماك في الخلجات، وفهم أن تقييد حركتها وتسجيل ولادتها ونموها معرفة تحسن بالحكيم؛ وليس الفضل أنه أتى بآراء في علم الأحياء يعول عليها الناس في العصر الحديث

ولو أن الفيلسوف الإغريقي لم يشغل عقله في زمانه إلا بما يفيد لتوه وساعته لما وصلنا إلى علم أحياء يفيدنا اليوم، أو لا يفيد

ليست الآفة عندنا أننا مشغولون بالتجارة عن القراءة، فالأوربيون أعظم منا اشتغالا بالتجارة واجتناء لخيراتها

وليست الآفة أن الصحف اللاهية تصرفنا عن كتب العلم والأدب والدراسة، فان الصحف اللاهية سبقتنا في أوربا ويسبقنا بها الأجانب في بلادنا المصرية

ولكنما الآفة أن التجارة تجارتان: تجارة أحرار فهم مسيطرون عليها، وتجارة اتباع فهي مسيطرة عليهم، وأننا إذا طلبنا المال أو المعرفة طلبناهما مسوقين ولم نطلبهما طلب السادة الذين يملكون من أنفسهم بقية يشغلونها بما يحبون

عباس محمود العقاد