مجلة الرسالة/العدد 26/الشافعي واضع علم أصول الفقه
→ في طريق المنفى | مجلة الرسالة - العدد 26 الشافعي واضع علم أصول الفقه [[مؤلف:|]] |
مِن طرائف الشِعر ← |
بتاريخ: 01 - 01 - 1934 |
للأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرزاق أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية
الآداب
- 4 -
أ - الدراسات الفقهية إلى عهد الشافعي. ب - أهل الرأي وأهل الحديث. ج - الشافعي بين أهل الرأي وأهل الحديث وآثاره وكتبه. د - وضع الشافعي علم أصول الفقه
أ - الدراسات الفقهية إلى عهد الشافعي
1 - كان التشريع في عهد النبي عليه السلام يقوم على الوحي من الكتاب، والسنة. وعلى الرأي من النبي ومن أهل النظر والاجتهاد من أصحابه بدون تدقيق في تحديد معنى الرأي وتفصيل وجوهه وبدون تنازع ولا شقاق بينهم
ومضى عهد النبي عليه السلام وجاء بعده عهد الخلفاء الراشدين من سنة 11م5هـ - 632 إلى سنة 40هـ - 660 وقد اتفق الصحابة في هذا العهد على استعمال القياس في الوقائع التي لا نص فيها من غير نكير من أحد منهم، وفي هذا العهد أخذت تبدو الصورة الأولى من صور الإجماع بما كان يركن إليه الأئمة من مشاورة أهل الفتوى من الصحابة، وكان أهل الفتوى من الصحابة يومئذ وهم المعتبرون في الإجماع قلة لا يتعذر تعرف الاتفاق بينهم في حكم من الأحكام
ولم يكن يفتي من الصحابة ألا حملة القرآن، الذين كتبوه وقرءوه وفهموا وجوه دلالته وناسخه ومنسوخه، وكانوا يسمون (القراء) لذلك، وتمييزاً لهم، عن سائر الصحابة بهذا الوصف الغريب في أمة أمية - لا تقرأ ولا تكتب -
ثم كان عصر بني أمية من سنة 40هـ - 660م إلى سنة 132هـ - 749م وتكاثر الممارسون للقراءة والكتابة من العرب، ودخلت في دين الله أمم ليست أمية فلم يعد لفظ القراء نعتا غريبا يصلح لتمييز أهل الفتوى ومن يؤخذ عنهم الدين، هنالك استعمل لفظ العلم للدلالة على حفظ القرآن ورواية السنن والآثار وسمي أهل هذا الشأن (العلماء) واستعمل لفظ (الفقه) للدلالة على استنباط الأحكام الشرعية بالنظر العقلي فيما لم يرد فيه نص كتاب ولا سنة وسمي أهل هذا الشأن (الفقهاء) فإذا جمع امرؤ بين الصفتين جمع له اللفظان أو ما يراد فهما
وفي طبقات ابن سعد (كان ابن عمر جيد الحديث غير جيد الفقه، وكان زيد بن ثابت فقيها في الدين عالما بالسنن
وقد كان كثير من الصحابة والتابعين يكره كتاب العلم وتخليده في الصحف كابن عباس، والشعبي، والنخعي، وقتادة، ومن ذهب مذهبهم، وهؤلاء كلهم عرب طبعوا على حفظ جبلة العرب
قال ابن عبد البر: من كره كتاب العلم إنما كرهه لوجهين:
أحدهما - ألا يتخذ مع القرآن كتاب يضاهي به، ولئلا يتكل الكاتب على ما يكتب فلا يحفظ فيقل الحفظ. (مختصر جامع بيان العلم ص24)
ولما انقرض عهد الصحابة ما بين تسعين ومائة من الهجرة وجاء عهد التابعين، انتقل أمر الفتيا والعلم بالأحكام إلى الموالي إلا قليلا (عن عطاء قال: دخلت على هشام بن عبد الملك فقال: هل لك علم بعلماء الأمصار؟ قلت: بلى قال: فمن فقيه المدينة. قلت: (نافع) مولى ابن عمر، وفقيه مكة (عطاء بن رياح) المولى، وفقيه اليمن (طاوس) بن كيسان المولى، وفقيه الشام (مكحول) المولى، وفقيه الجزيرة (ميمون) بن مهران المولى، وفقيها البصرة (الحسن، وابن سيرين) الموليان، وفقيه للكوفة (إبراهيم) النخعي الغربي، قال هشام: لولا قولك عربي لكادت نفسي تخرج) مناقب الأمام الأعظم للبزاز جـ1 - ص57
عندئذ تضاءلت النزعة العربية إلى خطر التدوين وصارت كتابة العلم أمراً لازما (عن سعد بن إبراهيم قال: أمرنا عمر بن عبد العزيز المتوفى سنة 101هـ - 720م بجمع السنن فكتبناها دفترا دفترا فبعث إلى كل بلد له عليها سلطان دفترا) مختصر جامع بيان العلم ص33
وقد بدت مخايل نهضته في التشريع الإسلامي منذ ذلك العهد فحصل تدوين بعض السنن وبعض المسائل ولم يصل إلينا من تلك المدونات إلا صدى
ويقول (جولد زيهر) في مقاله عن كلمة (فقه) في دائرة المعارف الإسلامية: (وينبغي ألا يعطى كبير ثقة لما نسب لهشام بن عروة من أنه في يوم الحرة حرقت لأبيه كتب فقه، ولا يمكن أن يتصور بحال أنه في ذلك العهد البعيد كانت توجد كتب بالمعنى الصحيح وإنما هي صحائف متفرقة، وتوفي عروة سنة 94هـ - 712 التي كانت تسمى (سنة الفقهاء) لكثرة من مات فيها من الفقهاء)
وبالجملة: فانه إذا كان دون شيء لضبط معاقد القرآن والحديث ومعانيها في عهد بني أمية، فان التدوين في الفقه بالمعنى المحدث لم يكن إلا في عهد العباسيين.
هذا هو الرأي الذي كان مقررا بين الباحثين لكن (جولد زيهر) يذكر في المقال الذي أشرنا آنفا ما يأتي: (وقد اكتشف (جرفيني) بين المخطوطات القيمة في المكتبة (الامبروزية) بميلانو الخاصة ببلاد العرب الجنوبية مختصرا في (الفقه) اسمه (مجموعة زيد بن علي) المتوفى سنة 122هـ - 740م وهو منسوب إلى مؤسس فرقة (الزيدية) من الشيعة، وعلى ذلك تكون هذه المجموعة أقدم مجموعة في الفقه الإسلامي، وعلى كل حال ينبغي أن يوضع هذا الكتاب موضع الاعتبار فيما يتعلق بتاريخ التأليف في الفقه الإسلامي. وإذا صح: أنه وصل إلينا من بطانة (زيد بن علي) وجب أن نعترف بأن أقدم ما وصل إلينا من المصنفات الفقهية هو من مؤلفات الشيعة الزيدية
على أن البحث الذي أثير لتعيين مركز هذا الكتاب بين المؤلفات الفقهية لم يكمل
ومن أسف ان هذا البحث لم يثره مسلمون ولا أثير في بلاد أسلامية
وقد ذكر صاحب (الفهرست) عند الكلام على (الزيدية) ما نصه: الزيدية الذين قالوا بإمامة زيد بن علي عليه السلام، ثم قالوا بعده بالإمامة في ولد (فاطمة) كائنا من كان بعد أن يكون عنده شروط الإمامة، وأكثر المحدثين على هذا المذهب مثل: (سفيان ابن عيينة) و (سفيان الثوري). . . ص187
وعلاقة هذين الإمامين بنهضة الفقه عند أهل السنة تجعل للبحث الذي يشير إليه (جولدزيهر) شأنا خطيرا
وجاء عهد العباسيين منذ سنة 132هـ و749 - 750م وشجع الخلفاء الحركة العلمية وأمدوها بسلطانهم، فكان طبيعيا ان تنتعش العلوم الدينية في ظلهم، بل كانت حركة النهوض أسرع إلى العلوم الشرعية لأنها كانت في دور نمو طبيعي وتكامل
وهناك سبب آخر يذكره (جولدزيهر) في كتابه (عقيدة الإسلام وشرعه) هو: أن حكومة الأمويين كانت متهمة بأنها دنيوية فحلت محلها دولة دينية سياستها سياسة ملية
كان العباسيون يجعلون حقهم في الإمامة قائما على: أنهم سلالة البيت النبوي، وكانوا يقولون: انهم سيشيدون على أطلال الحكومة الموسومة عند أهل التقى بالزندقة نظاما منطبقا على سنة النبي وأحكام الدين الإلهي
ويلاحظ أن المثل الأعلى للسياسة الفارسية، وهو الاتصال الوثيق بين الدين والحكومة، كان برنامج الحكم العباسي
(وقد اقتضى ضبط أمور الدولة على منهاج شرعي، جمع الأحكام الشرعية، وتدوينها)