الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 259/تأملات في الأدب والحياة

مجلة الرسالة/العدد 259/تأملات في الأدب والحياة

مجلة الرسالة - العدد 259
تأملات في الأدب والحياة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 20 - 06 - 1938


للأستاذ إسماعيل مظهر

الشعر والمادة

إن بين كثير من الأمور النفسية والعاطفية، وبين كثير من الماديات تقابلاً، حتى يخيل إليك أن الأشياء النفسية والعاطفية كأنها ماديات تحولت أشياء معنوية، أو كأن الماديات أشياء معنوية استحالت جمادات

من ذلك أن بين الشعر والمادة تطابقاً من حيث أن لكل منهما (ماهية) لم يتوصل العلماء إلى معرفتها في المادة، ولم يتوصل الأدباء والنقاد إلى معرفتها في الشعر. فإذا قيل مثلاً إن الأشياء الظاهرة في المادة إنما هي أعراض ينبغي أن يحملها جوهر فيه تكمن الماهية، فكذلك يستطاع أن يقال في الشعر إن كل الصفات التي يقول الأدباء والنقاد إن من الواجب أن تتوفر في الشعر حتى يحكم عليه بأنه جيد، إنما هي أعراض يحملها جوهر فيه تكمن ماهية الشعر

فإذا كان اللون والحجم والوزن والطول والعرض والثقل وما إلى ذلك جميعها أعراض ينبغي لكي تظهر لحواسنا أن تكون محمولة في جوهر ذي ماهية خاصة؛ وإذا كان الوزن والقافية واللفظ والصناعة والمعنى والخيال وما إلى ذلك جميعها أعراض يحملها جوهر، ما تلك إلا تعبيرات عنه ودلالات عليه، إذن فأين المادة وأين الشعر؟

أليس في مثل هذا التقابل بين الماديات والعاطفيات النفسية، مواضع للتأمل ومواطن للاستبصار؟

شاعرية الألفاظ

ما أقوى العلاقة القائمة بين الشعر وبين الحالات النفسية! وعندي أن التأثر النفسي بالشعر أقوى الأسباب التي تدعونا إلى نقد الشعر. ذلك بأن المعايير النقدية التي يخضع الشعر لسلطانها، على اختلافها وتباينها، تتضاءل جميعاً إذا قيست بالمعيار النفسي. على أن للمعيار النفسي في نقد الشعر عوامل كثيرة، منها الموسيقى المستمدة من القافية والروى، ومنها قوة الخيال، ومنها الاتجاه الذي يتوجه فيه الشعر إلى غير ذلك، وجميعها ع تؤثر في المعيار النفسي في نقد الشعر. غير أن أقوى هذه العوامل تأثيراً معيار النقد النفسي للشعر، إنما ينحصر في شاعرية الألفاظ

فقد نسمع من كثير من النقاد أن هذا الشاعر بارد الأنفاس، وأن ذاك ماهر في اختيار الألفاظ، من غير أن نحدد المعنى المقصود من أمثال تلك العبارتين تحديداً يرضاه المنطق وتقره طبيعة العقل، إذ هي ترمي دائماً إلى تحديد معنى لكل لفظ مفرد، وإلى تحديد معنى لكل عبارة تكونت من ألفاظ. فإذا أردنا أن نجدد ما يقصد من عبارات تجري بها في العادة أقلام النقاد والكتاب، وجب أن نرجع بها إلى أصولها النفسية، حتى نستطيع أن نفسرها تفسيراً منطقياً يقبله العقل وتقره ما فينا من طبيعة الميل إلى تحديد كل المعاني التي نتخذ الألفاظ والعبارات وسيلة إلى التعبير عنها

والواقع إننا نقول إن شاعراً بارد الأنفاس، وإن آخر غير ماهر في اختيار الألفاظ، إنما نعبر بهذا عن حقائق نفسية، تنزل من أنفسنا منزلة ابعد الأشياء الدساساً في أغوار الفطرة. فقد نعلم أن من الحقائق النفسية ما دعاه النفسيون: (تداعي الأفكار). فان اللفظ الجميل المعني يدعو إلى الفكر دائماً كل المعاني الجميلة التي تلابسه أو تقاربه، ولفظاً قبيحاً أو محزناً يدعو إلى الفكر كل المعاني التي تدانيه أو تمت إليه بسبب من الأسباب. مثل ذلك إذا قلت: (الشاطئ المخضوضر) دعت هذه العبارة إلى ذهنك كل المعاني الجميلة التي تلابسها. فالنهر المنساب والماء الصافي والظل الوارف وصوادح الطير والرضا النفسي والأخذة الروحية، كل هذه المعاني تواتيك غير مختار لمجرد أن العبارة الأولى قد حملها وعيك فدعا معها جميع المعاني التي ترتبط بها وجميع الملايسات المرحة الجميلة التي تلازم الشاطئ المخضوضر. وإذا قلت القبر الصامت - أو - (الصحراء المجدبة) دعت هذه العبارة إلى وعيك جميع المعاني المحزنة التي تلابس القبر والصحراء المحزونة الصَّماء.

هذه الحقيقة النفسية لها في نقد الشعر أعظم الأثر. فان لفظاً جميل المعنى حسن الملابسات يدعو إلى الذهن شتى المعاني الأخاذة الجذابة، إن ورد في سياق الشعر أحدث في النفس شعوراً بالرضى والجمال وزاد إلى موسيقى الشعر القائمة على جمال الوزن والقافية، موسيقى نفسية تزيد الشعر تأثيراً في النفس، وتفتق الخيال، فيشرف الوعي من خلال ذلك اللفظ على آفاق من الجمال اللامتناهي تزيد من قيمة الشعر بقدر ما يكون لألفاظه من أثرِ في استدعاء ألوان الجمال أو التأمل أو العِطة أو الحكمة إلى غير ذلك. وعكس هذا تماماً ما يحدثه لفظ رديء الملابسات فاسد المعنى. وهذا ولا شك ما يقصد النقاد إذ يقولون بأن الألفاظ شاعرية. على أن شاعرية الألفاظ إنما يحددها دائماً استعمال اللفظ في حيث ينبغي أن يستعمل فيكون مطابقاً دائماً لمقتضى الحال.

الشرق والثورة

حدثني صديق ممن تجمعني به ذكريات عزيزة ذكريات الثورة المصرية، عندما كانت أنفاساً حارة كاللهب المضطرم، وكانت أرواحنا مشبوبة كاللظى المتأجج. لهيب الشباب ولظى الفتوة. لم يكن عهد الكهولة قد أصاب شيئاً من تأملنا أو حفزنا بعد إلى اللجوء إلى قواعد المرجحات العقلية التي هي عندنا اليوم أشبه شيء بقانون المرجحات الرياضية، فما أن نرضيها وأما أن نعتقد أننا على غير صواب، وإننا إلى الشطط أقرب. حدثني ذلك الصديق عن الشباب وعن أيام الجهاد المستمر والسعي المتجدد في سبيل إذكاء روح الثورة في نفس الجماهير، وذكرني بما كان لنا من مواقف نعجب الآن كيف خرجنا منها وفينا نفس يردد أو عرق ينبض. كيف لم يحصدنا الرصاص. وكيف لم تسل نفسنا على شفرات السيوف؟ كيف هزأنا بالموت غير مقدرين أن الموت كان أقرب إلينا من حبل الوريد أشهراً طوالاً بل أعواماً، وكيف خلصنا من جميع هذا بأرواحنا سليمة وجسومنا لم يصبها كلمٌ واحد!

قلت له في خلال الحديث ما أشهى تلك الأيام! فان للمخاطرة بالروح لجمالاً لا يدركه الإنسان إلا بعد أن يفوز بالسلامة. ذلك جمال أشبهه بجمال الفقر الذي لا يدركه الإنسان إلا بعد أن يلوذ بالغنى. ولعل الأمر على عكس ما يخيل إلينا؛ ولعل الواقع أن المخاطرة والنقد ليس فيهما من جمال، وأن ما نستشعر من جمال فهما بعد الفرار من آصارهما قد يكون جمال الذكريات الماضيات إذ تحيي في النفس جزءاً من ماضيها، وتطبعها بطابع كاد يبلى على الأيام. قلت لصديقي من لنا يمثل تلك الأيام؟

قال الصديق: نعم نحن في احتياج إلى ثورة. إلى ثورة طاحنة تمضي بكل ما يقف في طريقها، وتأتي على كل ما يقاومها؛ ثورة شيطانية لا عقل فيها؛ ثورة مبرأة من الرشاد والحب والنهي. ثورة طائشة مجتاحة تأكل الحرث والنسل؛ ولكنها ثورة لا تنال من الجسوم ولا من الحطام؛ ثورة لا شأن لها بنظام قائم ولا بحكومة ولا بجيش ولا بأسطول؛ ثورة منزهة عن السيف والمدفع، وعن المدية والخنجر؛ ثورة لا يقوم بها جمهور من الناس ولا جماعات منهم؛ بل ثورة فردية يشنها كل فرد منا على نفسه؛ ثورة نفسية يتسلح فيها كل فرد منا بالإرادة ويروح يهدم من أخلاقه ومن ميوله ومن نزعاته التي كونها فينا تاريخنا القديم؛ ثورة تقتل فيها الإرادة حبنا للسلامة وتواكلنا على الأقدار وصمتنا عن الحق والحق مهضوم مأكول، كأنما قد أصبحنا جميعاً شياطين خرساً، والساكت عن الحق شيطان أخرس؛ ثورة تحطم مُثُلُنا الأخلاقية القديمة، لتتبدل بها مُثلاً عليا من تلك المثل التي قادت أوائلنا بجيوشهم ومدنيتهم وعلومهم من شاطئ بحر الظلمات إلى جوف الصين

وكان صديق يتكلم متهدَّج الصوت منفعل النفس ثائر الوجدان. فلما فرغ من حديثه، شملنا صمت عميق ظل يسود مجلسنا حتى افترقنا لم يجر لساننا بكلمة واحدة

الطغرائي الشاعر

هو من أفذاذ الشعراء، ومن أهل البيان الذين يشار إليهم بالبنان. أنكره أهل زمانه على القاعدة السائدة في هذه الدنيا. وليس في ذلك عجب؛ ذلك بأن نكران الأفذاذ في زمانهم سنة أهل الشرق منذ أقدم عصورهم. وهذا الطغرائي على جلالة قدره يقول:

مالي وللحاسدين؟ لا برحت ... تذُوب أكبادهم وتنفطر

يغتابني عند غيبتي نفرٌ ... جباههم إن حضرت تنعفرُ

ألسنة في إساءتي ذُلقٌ ... يقتادها من مهابتي حصر

أنام عنهم ملء الجفون إذا ... أثارهم في المضاجع إلاَبر

يكفيهم ما بهم إذا نظروا ... إلىَّ ملَء العيون لا نظروا

تغيظهم رتبتي ويكمدهم ... جاهي فصقوى عليهم كدَر

فنعمة الله وهي سابغة ... عندي من الحاسدين تنتصر

يعجبني أنهم إذا كثروا ... قَلُّوا غناءً وإن هم كثروا

وليس من عجب في أن يحقد جماعة على الطغرائي في زمانه، وليس من عجب في أن يقول فيهم الطغرائي هذه الأبيات وأكثر منها مما يتضمن ديوانه. ولكن العجب في أن يُهمل الطغرائي في زماننا فلا يتناوله كاتب ينقد ولا يذكره أديب يبحث، كأن هذا الشاعر العظيم من مطويات الأدب، تلك التي تطوي فلا تنشر، وتنسى فلا تذكر. ذلك في حين أن المتأمل في شعر هذا الرجل الفذ يدرك فيه سراً قلما تقع عليه في غيره من الشعراء: لا في شعراء عصره ولا في الشعراء الذين تقدموه، ولا في الشعراء الذين تلوه. وعندي أن هذا السر لا يشاركه فيه إلا شاعر واحد هو أبو العلاء المعري. أما ذلك السر فهو الجمع بين قوة الشاعرية ودقة الإحساس وصادق الوجدان وبين هدوء الطبع. أما إن ذلك سر من أسرار العظمة في الطغرائي، بل لا نبالغ إذا قلنا إنه سر عظمته، فذلك بأن الشعر عاطفة وخيال وحركة نفسية جياشة دافقة سيالة، فإذا حكم هذه الصفات هدوء نفس طبيعي، صفا الشعر ورق وأتساب انسياب الجدول المترقرق الهادئ، ولكنه في ترقرقه وهدوئه حادُّ كالسيف قاطع كالفأس الباترة المحدودة

وأبو العلاء المعري إن شارك الطغرائي هذا السر، فلا شك في أنه في نفسية الطغرائي أرس وأذهب في الوجدان. فان أبا العلاء شاعر حكيم بطبعه متشائم بفطرته. حمل على المرأة وطغي على الإنسانية، حتى لقد أراد أن يهدم كل قائم من غير أن يعرف كيف يقيم غيره، وأن يدرك كل أساس عملي في الحياة من غير أن يرسم للحياة طريقاً جديداً. ذلك على العكس من الطغرائي فانه عاش مع المرأة واندفع في غمرات الحياة وشرب من أفاويقها حلوة ومرة، فكان من صميم أهل الدنيا. فإذا لازم أبا العلاء شيء من هدوء الطبع ظهر أثره في شعره فذلك طبيعي بمقتضى النشأة والاتجاه الفكري. أما أن يلازم الطغرائي ذلك الهدوء وتحكمه تلك الطمأنينة، وهو بعد مغمور في الحياة محب لها هائم بمباهجها لَمَّاحٌ لما فيها من مغريات ومفاتن، فذلك سر من العظمة لا تألفه في الشعراء

ولقد يظهر أثر هذا السر في مرئياته، وهي أبعد الأشياء عن أن يلزم فيها شاعر هدوء نفسه وطبعه فلا يغلب عليه خيال جماح إلى غايات من الشعر يسبح من خلالها الشاعر في عالم الخيال البعيد المعلق بآفاق الوهم القصية. وله في الرثاء مقطوعة رثى بها عزيزة عليه، تلمح من خلالها مقدار ما لاقى في فراقها من لوعة عميقة الأثر بالغة الخطر، ولكنك تلمح فيها أيضاً ذلك الهدوء النفسي الذي يبلغ من قرارة نفسك مبلغاً لا تبلغه ثورة الشعر:

ولم أنسها والموت يقبض كفها ... ويبسطها والعين ترنو وتطرق وفد دمعت أجفانها فوق خدها ... جني نرجس فيه الندى يترقرق

وحلَّ من المقدور ما كنت أتَّقى ... وُحمَّ من المحذور ما كنت أفرق

وقيل فراق لا تلاقي بعده ... ولا زاد إلا حسرة وتحرق

فلو أن نفساً قبل محتوم يومها ... قضت حسرات كانت الروح تزهق

هلال ثوي من قبل أن تم نوره ... وغصن ذوى فينانه وهو مورق

فواعجبا أَنَّي أحم اجتماعنا ... ويا حسرتي من أين حلَّ التفرق

أحنُّ إليها إن ترَاَخي مزارها ... وأبكي عليها إن تداني وأشهق

وأبلس حتى ما أبين كأنما ... تدور بي الأرض الفضاء وأصعق

وألصقها طوراً بصدري فأشتفي ... وأمسحها حيناً بكفي فتعبق

وما زرتها إلا توهمت أنها ... بثوبي من وجدي بها تتعلق

وأحسبها والحجب بيني وبينها ... تعي من وراء الترب قولي فتنطق

وأشعر قلبي اليأس عنها تصبرا ... فيرجع مرتاباً به لا يصدق

هذا شعر صادق الدلالة على الحقائق التي أحاطت بالشاعر وعلى الاحساسات التي اختلجت بها نفسه. قد تكون فيه لمحات من شعر الرثاء في شعر غيره من الشعراء؛ ولكن فيه إلى جانب هذا سر جديد عليك. ذلك ما تدرك من هدوء هذه النفس الثائرة كأنما ترى أرضاً انبسطت ونما فوقها العشب وغشتها الأزاهير، وأنت تسمع من تحتها دوي البراكين وهمهمة الزلازل تغلي في باطنها

ولقد حاولت أن أطلق على هذه الظاهرة العجيبة في شعر الطغرائي اسماً أميزها به، فلم أجد اسماً أطلقه عليها أجدر بها من أن ندعوها (الواقعية الشعرية) فإنها والحق يقال أقرب الأشياء فهماً مما ندعوه (الواقعية في الفلسفة) على أن المقارنة بين واقعية الشعر وواقعية الفلسفة يحتاج إلى فراغ ليس هذا مكانه، أما إذا أردت أن تقف على طرف مما ذكرت فاقرأ له المقطوعة الآتية:

أقول لنِضْوي وهو من شجني خلو ... حنانيك قد أدميت كلمي يا نضو

تعالي أقاسمك الهموم لتعلمي ... بأنك مما تشتكي كبدي خلو

تريدين مرعى الريف والبدو أبتغي ... وما يستوي الريف العراقي والبدو هناك نسيم الريح مثلك لاغبٌ ... ومثلي ماء المزن مورده صَفْو

ومحجوبة لو هبت الريح أرفلت ... إليها الغياري بالعوالي ولم يلْووا

صبوت إليها وهي ممنوعة الحمى ... فحتىَّ مَ أصبو نحو من لالهُ نحو

هوى ليس يسلي القرب عنه ولا النَّوَى ... وشجو قديم ليس يشبهه شجو

فأسر ولا فك، ووجد ولا أُسىً ... وسقم ولا برء، وسكر ولا صحو

عناء معنى وهو عندي راحة ... وسم زعاف طعمه في فمي حلو

ولولا الهوى ما شاقني لمح بارق ... ولا هدني شجو ولا هزني شدو

إن في هذا الشعر لثورة يخيم عليها هدوء نفسي قلما تأنسه في شاعر غيره. وعندي أن هذه الصفة لم تتجلَّ في شعر الطغرائي بقدر ما تجلت في لاميته المعروفة، وإن لنا لعودة إليها تحلل فيها هذا الشاعر الكبير على ضوء هذه الحقيقة الملموسة في شعره. ولقد يحفزنا إلى درس الطغرائي أنه شاعر فسيح الجوانب مديد الغايات وفي شعره تعلق بأسباب الأدب العالي، وما أحوجنا إلى هذه الأسباب

إسماعيل مظهر