مجلة الرسالة/العدد 26/الحركة الوطنية الاشتراكية الألمانية
→ من الأدب الفارسي | مجلة الرسالة - العدد 26 الحركة الوطنية الاشتراكية الألمانية [[مؤلف:|]] |
في طريق المنفى ← |
بتاريخ: 01 - 01 - 1934 |
1 - كيف نشأت بعد الحرب
للأستاذ محمد عبد الله عنان
شهدت أوربا في العصر الأخير طائفة من الحركات والثورات القوية، السياسية والاجتماعية، التي قلبت نظم الحكم والمجتمع، وغيرت مناحي التفكير والعواطف، وأثرت في سير السياسة الدولية اعظم تأثير
ولا ريب أن الثورة الفاشستية الإيطالية، والثورة الوطنية الاشتراكية الألمانية أو الحركة الهتلرية أو النازية، هما اعظم هذه الحركات والثورات البعيدة المدى والآثار في مصاير أوربا القديمة والمجتمع الأوربي القديم. والثانية وليدة الأولى في معنى من المعاني، وشبيهتا في بعض الغايات وفي كثير من الوسائل والإجراءات. ولكنها تختلف عنها في البواعث والظروف التي نشأت فيها، وفي الغايات الجوهرية التي تعمل لها، ثم تختلف عنها في طوالعها، وفي الآثار التي أحدثتها ومازالت تحدثها في سير السياسة الدولية وفي الرأي العالمي
ولعل اعظم ما تتفق فيه الحركتان الإيطالية والألمانية انهما عملتا معا لسحق الشيوعية، ولتحطيم النظم الدستورية والديمقراطية كلها، والقضاء على الحريات العامة وكثير من الحريات الفردية بوسائل متماثلة ولغايات متماثلة. وقد كان تفاقم الفوضى الاشتراكية والشيوعية في إيطاليا عقب الحرب الكبرى اكبر عامل في وثوب الفاشستية الإيطالية. ولكن اكبر عامل في وثوب الحركة الوطنية الاشتراكية الألمانية هو معاهدة الصلح (معاهدة فرساي) وما فرضته على ألمانيا من صنوف التمزيق والذلة والمغارم، وما بثته شروطها وفروضها الفادحة في الشعب الألماني من يأس وتفكك وانحلال. ويكفي أن نذكر أن معاهدة فرساي قضت باقتطاع الألزاس واللورين، ووادي السار، وسيليزيا العليا، ودانتزج، وقسما من شلزقيج من ألمانيا؛ وقضت بإنشاء الممر البولوني داخل أرضها ليمزق بروسيا الشرقية إلى شطرين؛ وقضت بتجريد ألمانيا من سلاحها وسحق عسكريتها التاريخية، وتحطيم أسطولها الضخم وجعلها من حيث الدفاع القومي كأصغر دولة ثانوية؛ وقضت على ألمانيا بتحمل مسئولية الحرب الكبرى ومن ثم بإلزامها بتعويضات مالية فادحة استنزفت موارده وقوى شعبها، واحتل الحلفاء من اجل ذلك بعض مناطق الرين الألمانية مدى أعوام، وجردت ألمانيا من جميع مستعمراتها. واستمر الحلفاء بعد الحرب مدى أعوام يعاملون ألمانيا بمنتهى العسف والشدة والكبرياء؛ ولم يكن لألمانيا في تلك الأعوام العصيبة سلاح تشهره للمقاومة أو الاحتجاج المجدي ولم يكن في وسعها إلا التسليم واللاذعان في معظم الأحوال
لبثت ألمانيا مدى أعوام وهي تتخبط في غمر من الصعاب والأزمات الفادحة. ثم كانت نكبة هبوط المارك سنة 1923، وجاء التضخم النقدي كالسيل فقضى على معظم الثروات، وقضى على الطبقات الوسطى بنوع خاص، ودفعها إلى حضيض البؤس والفاقة، وبث إلى التعامل فوضى لم يسمع بها؛ وهبت على الشعب الألماني ريح قوية من الدمار واليأس كادت تذهب بما بقى له من أمل وقوى معنوية وكانت الدعوات الثورية التي تثب دائماً في غمر اليأس والانحلال تعمل من جهة أخرى عملها، فاشتد ساعد الشيوعية، واخذ شبح البلشفية يساور ألمانيا ويهدد مصايرها، وكان الشعب الألماني في تلك الأيام السود يعيش في نوع من الاستسلام لا يكاد يرى طريقا للخلاص من هذه المصائب المتعاقبة والظلمات الكثيفة
ولكن ألمانيا استطاعت منذ سنة 1924 أن تشعر بشيء من الأمل والثقة، ذلك أن الحلفاء أنفسهم أدركوا أن العمل عل إرهاق ألمانيا وخرابها لا يعاون ألمانيا على الوفاء بشروط الصلح بل يدفعها إلى براثن البلشفية المتحفزة. والبلشفية خطر داهم على كل الدول الغربية. وألمانيا هي حاجزه من الشرق. ثم أن فرنسا اقتنعت مذ أقدمت على احتلال وادي الروهر في خريف سنة 1923 لكي ترغم ألمانيا على أداء أقساط التعويضات، أنها ارتكبت خطأ فادحا ولم تفعل سوى أن أثارت في المانيا التي جنحت عندئذ إلى المقاومة السلبية روحا جديدا من النضال والتضامن، وان باقي الحلفاء ولاسيما إنجلترا لا يؤيدونها في هذه السياسة العنيفة، وإنها ستتحمل وحدها تبعات سياسة خطرة، وهنا تبدأ مرحلة جديدة في تاريخ ألمانيا المعاصر، وتنحسر الظلمات من حولها نوعا، وتجد في تلك الآونة العصبية رجلها المنقذ في شخص الدكتور جوستاف شتريزمان الذي تولى رآسة الحكومة عندئذ (أغسطس سنة 1923) ثم غادر الرآسة بعد قليل ليتولى وزارة الخارجية في الحكومات المتعاقبة مدى أعوام. وكان شتريزمان سياسيا وافر البراعة، استطاع أن يقود ألمانيا خلال هذه الغمار الكثيفة بذكاء وجلد، وان يحررها من كثير من فروض معاهدة الصلح، وكانت مسألة مسئولية الحرب التي سجلت على ألمانيا في معاهدة فرساي واتخذت أساسا لفرض التعويضات والمغارم الفادحة علها موضع الجدل المستفيض، وكانت الوثائق والمذكرات والبحوث المختلفة في ألمانيا وإنجلترا وأمريكا تلقي عليها الضياء تباعا، ويبدو للرأي العالمي شيئا فشيئاً ان القول بمسئولية ألمانيا وحدها عن إثارة الحرب، نظرية خاطئة مغرضة، فكان الأساس الذي بني عليه إلزام ألمانيا بتعويضات الحرب ينهار شيئا فشيئاً، وبذا أعيد النظر في مسألة التعويضات وسويت لأول مرة بمشروع داوز ثم بمشروع يونج، وكانت ألمانيا تظفر في كل خطوة بتخفيضات وتسهيلات جديدة، ولكن المغارم التي بقي على ألمانيا أن تؤديها لبثت مع ذلك فاتحة تحطم موارد أغنى الشعوب. وفي سنة 1925، انتهت جهود شتريزمان الجلدة إلى عقد ميثاق لوكارنو بين ألمانيا وفرنسا وإنجلترا وإيطاليا وبلجيكيا وبه ضمنت سلامة فرنسا وحدود ألمانيا الغربية كما قررتها معاهدة الصلح ضمانا متبادلا تشترك في تأييده كل الدول الموقعة، أكدت ألمانيا بذلك إنها تركت التفكير نهائيا في مسألة الألزاس واللورين وصفا الأفق الدولي بذلك نوعا، ودخلت ألمانيا عصبة الأمم في سبتمبر سنة 1926 - وجلست في كرسيها الدائم إلى جانب أعدائها بالأمس، وبدأ عهد جديد من التفاهم والتقرب من بين فرنسا وألمانيا، وكان شتريزمان رجل ألمانيا في تلك المراحل، كما كان استريد بريان رجل فرنسا. وكان كلا السياسيين العظيمين يؤمن بقضية السلام وعقد الوفاق والتفاهم بين الأمتين. واستمرت هذه السياسة حتى توجت بظفر جديد لشتريزمان: هو حمل فرنسا على الجلاء عن مناطق الرين المحتلة في خريف سنة 1929 قبل الموعد الذي حددته المعاهدة. وكان ذلك آخر ظفر للسياسي العظيم، إذ توفي بعده بقليل في أكتوبر سنة 1929
وكانت وفاة شتريزمان خسارة فادحة لألمانيا إذ فقدت بذهابه اعظم سياسي أخرجته بعد الحرب وضربة جديدة لسياسة الوفاق والتفاهم التي جرت ألمانيا عليها مدى أعوام وجنت ثمارها كما تقدم. وقد حاول الساسة الذين خلقوا شتريزمان في تولي مصاير ألمانيا مثل فون ملير زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي ثم بريننج، ان يتابعوا سياسته ولكن دون نجاح.
أولا لان حالة الاستقرار النسبي الذي تمتعت به ألمانيا بضعة أعوام اخذ يضطرب نظراً لاشتداد ساعد الحركات والأحزاب المعارضة لهذه السياسة، وتفكك الأحزاب التي تناصرها، ونهوض الحركة الوطنية الاشتراكية بالاخص، وثانيا لان نفوذ بريان في فرنسا اخذ في الضعف، أخذت الجبهة التي كانت تناصره تشعر بعقم سياسته أخذت الجبهة العسكرية القوية من جهة أخرى تقاوم كل تساهل جديد مع ألمانيا، وتندد بخطر هذه السياسة على سلامة فرنسا. وتفي بريان بعد ذلك بعامين (أوائل سنة 1933) وكان اضطراب أفق السياسة الأوربية يزداد شيئاً فشيئاً. وظهرت ميول ألمانيا قوية في التحرر من أغلال معاهدة الصلح في مسألة التعويضات. ونزع السلاح، ومسائل الحدود التي تعتبرها ألمانيا جوهرية، لسلامتها، أصرت فرنسا على التمسك بنصوص المعاهدة بحجة المحافظة على سلامتها، وبدأ عهد من النضال الواضح بين الدولتين هو الذي نشهده اليوم في ذروة عنفه وأهميته.
هذه خلاصة موجزة لتاريخ ألمانيا بعد الحرب، وهذه هي نفس الحوادث والظروف التي نشأت في مهادها الحركة الوطنية الاشتراكية. فمنذ نوفمبر سنة 1918، أعني مذ نشبت الثورة التي انتهت بإعلان الجمهورية واختفاء الإمبراطورية من الميدان. وقيام الحكومة الشعبية الأولى برآسة ايبرت لتقبل شروط الهدنة؛ ومذ عقدت الجمعية الوطنية في فيمار (6 فبراير سنة 1919) لتضع دستوراً ديمقراطيا لالمانيا؛ ظهرت في الميدان أقلية تصم بالخيانة العظمى تلك الكتلة الاشتراكية الديمقراطية التي أيدت الثورة واستولت على مقاليد الحكم، وقبلت الهدنة ثم معاهدة الصلح. وكان قوام هذه الأقلية بالأخص جمع من القادة والضباط القدماء أنصار الإمبراطورية: وكانت أثناء تلك الأزمات العصيبة التي غدت ألمانيا فيها فريسة الحرب الأهلية بين الديمقراطيين والشيوعيين بينما كان العدو الظافر يملي عليها شروطه ويثقل كاهلها بفروضه وأغلاله، ترقب مصاير ألمانيا في غمر من الحسرات واليأس؛ ولم تكن يومئذ قوية ولا ومنظمة، ولكنها كانت منذ الساعة الأولى تتلمس السبل لإنقاذ ألمانيا مما اعتقدت أنه منحدر الخطر والانحلال. وكان مركزها بالأخص في بافاريا، في مدينة ميونيخ التي لم يجرفها تيار الدعوة الاشتراكية كما جرف العاصمة البروسية (برلين). وكان التمزق الذي يسود جبهة اليسار (الديمقراطية والشيوعية) يفسح بعض الأمل لهذه الجبهة (الوطنية) الناشئة. ففي مارس سنة 1920 بدأت أول محاولاتها على يد الجنرال فون لتفتز والدكتور فون كاب واستولت على مقاليد الحكم، ولكنها لم تثبت سوى أيام قلائل؛ وفشلت هذه الوثيقة الأولى ولكنها كانت بداية ذلك الصراع الذي شهرته الجبهة الوطنية المحافظة على الجمهورية الفتية؛ وكانت بالأخص دليلا على أن الجمهورية ليست من المناعة بحيث يستحيل غزوها وتحطيمها.
وكان بين الجماعات الوطنية المحافظة التي اتخذت ميونيخ مركزاً لها، حفنة من الرجال المغمورين عرفت باسم (حزب العمال الألماني) وزعيمها صف ضابط فتى يدعى (ادولف هتلر). وكانت تضم ستة رجال فقط في سنة 1919 حين انضم إليها هتلر. ويقول لنا هتلر في كتابه (جهادي)، انه حين هبط ميونيخ في ذلك الحين لم يكن ينوي أن ينظم إلى أي حزب قائم، بل كان يريد أن يؤسس لنفسه حزبا جديداً، ولكنه انضم إلى هذه الجماعة المتواضعة، وغدا منظمها وزعيمها ومن ذلك الحين يظهر اسم هتلر على مسرح التاريخ الألماني المعاصر، كزعيم وداعية وطني متطرف، وتسير عصبته المغمورة إلى ميدان الحوادث والظهور، وتزداد في العدد والنفوذ بسرعة، وتشق طريقها بعزم وجلد
ويجب قبل أن نتقدم في تتبع هذه الحركة الوطنية المحافظة أن نعرف القارئ بادولف هتلر، ذلك الفتى المغمور الذي شاء القدر أن يغدو اليوم زعيم المانيا، وسيدها المسيطر على مصايرها
ولد أودلف هتلر سنة 1889 في بلدة براونا ومن أعمال النمسا العليا على مقربة من الحدود البافارية في أسرة نمسوية متواضعة، فهو إذن نمسوي الجنس والنشأة. وكان أبوه موظفا صغيراً في الجمارك، فتلقى تربية عادية. وتوفي والداه قبل أن يتجاوز الحداثة. وفي السابعة عشرة ألقت به يد القدر إلى العاصمة النمسوية فنزل بها وحيداً بائساً لا عائل له، أو على قوله: (لا يحمل سوى حقيبة من الملابس، ولكن يحمل في قلبه عزما لا يقهر) وأراد هتلر أن يدرس التصوير فلم يوفق لفقره؛ ورمت به المقادير إلى صناعة البناء يدرسها ويكسب منها قوته: فاشتغل مدى حين صبي بناء يعيش في ضعة ومسغبة، فلما لم يبسم له الحظ في العاصمة النمسوية، نزح إلى ميونيخ يبحث وراء طالعه؛ ولما نشبت الحرب الكبرى التحق بفرقة بافارية بإذن خاص من حكومته. وقاتل مع الجيش الألماني في الميدان الغربي، وظهر بأقدامه وشجاعته وكوفئ بوسام (الصليب الحديدي). وأصيب في أواخر الحرب من الغازات الخانقة فحمل عليلا إلى ألمانيا: ولزم فراشه حتى انتهت الحرب وعقدت الهدنة. ويقول لنا هتلر انه بكى حزنا وتأثرا حينما سمع بخبر الهدنة. كما أنه شكر الله حين نشبت الحرب، وما كاد يبرأ من علله حتى عاد إلى ميونيخ وانضم إلى أولئك الستة الذين أطلقوا على أنفسهم (حزب العمال الألماني)، فلم يلبث أن غدا قائدهم وزعيمهم، واتخذ للجماعة اسما آخر هو (حزب العمال الوطني الاشتراكي الألماني)
محمد عبد الله عنان